اقتباس
وما من شكٍ أن من حقِ الناسِ على الدعاةِ عامة والخطباء خاصة في كلِ عصرٍ ومِصرٍ أن يبينوا لهم أصولَ دعوتِهم، وأن يُجلوا لهم عظيمَ غايتِهم وأن يوضحُوا لهم نبيلَ أهدافِهم وصحيحَ وسائلِهم، إذ بقدر وضوحِ الأهدافِ والغاياتِ وصحةِ الأصولِ ومشروعيةِ الوسائلِ تتحققُ الاستجابةُ وينتفعُ بالذكرى. وفي هذه الكلماتِ المختصرةِ تحديدٌ لأهمِ تلك الأصولِ والمنطلقاتِ التي ينبغي أن تنطلقَ منها الدعوةُ إلى اللهِ تعالى للإصلاحِ والتغييرِ وفق منهجِ أهلِ السنةِ والجماعةِ ..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الدعوة إلى الله تعالى من أعظم القربات وأجل المهمات فهي وظيفةُ الأنبياءِ والرسل اختارَ اللهُ لها صفوةَ خلقه وكلفهم بإبلاغ دينه إلى أممهم. وهيأهم لحمل هذه المهمة: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124].
وقد ختمهمْ بأفضلَ أنبيائه وأكرمَ رسله نبينا محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلم ولخص له هذه المهمةَ في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب:47].
وأخبر أن الدعوةَ إلى الله تعالى هي وظيفتُه ووظيفةُ أتباعه من بعدِه فقال سبحانه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة يوسف: 108].
ورسم له منهج الدعوة وأسلوب البلاغ، فقال عز وجل: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [سورة النحل:125].
ومدحَ القائمينَ بها وأثنى عليهم وأخبر أنهم يمارسون أفضل عمل فقال سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [سورة فصلت :33].
وأخبر صلى الله عليه وسلم بعظم الثواب فقال: « مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا » (1).
وأفضلُ الخلقِ بعد المرسلين الذين يقومون مقامَهم بالدعوةِ والتذكيرِ ويخلفونَهمُ بالبشارةِ والنذارةِ والتبليغِ في أقوامِهم، يُصلحون من أمر الدينِ ما فسد، ويحيون من معالمِ السننِ ما اندثرَ، هم أولى الناسِ بالنبيين وأحرى الورى بدعاء إمام المصلحينَ صلى الله عليه وسلم بنضارةِ الوجوهِ والفقهِ في الدين، أولئك الأقلونَ عددًا، والأعظمونَ عند اللهِ أجرًا، فتح اللهُ بهم قلوبًا غلفًا، وبصَّرَ اللهُ بهم أعينًا عُميًا وأسمع اللهُ بهم آذانًا صمًا، يسوقونَ الحياةَ والأحياءَ إلى اللهِ تعالى سوقًا رفيقًا يوقظون نوازع الخيرِ ويزكونَ وازعَ التقوى.
أولئك الدعاةُ إلى الله تعالى من صفاتِهم أنهم على بصيرةٍ بالإسلامِ عقيدةً وشريعةً علمًا وعملاً دينًا ودولةً وبصيرةٍ بالدعوةِ إلى اللهِ بأصولِها ووسائلِها ومعوقاتِها على بصيرةٍ بالناسٍ أيضًا على تنوع أصنافِهم.
يقيمون بنيانَ دعوتِهم على أصولٍ راسخةٍ ومنطلقات ثابتة وملامحَ وسمات بينة يهتدون بهدي الأنبياءِ في الدعوة عامة ويقتفونَ أثر المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابِه خاصةً يحققون توحيداً وإخلاصاً وينشرونَ علمًا وفقهًا ويقيمونَ معروفًا ويهدمون منكرًا ويجاهدون عدوًا ويجمعون الدينَ علمًا وعملاً.
فالدعوةُ إلى اللهِ تعالى شرفٌ لمن وفقَ لها، ولمن أخذها، فلا غروَ أن يُرغّبَ فيها، وأن يَتنافسَ في ميادينِها المتنافسونَ؛ طلبًا لهذا الشرفِ العظيمِ، فالمختارونَ لها هم ساداتُ الأمةِ وفضلاؤها.
وما من شكٍ أن من حقِ الناسِ على الدعاةِ عامة والخطباء خاصة في كلِ عصرٍ ومِصرٍ أن يبينوا لهم أصولَ دعوتِهم، وأن يُجلوا لهم عظيمَ غايتِهم وأن يوضحُوا لهم نبيلَ أهدافِهم وصحيحَ وسائلِهم، إذ بقدر وضوحِ الأهدافِ والغاياتِ وصحةِ الأصولِ ومشروعيةِ الوسائلِ تتحققُ الاستجابةُ وينتفعُ بالذكرى.
وفي هذه الكلماتِ المختصرةِ تحديدٌ لأهمِ تلك الأصولِ والمنطلقاتِ التي ينبغي أن تنطلقَ منها الدعوةُ إلى اللهِ تعالى للإصلاحِ والتغييرِ وفق منهجِ أهلِ السنةِ والجماعةِ.
الأصلُ الأولُ: العقيدةُ
فالعقيدة هي الأصل الأول الذي ينبغي أن ينطلقَ منه الدعاةُ إلى الله تعالى وهي أهم تلك الأصول والمراد بها عقيدةُ أهلُ السنةِ والجماعةِ.
إن توحيدَ اللهِ تعالى وإفرادِه بالعبادِة هو غايةُ خلقِ العالمين وهو أصلُ دعوةِ الرسلِ أجمعين وهو أولُ ما يخاطبُ به الناسَ من أمورِ الدين وهو سببُ العصمةِ في الدنيا والنجاةِ في الآخرةِ وهو شرطٌ لصحةِ وقبولِ سائرِ الطاعاتِ.
فالدعاةُ إلى اللهِ تعالى يجعلون الدعوةَ إلى العقيدةِ الصحيحةِ والتوحيدِ الخالصِ أولاً ودائما وقبلَ كلِ شيءٍ ويوجهون جهودَهم إلى تبصيرِ الناسِ كيف يوحدونَ ربَهم وكيف يخلصون دينَهم للهِ تعالى.
والانتماءُ لهذه العقيدةِ والدعوةِ إليها يعني اعتقادَها والتحركَ بها وليس مجردَ العلمِ والاقتناعَ النظري الجافِ، والكلامُ في هذا الأصلِ يتضمن ثلاثةَ جوانب:
الجانبُ الأولُ: سلفيةُ هذه العقيدة فهي تقومُ على المنقولِ والمأثورِ من كتابِ اللهِ تعالى وصحيحِ السنةِ والأثرِ، وهي عقيدةُ الصحابةِ والتابعينَ، وسلفِ الأمةِ الصالحينَ ومن تبعِهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، والتعويلُ على إجماعِهم واتفاقِهم في هذا البابِ فهم أعمقُ علماً بمعانِيها وأدقُ فهمًا لمرامِيها وأقلُ تكلفًا في العملِ بما فيها وأبعدُ عن الخلافِ والافتراقِ في أصولِها وقواعدِها ومن لوازمِ ذلك:
-التسليمُ والتعظيمُ لقولِ اللهِ تعالى وقولِ رسولِه صلى الله عليه وسلم الذي يعينُ على تجاوزِ الخصومةِ المفتعلةِ - ظلماً أوجهلاً – بين صحيحِ النقلِ وصريحِ العقلِ فإن بدا ما ظاهرُهُ التعارضُ بين العقلِ والنقلِ فمرده إلى الوهمِ في قطعيةِ أحدهما ثبوتاً أو دلالة فإن العقلَ الصريحَ لا يناقضُ النقلَ الصحيحَ، فمن اللهِ عز وجل العلم، وعلى الرسولِ البلاغ، وعلينا التسليم، وكما قال بعضُ السلفِ: (قدمُ الإسلامِ لا تثبتُ إلا على قنطرةِ التسليمِ) (2)
- تحقيق توحيد العبادة وذلك بإفراده تعالى بالعبادة والبراءة من كل ما عبد من دون الله واعتقاد تفرده تعالى بالأمر والحكم كما تفرد بالإيجاد والخلق قال تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [الأعراف:54]فلا حلال إلا ما أحله الله ولا دين إلا ما شرعه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
- اعتقاد أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأن أصل الإيمان تصديق الخبر والانقياد للشرع، وكماله الواجب بفعل الأركان والواجبات، وترك الكبائر والمحرمات، وكماله المستحب بفعل المندوبات وترك المكروهات والورع عن الشبهات.
- ومن لوازم سلفية العقيدة بيان أن العبادات توقيفية، وسد ذرائع الابتداع والإحداث في الدين.
الجانب الثاني: شمولية العقيدة ونعني بها عدم الاقتصار على طلب علمها وممارسة أعمالها والتحقق بمقتضياتها في باب دون باب، وفي أصل دون أصل إذ لا يصح هجر شيء من عقيدة أهل السنة والجماعة ومن لوازم ذلك:
- تحقيق إياك نعبد وإياك نستعين وذلك بالاهتمام بأصول التعبد القلبي، وترسيخِ حقائقَ الإيمان فإن عبادات القلب هي جوهر كل خير وعنها يصدر كل بر.
- الجمع بين توحيد الربوبية والألوهية في العناية والعرض والتعليم، وبيان تضمن الألوهية للربوبية، واستلزام الربوبية للألوهية، وإحياء عبادة التفكر وهي التي تحقق توحيد الربوبية والأسماء والصفات وتهدي إلى توحيد الألوهية وإفراده تعالى بالعبودية.
- دراسةُ توحيدِ الأسماءِ والصفاتِ بجانبيه العلمي والعملى فتخليص الأخلاق والسلوك من الأفات والموبقات التي تنشئها الغفلة عن مدلولات الأسماء والصفات – وهو الجانب العملي- وهو لا يقل في أهميته عن تخليص العقل والفكر من الشبهات والأهواء والبدع في هذا الباب من التوحيد وهو الجانب العلمي.
- السعي في تطبيق الشريعة وبيان وثيق الارتباط بين تحكيم الشريعة والرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وسعة الفهم لأنواع وصور الانحراف عن صحيح الاعتقاد، فلا فرق بين انحراف وشرك حضاري وآخر بدائي، والعناية بمواجهة تلك الانحرافات المعاصرة، سواء أكانت عند الأضرحة والقبور أو لدى أرباب الحكم والقصور ومواجهة تيارات الإلحاد والتغريب والعلمنة في شتى المجالات.
- تحقيق عقيدة الولاء والبراء وذلك بتأصيل عقيدة الولاء والبراء لله ولرسوله وللمؤمنين كل بحسبه، وتخليص الولاء بين الأتباع والمتبوعين من الموافقة على المخالفة أو ترك التذكير والمناصحة أو اعتقاد التقديس والعصمة أو ترك التأييد والنصرة.
الجانب الثالث: الحركة بهذه العقيدة فلا يتحقق صحة الانتماء لهذه العقيدة ولا يكتمل بناؤها إلا بالتحرك بها ولها والدعوة إليها ومن لوازم تحرك الدعاة بعقيدة أهل السنة والجماعة:
- استقامة عمل القلب والجوارح وانضباط السلوك الفردي بها وذلك من من خلال العناية بشعائر التعبد وازدياد الأدب ونبل المشاعر لدى العاملين والداعين لهذه العقيدة، فليست العقيدة وجداناً قلبياً عميقاً فحسب بل هي التزام بما أنزل الله.
- التعاون والعمل من أجل نصرة هذه العقيدة وإقرارها في الأرض.
- الصدورُ عنها في المواقف وتقويم الأحداث والأشخاص، واتخاذها دون غيرها من الأسماء والشعارات أساساً للاجتماع والمتابعة والافتراق والمفاصلة، والحب والموالاة، والبغض والمعاداة.
- التضحية في سبيلها والعيش لها بالكلية بحيث يصير الإنسان صاحب قضية تؤرقه يجاهد من أجلها ويتحرك لها في جميع المجالات وبذل كل الجهد واستفراغ كل الطاقات من اجلها.
- التقيد بها في منهج الدعوة كله، ورفض الوسائل والأساليب المنافية لها إذ الغاية وإن علت لا تسوغ الوسيلة إذا نزلت، وأما التقيد بها من جانب دون آخر فذلك قادح في صدق الانتماء لها.
الأصل الثاني: الدليل
فتوحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم بعد توحيد المعبود سبحانه وتعالى، فالاتباع شرط القبول الثاني بعد تجريد التوحيد والإخلاص لله رب العالمين، والأخذ بالدليل في شأن الدعوة إلى الله تعالى بل في جميع مناحي الحياة أمر واجب وحتم لازم والمخالفة في ذلك مخالفة لسبيل المؤمنين وتعرض للفتنة أو العذاب الأليم، فسبيل البدع والشبهات والضلالات من أخطر ما يتهدد الحركات والدعوات فلا يملك الدعاة في منهج الدعوة وأصولها ومسالكها إلا أن يأخذوا بسنن الهدى وأن يتجنبوا سبل الردى ومن لوازم ذلك:
- حسن الاقتداء وكمال الاهتداء وتمام الموافقة للسلف الصالح في العلم والعمل والدعوة.
- ضبط مسائل الخلاف والاختلاف وذلك بالتفريق بين المسائل الاجتهادية التي يُقبل فيها الخلاف ولا يُطلب فيها الإنكار والتضييق على المخالف، وبين مسائل الاختلاف التي لا يسوغ فيها خلاف، مع التأكيد على أهمية إحياء وممارسة أدب الخلاف في الإسلام.
- العناية بمنهج الاستدلال وفقه الدليل فينبغي الحذر من تحول قضية الأخذ بالدليل عند طائفة إلى نوع من الظاهرية والسطحية التي تظهر نتيجة ضعف التأصيل الفقهي للمسائل.
- العناية بالاتباع في وسائل الدعوة، فلا يُقلد الكفار في وسائلهم التي هي من شعار دينهم، ولا تُعتمد وسيلة أهدرتها نصوص الوحي فمنعتها، وكل وسيلة بعد ذلك فهي مباحة متى ما حققت المقصود الشرعي، إذ ليست وسائل الدعوة توقيفية وكما أن الغايات يجب ان تكون شرعية فالوسائل كذلك.
والحاصل أنه ليس للوسائل حد شرعي فقضية الوسائل كقضية الأهداف في صعوبة الإحاطة بها أو تعذرها فما من قضية في الإسلام ينبغي تحقيقها إلا ولها وسائلها الإسلامية، فتزكية النفس هدف وله وسائله، وإعلاء كلمة الله هدف وله وسيلته، وهناك أهداف مرحلية لها وسائلها، وهكذا فالأمر واسع من أن يحاط به. كما أن قضية الأهداف أوسع من أن يحاط بها، فكل ما أدى إلى المقصود فهو مقصود ما لم يكن منهيا عنه بعينه فإن كان منهيا عنه بعينه فلا نقر به به وليس من اللازم أن ينص الشرع على كل وسيلة بعينها لأن الوسائل لا حصر لها.
الأصل الثالث: العلم
العلم الشرعي يجب أن يكون سمة للدعوة والدعاة فهي تعالج أمورا عظاما وقضايا كبيرة ونوازل في مختلف الجوانب التي يجب أن تنالها يد الإصلاح، وما لم يكن من أهل الدعوة أولو علم واجتهاد وبصيرة، فإن الدعوة ستسير إلى غير هدف وستقاتل في غير ميدان فتضطرب في آرائها وتخطئ في مواقفها والواقع يشهد بتحول المواقف والرؤى في قضايا كثيرة من الضد إلى الضد ومن ثم فلا يمكن أن تقوم دعوة صحيحة بمعزل عن العلم الشرعي فهو سبيل إلى الوحدة والائتلاف و إلى الخشية من الله تبارك وتعالى. فعلى الدعاة والمصلحين أن يكون لديهم حد أدنى من العلم الشرعي ما لا يسعهم جهله في العقائد والعبادات والمعاملات ثم نخبة من المتخصصين في مختلف علوم الشريعة بحيث يتحقق في مجموعهم أو في بعض أفرادهم وصف الاجتهاد الذي يهيئ للنظر في النوازل ودفع المفاسد أو تقليلها والموازنة بين الإيجابيات والسلبيات وذلك حفظا وترشيدا لجهود الدعاة العاملين. مع مراعاة تصحيح النية في التعلم، وطلب العلم لذات العلم لا للرياء أو السمعة والبدء بتعلم العقيدة على منهج السلف والفقه، مع مراعاة الأخذ بالدليل، ومراعاة الأصول وقواعد الفقه والعناية في التعلم بالجوانب العملية من العلوم، مع الحرص على التدرج في سُلَمِ التعلم وتلقي ذلك من أكابر العلماء مع التوازن بين طلب العلم والدعوة إلى الله تعالى، كما ينبغي على طلبة العلم الحذر من المزالق والآفات التي تعتريهم في رحلة الطلب من الكبر والتوقر المبكر والتعصب للرأي أو المذهب أو التعصب لقول الشيخ واحتقار المخالف أو الغرور الذي يصيب بعض طلبة العلم بعد فترة قصيرة أو طويلة من التعلم ظناً منه أنه أوتي العلم والحذر الحذر من الانقطاع عن العلم والتراخي بعد فترة من الطلب والحذر أيضاً من الولع بالغرائب وتكلف التميز والتباغض والاهتمام بظواهر العلم ودقائقه وإهمال أصوله وحقيقته التي هي خشية الله تعالى.
الأصل الرابع: السلوك الإسلامي
السلوك الإسلامي أصل رفيع إذا افتُقد أو اختل صارت الدعوة زائفة منفرة وقليل من يتحقق بهذا الأصل المبارك الذي أصبح اليوم عُملة نادرة وهذا الأصل – السلوك الإسلامي- أو خلق الداعية وأدب المسلم لا يزال بين الدعاة في الطور النظري أكثر من كونها واقعا عمليا بينهم، والتزام منهج أهل السنة والجماعة لا يعني مجرد الالتزام بما كانوا عليه في مختلف أبواب الدين سواء كان عقيدة أو سلوكا أو تعاملا أو غير ذلك فعلى المسلم لا سيما الداعية إلى الله الاهتمام بنفسه ظاهرا وباطنا ويعلم أن السلوك و المظهر الخارجي لا ينفصل عما في قلبه من عقيدة والتزام بهذا الدين .
الأصل الخامس: التربية
إنه لابد من ارتياد الطريق الطويل الشاق البطيء المستنفد للطاقة لكنه المثمر لإنشاء القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة التي تسند الحكم الإسلامي حين يقوم وبعد أن يقوم.
إن عمليةَ نقلَ المعلومات الذهنية من حيز الإدراك الجامد إلى حيز التطبيق العملي الحي، بصورة متدرجة ، ومتأنية، ومتكاملة، ومتوازنة، ومستمرة، وبطريقة مؤثرة وعميقة هو ما نعنيه بالتربية. فهي في حقيقتها تقريب المدعو من رتبة الكمال بكل وسيلة مشروعة وعليه فالتربية تصنع الأجيال، وتهيئ الأشبال ليرتقوا للكمال متسلحين بعقائد صحيحة، وأعمال صالحة وأخلاق زاكية في الدنيا.
وإذا أُطلقت كلمة الدعوة فإنها تشمل في طياتها البلاغ والتربية وإذا اجتمعت مع التربية في سياق واحد كانت الدعوة حينئذ البلاغ والتعريف، وكانت التربية البناء والتكوين، فالأولى في حق الغافلين والمعرضين، والثانية في حق المستجيبين المقبلين فهي وسيلة مشروعة لإيجاد الشخصية الملتزمة بقيم الإسلام وسلوكياته وأخلاقياته وعقائده، وهي أصل عظيم ضخم وأساس متين لا يتم بدونه تغيير، ولا تنجح بدونه دعوة.
وكل من عنده مُسْكَةٌ من عقل لا يتشكك في الفارق الشاسع بين مستوى دعاة اليوم والصفوة الأولى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يتأمل سيرته وسيرة أصحابه يدرك مدى القرب الذي كانوا يتمتعون به بعضهم مع بعض، والمدد الطويلة التي كانوا يقضونها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حضراً وسفراً وأكلاً ونوماً في حياة تربوية جميلة بعيدة كل البعد عن حياة المدنية البائسة المقطعة الأوصال التي نحياها اليوم.
لا يستطيع أحد أن ينكر وجوب الاهتمام على الأقل بصفوة تقوم على أكتافهم الدعوة، وكما أننا لا ننكر أن عددا كبيرا من الصحابة الذين دخلوا في دين الله أفواجا بعد فتح مكة لم يحظوا بالاتصال القريب المتكرر والمتابعة من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أننا نقرر ونؤكد أن الصفوة الأولى من المهاجرين والأنصار الذين قامت الدعوة على أكتافهم قد تلقوا حظاً وافرا من تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعايشته لهم، في شعاب مكةَ تارة، وفي بيوتهم تارة، وفي دار الأرقم تارة، وفي حصار الشعب تارة، وفي الأسفار والغزوات تارات...مما يظهر بجلاء الأهمية البالغة والمثمرة العظيمة للتربية في العناصر الأولى التي استجابت لدعوته صلى الله عليه وسلم ونالت الحظ الوافر من التربية والمتابعة القريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان منهم الخلفاءُ العظامُ والقادةُ الأبطالُ والولاةُ الصالحون والعلماء الأفذاذ الربانيون، ولما أخذت هذه الصفوة في الانقراض بدأ الهبوط والضعف يتسلل إلى دولة الإسلام.
وهذا لا يعني بحال أنه لم تكن بعدهم مستويات تربوية، بل لم تخل الأمة من مربين أفاضل، ولكن ليس في مستوى هؤلاء الصفوة التي تربت قريباً منه، ولذلك فلم تستمر الأمور على ما كانت عليه في عهد الخلفاء الراشدين، ولكن ظلت دولة الإسلام متماسكة الكِيان إلى قرون عديدة بما فيها من عناصر قوية، وآثار تربية الصفوة الأولى على يده صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــ
(1) صحيحِ مسلم (6980) (8/62).
(2) انظر شرح سنن ابن ماجة للسندي حديث(198) والعين والأثر في عقائد أهل الأثر لعبد الباقي (62).
أصول ينبغي الانطلاق منها في الدعوةِ إلى اللهِ تعالى (2/2)
التعليقات