اقتباس
أهل السنة هم أهل التوسط والاعتدال، فهم وسط بين نقيضين، وسط بين غلو الغاليين، وتفريط المفرطين، فهم وسط بين الفرق والطوائف والجماعات التي ضلت عن سواء السبيل، وارتمت بين إفراط أو تفريط، تماما مثلما كانت أمة الإسلام أمة وسطا بين الأمم، وهذه الوسطية في...
من أكثر المصطلحات التي تعرضت للتحريف والتغيير والتأويل عبر التاريخ؛ هو مصطلح الفرقة الناجية أو أهل السنة والجماعة، فمنذ أن قال صلى الله عليه وسلم " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا يا رسول الله، من الفرقة الناجية ؟ قال: " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي "، هذا الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول ورواه أصحاب السنن، من يومها ونشأ مصطلح الفرقة الناجية.
فقد تحققت نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومضت سنة الله عز وجل في خلقه، ودب داء الاختلاف والتشرذم في الأمة، وظهرت الفرق والجماعات والطوائف والشيع، وتأصلت البدع والأفكار والمذاهب الهدامة، فحاد الكثيرون عن سواء السبيل، ولم يبق على جادة الطريق إلا الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، وفقد ظلت رايتهم مرفوعة، وطريقتهم منصورة، وضربت شجرتهم الزكية بجذورها في أعماق الأمة بحيث لم يخلو منهم زمان ولا مكان، ثابتة أمام أعاصير الفتن والبدع والخرافات والضلالات، من تحت ظلالها تخرج العلماء والأئمة والمجاهدون والصالحون، ولكن مع تسارع الزمان، واشتداد المحن، وكثرة الابتلاءات، تداخلت الرايات، وتشابكت السبل، وتلبس الحق بالباطل، فلم يعد يعرفه كثير من الناس، كما كان معروفا من قبل، وأصبح الناس في حيرة من أمرهم، وأصبح مصطلح الفرقة الناجية أو أهل السنة والجماعة، نهبا يتجاذبه الجميع، كل طائفة تزعم أنها الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وأنها وحدها الوريث الشرعي لمصطلح أهل السنة والجماعة، أضف لهذا الاشتباك الحادث، قلة العلماء الربانيين الذين يواجهون أرباب هذه البدع، فصار تمييز سبيل النجاة في خضم هذه التيارات مطلبا عزيزا على كثير من المسلمين الصادقين الباحثين عن الحق والنجاة، لذلك كان على الدعاة منارات الأمة ومرشدي الحائرين أن يبذلوا أقصى ما في وسعهم لبيان أصول الفرقة الناجية وأهم معالم أهل السنة والجماعة في كل الأبواب، عقائديا وأخلاقيا وسلوكيا، ليكون بين يدي السائلين تصورا شاملا ومنهجا كاملا عن هذه الأصول الجامعة.
أولا: تعريف مصطلح أهل السنة والجماعة
السنة في اللغة هي الطريقة والسيرة سواء كانت محمودة أو مذمومة، أما في الاصطلاح فهي تختلف حسب علماء كل فن، فهي تختلف عند المحدثين، عنها عند الأصوليين، عنها عند الفقهاء، ولكن مع افتراق الأمة، ونشوء البدع، وظهور الأهواء، أصبح مصطلح السنة مقابلا للبدعة، ثم صار هذا المصطلح في عرف كثير من المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم مرادفا لمن سلم من الشبهات في باب العقائد، والتعريف الجامع للسنة، هو ما دل على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه السالمة من الشبهات والشهوات.
أما مصطلح الجماعة فهو مشتق لغة من الاجتماع الذي هو ضد الفرقة، وإذا انضم لفظ الجماعة مع لفظ السنة، فصار مصطلح أهل السنة والجماعة، ويراد به سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم في الاجتماع على الحق الصريح من الكتاب والسنة، ولو كان فردا واحدا، لذلك لما سئل ابن المبارك رحمه الله عن الجماعة، قال: أبو بكر وعمر، فقيل له: قد مات أبو بكر وعمر، فقال فلان وفلان، فقيل له: قد مات فلان وفلان، فقال: أبو حمزة السكري جماعة، فابن المبارك قد فسّر الجماعة بمن اجتمعت فيه صفات الإتباع الكامل للكتاب والسنة، لذلك ضرب المثل في كل زمان بمن اجتمعت فيه هذه الصفات، حتى انتهى إلى زمانه، فلم يكن فيه من ينطبق عليه هذا الوصف إلا أبا حمزة السكري.
أما الجماعة التي أوجبت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الالتزام بها، وتحريم الخروج عنها، فلها معاني عديدة، فقيل أن المقصود بها الصحابة دون غيرهم لأنهم الذين أقاموا الدين ونصروا الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا القول مروي عن عمر بن عبد العزيز، وقيل هم أهل الفقه والعلم والحديث من الأئمة المجتهدين، لأن الله عز وجل جعلهم حجة على الناس، والناس تبع لهم في أمر الدين، وهو قول البخاري والترمذي، وقيل هم جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر من أمور الشرع، وهو قول ابن حجر، وقيل هو السواد الأعظم من الأمة، وهذا القول يشمل كل من سبق، وقيل هم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير أو خليفة، وهو قول الطبري.
ثانيا: تاريخ نشأة المصطلح
نشأة المصطلح لاحقة عن نشأة أهل السنة، لأن مذهب أهل السنة هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، فليسوا ببدع من القول، كما قال ابن تيمية رحمه الله: " مذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم، معروف، قبل أن يخلق أبا حنيفة مالكا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذي تلقوه من نبيهم "، وبداية التسمية أو نشأة المصطلح كان مع بداية ظهور الانحراف العقدي في الأمة الإسلامية مع ظهور فرق الخوارج والروافض، ثم توالت البدع بعد ذلك من تجهم واعتزال وجبرية وقدرية ومرجئة، ومن وقتها بدأ المسلمون في البحث عن الإسناد والتحري في أحوال الرجال، قال ابن سيرين رحمه الله: " لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم " وتمايز الناس وقتها بين أهل السنة، وأهل البدعة، ثم وقعت فتنة القول بخلق القرآن، وثبت فيها الإمام أحمد ثباتا عظيما، فسمي من وقتها بإمام أهل السنة في مواجهة أهل البدع.
ثالثا: الملامح العامة للفرقة الناجية أهل السنة والجماعة
شعار الفرقة الناجية وأصل الأصول عندها هو التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته ونهجه كما طبقه الصحابة رضوان الله عليهم، لذلك كان لهم سمت خاص وملامح عامة يمكن من خلالها التفرقة بينهم، وبين أهل البدعة والمخالفة، من أبرز هذه الملامح:
1 ـ أهل السنة يطبقون الدين علما وعملا، ظاهرا وباطنا، فهم يتمسكون بالدين كله، لا يفرقون بين القول والعمل، والظاهر والباطن، فلا يقولون أن للدين باطنا يختلف عن ظاهره، وهو الدين الخالص كما أمر الله عز وجل به عباده المؤمنين.
2 ـ أهل السنة هم أهل الجماعة، أهل الاجتماع على الطاعة والاستقامة التي تجلب الرحمة والبركة، فإن الفرقة عذاب يعذب الله عز وجل به الجافين لطريقة نبيه، والحادين عن صراطه المستقيم.
3 ـ أهل السنة هم أهل التوسط والاعتدال، فهم وسط بين نقيضين، وسط بين غلو الغاليين، وتفريط المفرطين، فهم وسط بين الفرق والطوائف والجماعات التي ضلت عن سواء السبيل، وارتمت بين إفراط أو تفريط، تماما مثلما كانت أمة الإسلام أمة وسطا بين الأمم، وهذه الوسطية في كل أبواب الدين، في باب الإيمان مثلا هم وسط بين الخوارج والمرجئة، وفي باب الأسماء والصفات وسط بين الجهمية والمشبهة ، وفي باب القضاء والقدر وسط بين الجبرية والقدرية، وهكذا في باقي أبواب الدين.
4 ـ أهل السنة هم أهل الوحي المعصوم، من الكتاب وصحيح السنة، الملتزمين بالجمل الثابتة في الإسلام، هم أهل الشريعة التي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم، في كافة جوانب الدين من عقائد ومناهج وأفعال ومقاصد وعبادات وسياسات شرعية، فهم لا يعرفون طرق الفلاسفة والمناطقة وأرباب الكلام، المقلدين لمذاهب أرسطو وفيثاغورث وغيرهما.
5 ـ أهل السنة هم الامتداد التاريخي لأهل الملة النقية، الذين اتبعوا الطريقة المحمدية، وسار على نهج السلفية، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من سار على دربهم واقتفى أثرهم عبر العصور، الذين لا يأخذون إلا ما كان ثابتا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام والسلف الصالح.
6 ـ أهل السنة هم أعلم الناس بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، وأعظمهم محبة له، واقتداء به، وإتباعا لهديه وسنته وطريقته، هم كل من يحب الحديث النبوي ويلتزم به، وهذا ليس قاصرا على المحدثين فقط أو من اشتغل بعلوم الحديث، ولكن يشمل كل من أحبه والتزم به وفهم معانيه ودعا إليه، وقدمه على غيره من الأقوال والآراء.
7 ـ أهل السنة يضبطون اختلافاتهم واجتهاداتهم بالحرص على الوحدة والائتلاف، فهم مهما اختلفوا في مسائل علمية أو عملية إلا إنهم دائما يضبطون هذا الخلاف، بإرادة الوصول إلى الحق، وعذر المخطئ، وإيثاب المجتهد، ولم الشمل ونبذ الفرقة والاتهام، لذلك لم يخرج الحق عن هذه الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، لأنها كانت أحرص الناس على الوصول إلى الحق والالتزام به.
رابعا:أصول منهج التلقي عند أهل السنة والجماعة
امتازت الفرقة الناجية أو أهل السنة والجماعة بأصول خاصة بها في منهجها للتلقي، يختلف عما ذهب إليه المبتدعون من تقديم عقولهم وأهوائهم على الكتاب والسنة، من أهم هذه الأصول:
1 ـ كل ما وافق الكتاب والسنة أثبتوه، وكل ما خالفهما أبطلوه، فأهل السنة والجماعة يبنون تصوراتهم وعقائدهم ومعاملاتهم وسلوكياتهم وأخلاقياتهم على نور الوحي المعصوم من الكتاب والسنة الصحيحة، فلا كلام ولا رأي ولا مذهب يقدم على كلام الله ورسوله، ولا هدي سوى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومنم اهتدى بهداه، وما يتنازع فيه الناس من أقوال ومذاهب وآراء ترد وتحمل على وافق نصوص الكتاب وصحيح السنة، وأهل السنة لا يعارضون الكتاب والسنة بعقل أو رأي أو قياس، مهما كان قدر قائله.
2 ـ لا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا قداسة ولا معصومية عند أهل السنة لأي بشري مهما بلغ قدره من العلم والصلاح، فالجميع يؤخذ من أقوالهم ويرد عليها ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فالطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، وطاعة غيره من البشر مشروطة بطاعته لله ولرسوله.
3 ـ إجماع السلف الصالح حجة شرعية ملزمة، فكل من أتى بعد الصحابة رضي الله عنهم ملزم بإتباع إجماعهم، فالصحابة هم أعلم الناس بمراد الله ورسوله، وأكثر الناس إتباعا للرسول واقتداء به وأعلمهم بأحواله ومرامي كلامه، والإجماع هو الأصل الثالث من أصول هذا الدين بعد الكتاب والسنة، والإجماع إذا ما تم في عصر الصحابة فهو ملزم لمن جاء بعدهم، ولو حدث إجماع أهل السنة في عصر لاحق لعصر الصحابة، فهو ملزم لممن جاء بعدهم، وهكذا حسب ما يستجد للناس من نوازل وحوادث.
4 ـ أي اجتهاد أو قول أو رأي لا يقبل إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة والإجماع، فهذه الأصول الثلاثة هي ميزان التقويم وأساس القبول، لما يصدر من أقوال وآراء، فما اتفق معهم قبوله، واختلف عنهم هجروه.
5 ـ الجماعة هي مناط النجاة في الدنيا والفوز في الآخرة، فأهل السنة متمسكون بجماعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ملتزمون بجمل الكتاب والسنة والإجماع، بعيدون عن مواطن المتشابهات ومواضع الاختلاف والتفرق، حريصون أشد الحرص على تجميع الكلمة ووحدة الصف، ونبذ الفرقة والاختلاف وأسبابهما.
وللحديث بقية
التعليقات