عناصر الخطبة
1/ سنة ابتلاء المؤمنين 2/ خبر أصحاب الأخدود 3/ واقع المسلمين المأساوي 4/ الحرب على الإسلام 5/ الخَللُ ومكامنُ الحَلَلِاهداف الخطبة
اقتباس
فما قَصَّهُ الله علينا عن الأمم الغابرة وتسلط الأعداء على المستضعفين أصبحنا نشهده في هذه السنوات الغثائية في أكثر من موقع من بلاد المسلمين، فتحولت أراضيهم إلى مسارح للقتل والتشريد، وأصبحت دماء المسلمين أرخص ما تكون، يقتل المسلمون بالعشرات، والمئات والآلاف وتزهق أنفسهم على مرأى ومسمع من العالم، ولا تزال القيادات تعلوها السكينة والوقار! وأما الدول العظمى، ومجالس الأمن، وحقوق الإنسان، فما أبعد حراكها! وما أفشل مساعيها! ليتنا نعقل كلام ربنا الذي يحدثنا عن عدونا حديث الصدق: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا) [النساء:101].
الخطبة الأولى:
أما بعد: فاستمسكوا بعقيدتكم، وافرحوا بكمال دينكم وتمام نعمة ربكم. وإنَّ من أهم ما يستمسك المرء به في هذه الأزمنة هو دينه الذي به نجاته، وعليه سعادته.
فالله -تعالى- لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم؛ ولكن ينظروا إلى قلوبكم، فحققوا الإيمان، وتفقهوا في الدين، وتعرفوا على أعدائكم، وقفوا على كيدهم ومكرهم.
وليس الخطر أن يصادَم الحق، ولكن الخطر أن يُلَبَّس بالحق فيظهر الباطل بثوب الحق، ويلبس الذئب جلد الضأن، وتنطلي ابتسامة الصدق بابتسامة المكر والخديعة.
أيها الإخوة: إن المكر بعباد الله الصادقين على اختلاف أزمنتهم سنة إلهية؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينه، وفي كتاب ربنا -جل وعلا- جملة من قصص الماكرين بأولياء الله المستضعفين، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام:123]، (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل:50-51].
وإن القارئ لكتاب الله -تعالى- يتوقف عند قصة قصها الله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو في مكة قبل أن تقوم له دولة أو تقوى له شوكة، وفي ذلك إيحاء أنَّ هذه الأمة ستبتلى كما ابتليت الأمم السابقة، وسوف يلحقها من الاستضعاف نظير ما لحق المسلمين الأولين.
يقول الله -تعالى-: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج:1-9].
قتل جماعي، وتصفية بشرية لطائفة ذنبها الإيمان بالله، هذا الذنب الذي ذهبت بسببه أمم، وتسلط به ظالمون على شعوب، على مر السنوات وتعاقب الفترات.
أما أحداث الآيات فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرويها مفصلة فاستمع لها: فعن صهيب الرومي، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبِر قال للملك: إني قد كبِرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر، فبعث إليه غلاما يعلمه، فكان في طريقه راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر.
فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس.
فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: كل هذه الهدايا لك إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا؛ إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك. فآمن ذلك الرجل بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجئ بالغلام، فقال له الملك: أي بني، قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله، فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار، فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جئ بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه.
ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه فاتركوه، وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا.
وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا.
وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله. ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم تأخذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات.
فقال الناس: آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك ما تحذر! قد آمن الناس! فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخُدّت -أي: أمر بحفر كبيرة فحفرت ثم ملئت ناراً- وأضرم النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فألقوه فيها، ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست، وتأخرت أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه، اصبري فإنك على الحق" رواه مسلم. تثبيتاً من الله.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فما أعظم أخبار القرآن وقصصه! شفاء لما في الصدور، وسلوة وتثبيت للقارئين، وهدى ورحمة للمؤمنين.
فما قصه الله علينا عن الأمم الغابرة وتسلط الأعداء على المستضعفين أصبحنا نشهده في هذه السنوات الغثائية في أكثر من موقع من بلاد المسلمين، فتحولت أراضيهم إلى مسارح للقتل والتشريد، وأصبحت دماء المسلمين أرخص ما تكون، يقتل المسلمون بالعشرات، والمئات والآلاف وتزهق أنفسهم على مرأى ومسمع من العالم، ولا تزال القيادات تعلوها السكينة والوقار! وأما الدول العظمى، ومجالس الأمن، وحقوق الإنسان، فما أبعد حراكها! وما أفشل مساعيها! ليتنا نعقل كلام ربنا الذي يحدثنا عن عدونا حديث الصدق: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا) [النساء:101].
أيها الإخوة: اطمئنوا، لن أحدثكم عن مجازر حلب، ولا عن قتل الرجال، فضلاً عن النساء والصبيان، ولا عن انتهاك الأعراض وترويع الآمين، لن أحدثكم؛ لأنها أحداث أكبر من الحديث، وكفتنا وسائل الإعلام الصادقة والكاذبة التوصيف والتصوير.
ثم هي حرب بين الإسلام والكفر، حرب الكفار على المسلمين، ما عساهم أن يفعلوا إلا كما قال الله -تعالى-: (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً) [التوبة:8]، (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالَاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) [آل عمران:118].
ما أعظم هذا الدين! تخافه دول ترى نفسها دولا عظمى قد أمسكت بزمام الحضارات وهي رائدة الثقافات! تخاف هذا في عقلية الصبي، وتخافه عقيدة للعجائز والشيوخ، ويخافونه في الدول الفقيرة، والمجتمعات الحقيرة، فضلاً عن غيرهم.
يعلمون أن هذا الدين، مع كونه رحمة للعالمين، هو زلزلة للمجرمين، وقامع للمعتدين الذين يعيقون وصول خيره وسلامه إلى الناس أجمعين.
ولذا؛ جاء الجيش الروسي لينصر النظام النصيري الرافضي بعد أن أوشك على السقوط، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [الأنفال:73].
جاء الجيش الروسي بثأر قديم حينما تفكك الاتحاد السوفييتي في جبال أفغانستان، جاء ليضع يده في يد المجوس! وظننا بالله أن يتفكك التفكك النهائي في سهول سوريا وهضاب أرض الشام المباركة!.
إذن ديننا عظيم تسير الجيوش لحربه، وتحلق الطائرات للقضاء عليه، وتعقد التحالفات ضده، وتحاك الخيانات لصده! أين الخلل إذن في هذا الدين العظيم؟ الجواب: لا خلل في هذا الدين، والتاريخ شاهد؛ وإنما الخلل حينما انتسب لهذا الدين غير العظماء؛ فالدين العظيم لا يحمله ويذود عنه إلا العظماء الذين تناسب عظمتهم العظيم الذي ينتسبون إليه.
وعظمتنا تبدأ من أنفسنا حينما نرفع همتنا لتكون في مراد الله ورسوله، وتكون طاعة الله في أمره ونهيه شغل حياتنا، قلوبنا على ذلك، نعي معنى انتسابنا لهذا الدين، ونعرف لوازم الأخوة فيه، نوحد صفوفنا، ونجمع كلمتنا، ونكف ألسنتنا عن بعضنا؛ نقرب البعيد عنا، ونحتوى القريب منا، تجمعنا كلمة سواء، ننصر أخانا ظالما أو مظلوما، ولا تفتش عن نصر أو تمكين قبل ذلك. والله -تعالى- يقول: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون:8].
وفي أخبار سقوط دولة الإسلام في العراق أيام هولاكو، وقتل آلاف المسلمين، وحصول إفساد وتخريب كبير للبلاد، سألت بنت هولاكو أحد علماء المسلمين قائلة: إنكم تزعمون أنكم على الحق وأن الله ينصركم، وها نحن كفار وقد انتصرنا عليكم وفعلنا وفعلنا؛ فأين النصر لدينكم الذي تزعمون؟! فقال: عندما يكون هناك راع لغنم والغنم تشردت، كل منها ذهب في طريق وأعجب بمكانه؛ فإن الراعي يرسل عليها كلابه ليردها ويجمعها في مكان واحد. أليس كذا؟ قالت: بلى. قال: فنحن الغنم وأنتم الكلاب، أرسلكم الله لتردونا إلى مكاننا الصحيح، ونعرف سبيل وحدتنا في رجوعنا إلى ربنا.
ودليل هذا في قوله -تعالى-: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال:46]، وهذا ما نؤمله في أمتنا شعوبا وقادة حينما تسلط عليها كلاب الرافضة وكلاب الروس وكلاب أمريكا وكلاب الكفار كلهم! أملنا أن تكون صحوة على إثر هذا النباح المجتمعي، والعض المتتابع! فاللهم هيئ لأمة محمد من أمرها رشداً!.
فإن قلت: ماذا أصنع في هذه الظروف القاسية وقد دب الإحباط إلى بعض النفوس، وتسرب القنوط إلى بعض القلوب؟ نعوذ بالله! (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87]، (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر:56].
فأقول: لا تصنع شيئاً! فالله هو يصنع الأحداث ويجري الأمور، وهو رب الكون، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) [فاطر:44].
فالله هو الذي يصنع النصر والخذلان لحكمة؛ (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:160].
وإنما نطالبك ألا تعيق ولا تؤخر نصر الله بذنوب الخلوات أو الجلوات! بمخالفات السر والعلن: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165].
ارجع إلى نفسك، إلى بيتك، إلى عملك، إلى مخيمك، وانظر فيمن تحت يدك: كيف هؤلاء في أوامر الله ونواهيه؟ فهذا هو جهادك حتى يأتي الله بأمره.
ثم ليكن دعاؤك -أو كثير من دعائك- للمستضعفين، تحروا أوقات الإجابة؛ مخلصين له الدعاء، معظمين بالله الرجاء.
فاللهم...
التعليقات