عناصر الخطبة
1/قرب الوداع 2/ بقيت أفضل الليالي 3/فضل ليلة القدر 4/عجلوا بالتوبةاهداف الخطبة
اقتباس
بقي بقية للحبيب وأي بقية؟! تُتحرى فيها أفضل الليالي وأحلى الأماني (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 3], قِيَامها يُرْجَى بِه مَغْفِرَة الْذُّنُوب كَبَائِرِهَا وصَغَائِرِهَا, نشيدها ولحنها "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عنا". ليلة هي سلوتنا, وتؤثرنا بقربها, وتؤنسنا بمحادثتها, وتنفي حسرتنا بمناسمتها, وتسلي همومنا بمثاقبتها، وتبرد غلتنا بحضورها, ويُكرمنا الجبار بجوده وفضله بالعتق في آخر الليالي, ويُنسينا الذنوب الخوالي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله أفاض على عباده الرحمات, وفتح لهم باب الجنات, ويسر لهم طريق الخيرات, وأبان لهم الدين بالبينات, أحمده -سبحانه- وأشكره على نعمه والآه الظاهرات, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له يماثله ولاشبيه يناظره ولا ند يقاربه ولا نظير يقابله, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أزكى البشرية, صلى الله عليه وعلى آله خير البريه, وصحبه أتقى الإنسانية, وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي شعار الصيام, وملاذ الصائمين, ونجاة التائبين (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102], (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) [البقرة: 282].
أيها المسلمون: محب وحبيب يفارق محبيه, وخِلٌ يودع راجيه, شوقٌ ولهف وقلوب تتقطع وأكباد تتفتت؛ لفراق خليلها, ومفارقة حبيبها, حان البون وحل الفراق, وانقطاع حبل الوريد بفراق الخليل, وبين من حبيب مزايل, ولا حبيب نوامقه, وتكدر الكون, وكثرت المخاويف, وأسفت رياح البون.
أعلمتم أم لم تعلموا؟ ألم تبلغكِم الأخبارُ عن شهرنا حين احْدَوْدَقُوا بنا ليواسونا بما أَلَمَّ عليّنا من هول البيْنِ، وفاجعة الفراق.
ولما رأينا البينَ قد جَدَّ جِدُّهُ *** ولم يبقَ إلاّ أنْ تزولَ الركائبُ
أيها المؤمنون: بقي بقية للحبيب وأي بقية؟! تُتحرى فيها أفضل الليالي وأحلى الأماني (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 3], قِيَامها يُرْجَى بِه مَغْفِرَة الْذُّنُوب كَبَائِرِهَا وصَغَائِرِهَا, نشيدها ولحنها "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عنا".
ليلة هي سلوتنا, وتؤثرنا بقربها, وتؤنسنا بمحادثتها, وتنفي حسرتنا بمناسمتها, وتسلي همومنا بمثاقبتها، وتبرد غلتنا بحضورها, ويُكرمنا الجبار بجوده وفضله بالعتق في آخر الليالي, ويُنسينا الذنوب الخوالي, والسير البادي, والخور بعد نور الهادي (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
أيها القانتون: يناديكم الكريم الرحيم بنداء خالد ويرغبكم فمن التائب؟ (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 110], (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران: 135] (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) [الزمر: 53].
من آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله, ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه, والْتَّائِب مِن الْذَّنْب كَمَن لَا ذَنْب لَه, فكيف يُطرد ويُبعد ويُحرم, (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) [الشورى: 25], الغبن أننا قَد رَضِيْنَا مِن أَعْمَالِنَا بِالْمَعَانِي، وَمَن طَلَب الْتَّوْبَة بِالتَّوَانِي، وَمَن الْعَيْش الْبَاقِي بِالْعَيْش الْفَانِي.
يَا مُؤَخِّر تَوْبَتَه بِمَطْل التَّسْوِيْف (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) [المرسلات: 12], كُنْت تَقُوْل: إِذَا شِبْت تُبْت, فَهَذِي شُهُوْر الْصَيْف عَنّا قَد انْقَضَت, لَو كَان لِسَّيْف عَزِيْمَتَك جَوْهَرِيَّة لَقِيَك مَوْت الْهَوَى تَحْت ظُبَتُه. كُل يَوْم تَضَع قَاعِدَة الْإِنَابَة وَلَكِن عَلَى شَفَا جُرُف، كُلَّمَا صَدَقْت لَك فِي الْتَّوْبَة رَغْبَة، حَمَلَت عَلَيْهَا جُنُوْد الْهَوَى حَمَلَة فَانْهَزَمَت، اذْبَح حُنْجُرَة بِالْهَوَى بِسِكِّيْن الْعَزِيْمَة، فَمَا دَام الْهَوَى حَيّا فَلَا تَأْمَن مِن قَلْب قَلْبِك.
اجْعَل بُكَاءَك فِي الْدُّجَى شَفِيْعا فِي الْزَّلَل، فِزَنْد الْشَّفِيع تُوَرِّي نَار الْنَّجَاح. اكْتُب بِمِدَاد الْدَّمْع حُسْن الْظَّن إِلَى مَن يُحَقِّقَه، وَلَا تَقْنَع فِي تَوْبَتِك إِلَا بِمُكَابَدَة حُزْن يَعْقُوْب أَو بِصَبْر يُوَسُف عَن الْهَوَى، فَإِن لَم تُطِق فَبِذَل إِخْوَتِه يَوْم (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا) [يوسف: 88].
يَا مَعْشَر الْأَقْوَام: هَذِه مَشَاعِل الْقَبُوْل. يَا فَارِغ الْبَيْت مَن الْقُوَّت: هَذِه أَيَّام الْلُّقَاط. يَا سُجِن مِصْر: مَتَى يَرَى الْمَلَك سَبْع بَقَرَات، يَا ابْن يَا مِيِن: الْفِرَاق مَتَى تَسْمَع نَغَمَات (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) [يوسف: 69], يَا دَائِم الْزَّلَل: مَتَى تَضَع جَبْهَة (وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) [يوسف: 91].
الصالحون مَازَالُوا عَلَى مَطَايَا الْأَقْدَام إِلَى أَن نَم الْنَّسِيْم بِالْسِّحْر، وَقَام الْصَّارِخ يَنْعِي الْظَّلام، فَلَمَّا تَمَخَّض الْدُّجَى بِحَمْل الْسِّحْر، تَسَانَدُوْا إِلَى رَوَاحِل الْاسْتِغْفَار.
رِيَاح الْأَسْحَار أَقْوَات الْأَرْوَاح، رَقَّت، فَرَاقَت، فَبَرَدَت حَر الْوَجْد، وَبَلَغَت رَسَائِل الْحُب.
يَا بُنَي لَا تُؤَخَّر الْتَّوْبَة فَإِن الْمَوْت يَأْتِي بَغْتَة, قال -عليه الصلاة والسلام-: "إِن كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْب فَاسْتَغْفِرِي الْلَّه فَإِن الْتَّوْبَة مِن الْذَّنْب الْنَّدَم وَالَاسْتِغْفَار". [مُتَّفَق عَلَيْه], وَزَاد: "أَو تُوْبِي إِلَيْه فَإِن الْعَبْد إِذَا اعْتَرَف بِذَنْبِه ثُم تَاب تَاب الْلَّه عَلَيْه" وَلِلْطَّبَرَانِي فِي الْدُّعَاء: "فَإِن الْعَبْد إِذَا أَذْنَب ثُم اسْتَغْفَر الْلَّه غَفَر لَه".
يَا ابْن آَدَم تَرْك الْخَطِيْئَة أَيْسَر مِن طَلَب الْتَّوْبَة, إِذ صِدْق الْتَّائِب أَجَبْنَاه وَأَحْيَيْنَاه (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام: 122].
يَا مَعَاشِر الْتَّائِبِيْن (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1], انْظُرُوْا لِمَن عَاهَدْتُّم (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) [النحل: 91], فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْد الْتَّقْوِيْم، فَارْجِعُوَا إِلَى دَار الْمُدَارَاة (فَإِن الْلَّه لَا يَمَل حَتَّى تَمَلُّوْا).
رَبِيْع الْعِرْفَان الْتَّوْبَة الْصَّادِقَة، كِيْمْيَاء الْسَّعَادَة إِذَا وَضِعَت مِنْهَا حَبَّة صَافِيَة عَلَى جِبَال مِن أَكْدَار الْذُّنُوب دَكَّتْهَا كَهِيْبَة الْتَّجَلِّي قَبْل الْمُبَاشَرَة، فَصَارَت كُحْلِا مُصْلِحَا لأَحْدَاق الْبَصَائِر.
يَا مُطْلَقا فِي وَصَالَنَا رَاجِع، يَا حَالِفا عَلَى هُجِّرْنا كَفَر، إِنَّمَا أَبِعَدَنَا إِبْلِيْس لِأَنَّه لَم يَسْجُد لَك.
فَوَاعَجَبا!! كَيْف صَالَحَتْه وَهِجْرَتُنَا!!؟ وَيْحَك لَك مِن عِنْدَنَا مِن القِدْر مَا لَا تَعْرِفُه لِلَيْلَة الْقَدْر.
أَنِيْن الْمُذْنِبِيْن أُحِب إِلَى الله مِن زَجَل الْمُسَبِّحِيْن.
الْمُطِيْع يَدُل بِالْعَمَل، وَالْمُذْنِب ذَلِيْل بِالْزَّلَل، وَالمُخْطِىء يُحَرِّك أَوْتَار الْوَجَل، وَيُنْشِد بتَّطْرِيب الْخَجَل.
يَا قائمون: اختموا شهركم بالاستغفار والرجوع للغفار, وأدوا زكاة فطركم صاعا من تمر أو بر أو شعير أو قوت بلدكم قبل صلاة عيدكم عن أنفسكم وأهل بيوتكم واجبة عليكم, وأكملوا صياما دهركم بصيام ستٍ من شوال أسوة بنبيكم, وإدامة لصالحاتكم, ولفرض نبيكم, وحذاري الرجوع والحنوع وهدم البناء المشيد العالي.
اللهم يا أكرم الأكرمين ويارب المستغفرين تفضل علينا بتوبة وعلى جميع المذنبين تنقلنا بها من ذل المعصية إلى عز الطاعة وثبتنا عليها حتى تخرجنا من الدنيا بلا ذنب ولا تباعة على منهاج أهل السنة والجماعة الذين أوجبت لهم الرحمة والشفاعة.
التعليقات