عناصر الخطبة
1/ الإعداد لمواجهة العدو واجب شرعي 2/ من الأسلحة التي نواجه بها أعداءنا 3/ تواطؤ اليهود والنصارى على الأمةاهداف الخطبة
اقتباس
إن المسلمين أمة مجاهدة، وقد أثبتت تجارب التاريخ -البعيد منه والقريب- أنـهم يهون عليهم كل شيء في سبيل أن يبقى لهم دينهم الذي هو روحهم وعنوان وجودهم، وأنه لا شيء يجمعهم، ويحشد طاقاتـهم، ويستنفر جهودهم، مثل التعرض لهذا الحمى المنيع حمى الإسلام، فأين هؤلاء الذين تترنح نفوسهم بنشوة القوة وحب الهيمنة عن هذه الحقيقة البسيطة؟!
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: لا أحد ينكر ما يحيط بالأمة من أخطار وأعداء من كل مكان، من الداخل ومن الخارج، لكن أكثر ما يخيف الناس وبعض ضعاف الإيمان ما يمتلك العدو من أسلحة هائلة مخيفة، وقد يخالط بعض المسلمين رعب وخوف من هذه الأسلحة ومن هذه القوة المدمرة ومما يملك العدو من ترسانة عظيمة، من قنابل محرقة، وطائرات مخيفة، وصواريخ مدمرة، وينشأ عن ذلك أحيانًا يأس وإحباط، فكيف يمكن للأمة المسلمة أن ترد عدوان هذا الثور الهائج صاحب القرون النووية الفتاكة؟! وربما ترتب على ذلك الهزيمة النفسية التي يريد العدو إيقاعها بنا، فنخاف من محاصرتهم لنا اقتصاديًا كما يهددون بين الفينة والأخرى، ونخاف من ضربة استباقية كما يزعمون، ونسينا أن قوة الله أعظم، وجبروته أكبر: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21]، قال الله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) [محمد: 10]، وقال تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [الفتح: 7]، وقال تعالى: (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) [غافر: 21]، وقال تعالى: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) [فصلت: 15، 16].
أيها المسلمون: إن الثقة في الله -جل وتعالى- وتذكّر قوته وعظمته وأنه القادر على كل شيء، وأن له ما في السموات وما في الأرض، وأنه وحده المتصرف في الكون، هي من أبجديات عقيدة المسلم، ولكن المسلم أحيانًا يضعف يقينه بالله في الأزمات والفتن، فيطغى عليه الخوف، وتتنازعه الهواجس، ما لم يتداركه الله برحمته، فيعود لكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليستظل في ظلها، حيث السكينة والطمأنينة والثقة بنصر الله ووعده.
أيها المسلمون: ما من شك في أن الإعداد واتخاذ الأسباب الممكنة لمواجهة الأعداء واجب شرعي، وأمر مطلوب، كما قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60]، ولكن الأمة المسلمة -كغيرها من الأمم- تمر بها فترات قوة وضعف، ونصر وهزيمة، ولربما تراكمت عليها المحن والأزمات، وقادها أصحاب الشهوات والمصالح الخاصة، فأضعفوها وأفرغوها من قواها، حتى تصبح أشباحًا أمام أعدائها، ولذلك فلا بد لها -والحالة هذه- أن تتذكر أن لديها من السلاح الفتاك ما تستطيع به النهوض من كبوتها، فهي ليست كغيرها من الأمم، فيد الله ترعاها وإن قصّرت أحيانًا، وقوة الله تحميها وإن ضعفت أحيانًا، فلها حبل متين مع القوة الإلهية العظمى، مهما أصابها من ضعف وهوان وتسلط للأعداء: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139]، والعجيب أن هذه الأسلحة الفتاكة التي تختص بها الأمة المسلمة لا يستطيع عدوها -كائنًا من كان- أن ينتزعها منها إلا أن توافق هي بإرادتها، فتتخلى عنها عجزًا وكسلاً وخذلانًا: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
وهل حقًّا تملك هذه الأمة وفي هذا الوقت من الأسلحة التي يمكنها أن تواجه بها أسلحة ما تسمى بالدول العظمى؟! الجواب: نعم. إليك بعض هذه الأسلحة التي تملكها الأمة ما يمكّنها من منازلة عدوها وقهره بإذن الله وحوله وقوته:
السلاح الأول: الإيمان بالله سبحانه: والإيمان بالله له شأن عظيم، فهو يزرع اليقين والثقة بوعد الله ونصره، وهو من أعظم أسباب الثبات في المعارك مع الأعداء، فالمؤمن لديه قوة وشجاعة وإقدام وتوكل على الله سبحانه، ولديه يقين بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ قال الله تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب: 22]، وقال تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 51]، فمن لديه الإيمان بقوة الله المطلقة فلن يخاف إلا الله، ومهما امتلك الأعداء من الطائرات المدمرة، والسفن الهائلة، والمدرعات المحرقة، وصواريخ عابرات القارات، فهي تحت قدرة الله وملكه، فلو شاء لعطلها جميعًا، فالسماء سماؤه، والأرض أرضه، والبحر من جنوده، فأين يذهبون؟!
السلاح الثاني: الرعب: وهذا سلاح فتاك، يلقيه الله في قلوب الكافرين متى صدق المؤمنون مع ربهم، ونصروا دينه، وأخلصوا له العمل؛ قال الله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 151]، وقال تعالى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) [الأحزاب: 26]، ومن ثم فحينما يركن المسلمون إلى الدنيا وشهواتهم يسلط الله عليهم ذلاً، وينـزع مهابتهم من قلوب أعدائهم، كما ورد بذلك الحديث.
رعب وخوف الكفار من المؤمنين أمر أوجده الله في قلوبهم، فلا نحتاج أن نبذل شيئًا لإيجاده، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "نصرت بالرعب مسيرة شهر". فالواجب علينا الاستعداد والمسير، ولا يجب علينا أكثر من ذلك، وكم نقرأ هذه الأيام تقارير ينشرها الغرب نفسه عن أحوال تصيب بعض جنودهم في بعض بلدان المسلمين التي دخلوها، وأنه أصاب أعدادًا منهم أمراض نفسية وخوف وذعر غير طبيعي، وصدق الله العظيم: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 151].
السلاح الثالث: الملائكة: وهم جند من جنود الله سبحانه وتعالى، يؤيد الله بهم عباده المؤمنين، والسيرة مليئة بقصصهم في قتالهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع الصحابة -رضوان الله عليهم-؛ قال الله تعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان) [الأنفال: 11، 12]. لقد شهدت الملائكة عددًا من الغزوات مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا ليس خاصًّا بذلك الجيل القرآني الفريد، بل متى ما صدق المسلمون وأخلصوا لله في قتالهم، قاتلت معهم الملائكة، وعندها لا ينفع الكفار أي نوع من السلاح استخدموه.
السلاح الرابع: ذكر الله الدائم: وهذا له أثر عظيم في صلة المؤمنين بربهم وثباتهم، ولذلك أوصى الله عباده المؤمنين بذلك في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45]، وقد ورد في الأثر أن المسلمين يفتحون مدينة على البحر بالتكبير، فيكبرون التكبيرة الأولى فيسقط جانبها الأول، ثم يكبرون التكبيرة الثانية فيسقط جانبها الآخر. فسبحان من أمره بين الكاف والنون، وما أعظم هذه الكلمة لو وعاها المسلمون! فلها وقع عظيم في نفوس الكافرين، بل إنها سرعان ما تزلزل قلوبهم، فلا يلوون على شيء إذا قرعت آذانهم، لقد كان التكبير شعار المسلمين المقاتلين في القادسية واليرموك ونهاوند وغيرها من معارك الإسلام الكبرى، فعملت عملها -بإذن الله- في نفوس المسلمين، وألقت الرعب في قلوب الكافرين، وجاء بعدها نصر الله.
السلاح الخامس: الريح: وهي من جنود الله التي نصر بها عباده في مواطن عديدة، ومنها ما حصل يوم الخندق، يوم تحزّب الكافرون لاستئصال النبي -صلى الله عليه وسلم- والقلة المؤمنة التي كانت معه في المدينة؛ فقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) [الأحزاب: 9].
السلاح السادس: الدعاء: وهو سلاح عظيم، به يتنزل النصر، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبدأ معاركه بالدعاء، وما قصته -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر -إذ سقط عنه رداؤه من شدة مناشدته ربه في الدعاء- إلا دليل على أهمية الدعاء في ساحات المعارك، وفي مقارعة أعداء الله، ورُب دعوة ضعيف من المسلمين كانت سببًا في نصرهم، وفي الحديث قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما تُنصرون وترزقون بضعفائكم".
أتـهزأ بالـدعـاء وتـزدريه *** ومـا تدري بما فعل الدعاء
سهـام الليل لا تخطي ولكـن *** لـها أمـد وللأمد انقضاء
السلاح السابع: الشوق إلى الجنات: قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [التوبة: 111]، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث أصحابه على الجهاد، ويشوقهم إلى الجنات؛ حتى قال عمير بن الحُمام -رضي الله عنه- وهو يأكل تمرات: "أما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟!". ثم ألقى التمرات ومضى مجاهدًا إلى ربه حتى استشهد -رضي الله عنه وأرضاه-. وذاك أنس بن النضر يقول -رضي الله عنه- وهو منطلق لقتال الكفار: "واهٍ لريح الجنة! والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد". وهذا الشوق من أعظم ما يدفع المؤمنين لمبارزة العدو.
وكيف لا يبذل المسلم روحه في سبيل الله، وكيف لا يشتاق إلى جنة الله في وسط لمعان السيوف وتطاير الرؤوس وصوت البنادق وتدمير القنابل؟! وقد حفظ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن للشهيد عند ربه سبع خصال: أن يغفر له في أول دفعة في دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلية الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه".
هل من يموت بميدان الجهاد كما *** موت البهائم في الأعطان تنتحر
كلا وربي فلا تشبيه بينهمُ *** قد قالها خالد إذ كان يحتضر
أهل الشهادة في الآثار قد أمنوا *** من فتنةٍ وابتلاءاتٍ إذا قُبروا
ويوم ينفخ صور ليس يزعجهم *** والناس قائمةٌ من هوله ذُعروا
وما سوى الدَّين من ذنب وسيئةٍ *** على الشهيد فعند الله مغتفر
أرواحهم في عُلى الجنات سارحةٌ *** تأوي القناديل تحت العرش تزدهر
وحيث شاءت من الجنات تحملها *** طير مغرّدةٌ ألوانـها خـضر
إن الشهيد شفيع في قرابته *** سبعين منهم كما في مسندٍ حصروا
والترمذي أتى باللفظ في سنن *** وفي كتاب أبي داود معتبر
مع ابن ماجة والمقدام ناقله *** في ضمن ست خصال ساقها الخبر
ما كل من طلب العلياء نائلها *** إن الشهادة مجد دونه حفر
وقد تردد في الأمثال من زمن *** لا يبلغ المجد حتى يلعق الصبر
ربي اشترى أنفسًا ممن يجود بها *** نعم المبيع ورب العرش ما خسروا
السلاح الثامن: السكينة والطمأنينة: وهي من أسباب الثبات في المعارك؛ قال الله تعالى: (ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) [التوبة: 26].
السلاح التاسع: الصبر ومضاعفة العدد: قال الله تعالى: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 66].
وهكذا فإن لهذه الأسلحة الخفية أثرًا عظيمًا في قوة المسلمين وثباتهم وانتصارهم، فمتى ما صدقت الأمة ربها ونصرت دينه جاءهم نصر الله ومدده: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]، ومهما بلغت قوة الأعداء فإن الله أقوى منهم: (فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد: 4-6].
فاصبري أمة الإسلام، واثبتي وأَقبلي على ربك، ولا تخشي ما عند الأعداء من قوة، فإن الباطل مهما انتفش فهو هباء: (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) [الإسراء: 81]، قال الله تعالى: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 8]، وقال تعالى: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 18].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد:
أيها المسلمون: إن كل حرب في التاريخ لها هدف ظاهر أو خفي، حقًّا كان أو باطلاً، وبهذا تجري سنة التدافع قدرًا وشرعًا، حتى تضع الحرب أوزارها، قال الله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ) [البقرة: 251].
وثمة فساد عريض في الأرض اليوم لا مناص من جريان سنن الله القدرية والشرعية لاستنقاذ الإنسانية منه، بدفع أهل الإيمان على أهل الطغيان، وإلاّ فسدت الأرض أكثر وأكثر، ولا إفساد اليوم أكثر من إفساد كفار بني إسرائيل من يهود ونصارى؛ ذلك أن طوائف من النصارى قد لحقت حكمًا باليهود في اعتقادهم وإفسادهم منذ زمان، بل كادوا يسبقون اليهود في العلو في الأرض فسادًا، أولئك هم طوائف الإنجيليين الصهيونيين النصارى الذين صنعوا على أعينهم الصهيونية اليهودية في القرون المتأخرة.
إن هناك عددًا من الحقائق الماثلة اليوم تستحق النظر والتأمل فيما يحدث من تواطؤ وتطابق بين الطائفتين المتزعمتين للفساد في الأرض عامة وفي بلاد المسلمين خاصة، من ذلك أن نصارى الغرب هم أسبق من اليهود في اعتناق المذهب الصهيوني في العصر الحديث، هؤلاء النصارى هم الذين أقنعوا اليهود وذكّروهم ونظَّروا لهم لكي يتجمعوا في فلسطين، وهم الذين خططوا ونفذوا مشروع توطينهم فيها، وتكفلوا بحمايتهم ما بقيت دولتهم، هؤلاء النصارى هم المسؤولون عن إبقاء الأمة الإسلامية في انشغال دائم بما يُدخلونه عليها من فتن وحروب ونزاعات؛ بسبب الحدود المصطنعة، والعناصر والزعامات العميلة، وذلك عبر سلسلة طويلة، بدأت في العصر الحديث بإسقاط الكيان السياسي العالمي الأخير للمسلمين "الخلافة العثمانية"، والحيلولة دون إقامتهم كيانًا عالميًا آخر، باستخلافهم بعد الاستعمار لشرائح من المنافقين في أكثر ديار المسلمين؛ لضمان عدم نهوض الأمة بالإسلام مرة أخرى.
أيها المسلمون: إن الكوارث العظام التي تصيب البشرية إنما هي نتيجة الظلم والفساد في الأرض؛ قال الله تعالى: (قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام: 65]، وعند نزول الكوارث العظام لابد من الرجوع إلى القرآن الكريم الذي يقول لنا: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].
لماذا يخاف البعض من اليهود والنصارى، وقد أثبتت الأحداث القديمة والجديدة أنهم أضعف مما نتصور؟! ورغم امتلاكهم للأسلحة المتطورة فإن عنصر الإنسان يبقى له دور مهم، وهؤلاء يعتمدون على التقنية؛ لأنهم لا يملكون الإنسان الجاد، وهذا يؤكد لنا مرة أخرى أن المشكلة ليست في صعوبة مواجهة الكيان الصهيوني أو النصراني، بل في النية أصلاً لمواجهته.
أيها المسلمون: إن شبح الحرب في هذه الأيام مقلق للجميع، ولا أحد يدري ماذا في علم الغيب؟! لكن الله -جل وتعالى- أراد أن يكشف ما كان مستورًا، وهو التعصب النصراني، والحقد الصليبي، وكره الإسلام والمسلمين، الذي كان مغطى بقشرة رقيقة من الحرية والديمقراطية، فهل من مدّكر؟!
لقد أثبت التاريخ أن العرب إذا لم يهتدوا بهدي الإسلام، الذي يغيّر من تركيبتهم الداخلية، ويصوغهم صياغة جديدة، فإنهم سيعيدون حرب البسوس وداحس والغبراء التي يفنى فيها المال والأهل والولد، لقد قامت حرب البسوس بين ربيعة وبَكر لأسباب تافهة، من أجل ناقة جرباء، ولم تنته إلا بعد أربعين عامًا، وإن الذين يراهنون على المد القومي يثبتون أنهم أغبياء للمرة الثانية، فليس هناك إلا الله أو الدمار.
إن الأمة الإسلامية تعيش هذه الأيام حالة من الاستنفار لم يسبق أن عاشتها في أزمنتها الأخيرة، كرد فعل على ما يمارس في حقها تحت شعارات تعددت أسماؤها، وتلونت راياتـها، واتحدت أهدافها وغاياتـها، فما كان مخبوءًا انكشف أمره، وما كان تورية انكشف عواره، لقد تقطعت الحجب، وانقشعت السحب التي كانت تلف جميع تلك الشهب، ولم تعد الأمور تنطلي حتى على الغافلين والمغفلين من أبناء هذه الأمة، الذين تصوروا ردحًا من الزمن أنه من الممكن أن يعيشوا وسط قرية عالمية، ملؤها المحبة والإخاء والمودة والعدل والمساواة، والكل سينهل من معين الديموقراطية، ويَغرف من زلال حقوق الإنسان، وينعم بخيرات حرية التجارة، مهما تنوعت ثقافاتـهم، وتعددت أعراقهم وألوانـهم، فكل هذه الفقاعات ذهبت وبان كذب مدّعيها.
أيها المسلمون: إن المسلمين أمة مجاهدة، وقد أثبتت تجارب التاريخ -البعيد منه والقريب- أنـهم يهون عليهم كل شيء في سبيل أن يبقى لهم دينهم الذي هو روحهم وعنوان وجودهم، وأنه لا شيء يجمعهم، ويحشد طاقاتـهم، ويستنفر جهودهم، مثل التعرض لهذا الحمى المنيع حمى الإسلام، فأين هؤلاء الذين تترنح نفوسهم بنشوة القوة وحب الهيمنة عن هذه الحقيقة البسيطة؟!
إن الغرب اليوم يستهين بالمسلمين استهانة غير مسبوقة، وتستفز مشاعرهم على جميع المستويات الرسمية والشعبية، وتعلن عليهم حربًا سافرة بلا قناع، حيث تستخدم هذا القناع الشفاف الذي تتستر به -قناع "الحرب على الإرهاب"- وقد جرّب غيرها كل أنواع الحروب، سافرة ومقنّعة ضد المسلمين، فلم يحققوا ما أرادوا؛ لجهلهم بالعوامل التي يستمد منها المسلمون ثباتهم وصبرهم، وبالعناصر التي تؤلف سر قوة الإسلام واستعصائه على المقارنة بالمبادئ الأرضية الأخرى، فلسنا كالنازية ولا الشيوعية، نحن عقيدة حيّة، تسكن نفوسًا لا يمكن القضاء عليها بالتهديد أو باستخدام العنف، ونحن أمة تجمع شعوبًا كثيرة، ذات أعراق ولغات مختلفة، ولكنها كلها تنطق بـ: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والله أكبر، أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، وأكثر جبروتًا من كل جبار متغطرس.
إن المسلم العادي الذي يجد يديه مكبلتين عن الحركة، بينما يجد حواليه الظلم قد تجاوز كل حد، والعدوان قد انطلق لا يردعه شيء، يحز في نفسه أن يصبح هدفًا لكل قوى الشر في هذا العصر، لكنه يطمئن إلى أن الله معه، ولن يتخلى عنه؛ تحقيقًا لقوله -عز وجل-: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ) [الأنبياء: 11]، وقوله سبحانه: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص: 58].
نسأل الله تعالى أن يتولى الأمة بحفظه، وينصرها على أعدائها، ويحفظ عليها دينها وأمنها، إنه سميع مجيب.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، والكفرة الملحدين، واحم حوزة الدين.
اللهم منـزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اللهم إن اليهود والنصارى قد طغوا وبغوا، وأسرفوا وأفسدوا واعتدوا، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وألق الرعب في قلوبهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين، وعبرة للمعتبرين، اللهم عليك بهم وبمن شايعهم وعاونهم وحماهم يا أكرم الأكرمين.
اللهم احقن دماء المسلمين، وصن أعراضهم، واحفظ أموالهم وديارهم من كل معتد ظلوم يا رب العالمين. اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في فلسطين والشيشان وأفغانستان والفلبين وكشمير والعراق.
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والزيغ والشر والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد والبلاد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واحبسه في بدنه يا قوي يا عزيز.
اللهم نصرك الذي وعدتنا، يا من لا يُخلَفُ وعدك، ولا يُهزم جندك، سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت.
التعليقات