اقتباس
التعالم والغرور، والتعالي على العلماء وعلى الناس، واحتقار الآخرين وآراءهم، في حين أنك تجد أحدهم لا يعرف بدهيات العلم الشرعي والأحكام وقواعد الدين، أو قد يكون عنده علم قليل بلا أصول ولا ضوابط ولا فقه ولا رأي سديد، ويظن أنه بعلمه القليل وفهمه السقيم قد حاز علوم الأولين والآخرين، فيستقل بغروره عن العلماء، عن مواصلة طلب العلم فَيَهْلك بغروره وَيُهلك. وهكذا كان الخوارج الأولون يدَّعون العلم والاجتهاد ويتطاولون على العلماء، وهم من أجهل الناس.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وصفوته من خلقه أجمعين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن القرآن الكريم هداية الله للعالمين، وهو منهج كريم يسمو بالإنسان وينظم حياته من جميع أبعادها، سواءً أكان من جهة صلته بربه، أو مجتمعه وأمته والناس أجمعين.
ومن ثم كان القرآن الكريم المصدر الأساس للتربية لدى المسلمين، حيث كان خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن، يتخلق بأخلاقه، ويؤدب أمته بآدابه.
فكتاب الله -العظيم- قد تضمن منهجاً كاملاً وشافياً في جميع ما يحتاجه المسلم لدنياه وأخراه، لا سيما في الظروف الراهنة التي بلغت مرحلة الخطر وطالت الأمة الإسلامية والعالم بأسره، بسبب خروج بعض الناس عن منهج القرآن الكريم والبعد عنه، والتأثر بالأفكار المنحرفة والهدامة، والسير وراء كل ناعق، فأفرز ذلك خروجاً عن طاعة ولي الأمر، وسعياً في الأرض فساداً وقتلاً للأنفس المعصومة، وغير ذلك من التبعات المخالفة لمنهج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وإنني من خلال هذا المنبر في هذه المجلة المباركة (مجلة ضياء) أطالب الجميع بضرورة الانتباه إلى خطورة ظاهرة الغلو والتطرف التي تبناها بعض من ينسبون أنفسهم وأفعالهم زورًا وبهتانًا للإسلام، وهو منهم برئ براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
فظاهرة التطرف التي ابتلي بها المسلمون في كثير من البلدان الإسلامية في الوقت الراهن، تعد في طليعة الظواهر التي يجب محاربتها والحد من انتشارها وتغلغلها في عمق المجتمع المسلم.
فكثير من الممارسات التي تؤسس لها هذه الجماعات المتشددة ذات أثر سلبي على شعوب الإسلام باعتبار أنها ترسم لصورة مغايرة للإسلام وهو ما يضر به وبأهله في المقام الأول.
إن المسلم الحق لا يرتضي ما تقوم به هذه الجماعات من أفعال لا تمت للإسلام والمسلمين في شيء، فالإسلام يقوم على المجادلة بالتي هي أحسن، ويدعو للسلم، ونبذ العنف، وإعمال العقل، وهذا ما يتنافى مع سلوكيات ومرجعيات الجماعات المتطرفة وعلى رأسها ما يسمي بـ (تنظيم الدولة الإسلامية).
ولكن ما هي أسباب وجود الغلو في شبابنا؟ وكيف نحميهم من هذا الفكر المتطرف، أقول مستعيناً بالله:
أولاً: أسباب وجود الغلو في شبابنا:
تعددت الأسباب التي أدت بأقوام أو أفراد إلى الانحراف عن المنهج الوسط القويم إلى الغلو والضلال، ومن هذه الأسباب:
1-تفرق الأمة الإسلامية، وبعدها عن تعاليم دينها:
يرجع البعض الأسباب التي تدفع بعض الشباب إلى الغلو وإلى الالتحاق بمثل هذه الجماعات إلى مسألة تفرق الأمة الإسلامية، وبعدها عن تعاليم دينها، وهو ما سهل عمل (المتطرفين والتكفيريين)، فقوة الأمة المسلمة كانت ولا تزال في وحدتها كما إن التفرق من شأنه إتاحة الفرصة للأعداء الكثيرين الذين يتربصون بالمسلمين والإسلام؛ لتفريق كلمتهم مما يسهل على الأعداء النيل منهم، بل وفي عقر دارهم من خلال بعض أبنائهم.
2-قلة الفقه في الدين (أي ضعف العلم الشرعي)، أو أخذ العلم على غير نهج سليم، أو تلقيه عن غير أهلية ولا جدارة.
3-ظهور نزعات الأهواء والعصبيات والتحزبات.
4-الابتعاد عن العلماء وجفوتهم وترك التلقي عنهم والاقتداء بهم، والتلقي عن دعاة السوء والفتنة والالتفاف حولهم.
5-التعالم والغرور، والتعالي على العلماء وعلى الناس، واحتقار الآخرين وآراءهم، في حين أنك تجد أحدهم لا يعرف بديهيات العلم الشرعي والأحكام وقواعد الدين، أو قد يكون عنده علم قليل بلا أصول ولا ضوابط ولا فقه ولا رأي سديد، ويظن أنه بعلمه القليل وفهمه السقيم قد حاز علوم الأولين والآخرين، فيستقل بغروره عن العلماء، عن مواصلة طلب العلم فَيَهْلك بغروره وَيُهلك. وهكذا كان الخوارج الأولون يدَّعون العلم والاجتهاد ويتطاولون على العلماء، وهم من أجهل الناس.
6-التشدد في الدين والتنطع والخروج عن منهج الاعتدال في الدين، وهما من أبرز سمات الخوارج، وأغلب الذين ينزعون إلى الغلو والعنف اليوم تجد فيهم هاتين الخصلتين أعني التشدد في الدين وقلة الفقه.
7-تحدي الخصوم (في الداخل والخارج) واستفزازهم للغيورين، وللشباب وللدعاة (المكر الكبَّار)، وكيدهم للدين وأهله، وطعنهم في السلف -الصالح.
8-ضعف الحكمة في الدعوة لدى كثير من الغيورين ولا سيما الشباب المتدين. وقوة العاطفة لدى فئات من الشباب بلا علم ولا فقه ولا حكمة، مع العلم أن الغيرة على محارم الله وعلى دين الله أمر محمود شرعاً، لكن ذلك مشروط بالحكمة والفقه والبصيرة، ومراعاة المصالح ودرء المفاسد. فإذا فقدت هذه الشروط أو بعضها أدى ذلك إلى الغلو والتنطع والشدة والعنف في معالجة الأمور، وهذا مما لا يستقيم به للمسلمين أمر لا في دينهم ولا في دنياهم.
9-الخلل في مناهج بعض الدعوات المعاصرة:
فأغلبها تعتمد في مناهجها على الشحن العاطفي، وتربي أتباعها على مجرد أمور عاطفية وغايات دنيوية، سياسية واقتصادية، ونحوها، وتحشو أذهانهم بالأفكار والمفاهيم التي لم تؤصَّل شرعاً، والتي تؤدي إلى التصادم مع المخالفين بلا حكمة. وفي الوقت نفسه تقصِّر في أعظم الواجبات، فتنسى الغايات الكبرى في الدعوة، من غرس العقيدة السليمة والفقه في دين الله –تعالى-، والحرص على الجماعة، وتحقيق الأمن، والتجرد من الهوى والعصبية، وفقه التعامل مع المخالفين ومع الإحداث على قواعد الشرع.
10-تصدر حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام وأشباههم للدعوة بلا علم ولا فقه، فاتخذ بعض الشباب منهم رؤساء جهالاً، فأفتوا بغير علم، وحكموا في الأمور بلا فقه، وواجهوا الأحداث الجسام بلا تجربة ولا رأي ولا رجوع إلى أهل العلم والفقه والتجربة والرأي، بل كثير منهم يستنقص العلماء والمشايخ ولا يعرف لهم قدرهم، وإذا أفتى بعض المشايخ على غير هواه ومذهبه، أو بخلاف موقفه أخذ يلمزهم إما بالقصور أو التقصير، أو بالجبن أو المداهنة أو العمالة، أو بالسذاجة وقلة الوعي والإدراك! ونحو ذلك مما يحصل بإشاعته الفرقة والفساد العظيم وغرس الغل على العلماء والحط من قدرهم ومن اعتبارهم، وغير ذلك مما يعود على المسلمين بالضرر البالغ في دينهم ودنياهم.
11-التعصب الأعمى، تعصباً يكون معه ردماً عند المخالف ولو كـان حقاً، بل وطرح الأدلة القطعية وعدم الاعتداد بها -وهي أدلة الكتاب والسنة- أو صرف الهمة إلى الفروع وبناء الولاء والبراء عليها فيؤدي إلى ظهور مظاهر غير محمودة.
12-الاستقلالية في استنباط الأحكام الشرعية دون ضابط محدد ومنهج حق من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومستند السلف -الصالح.
13-نقص أو انعدام التربية الحقيقية الإيمانية القائمة على مرتكزات ودعائم قوية من نصوص الوحي، واستبصار المصلحة العامة ودرء المفاسد الطارئة، وقلة إدراك عبر التاريخ ودروس الزمان وسنن الحياة في واقع الناس.
ثانياً: كيف نحافظ على أبنائنا من تأثير هذا الفكر؟
لقد أمرنا الله بوقاية أهلنا من النار بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6].
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع، ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، فكلكم راع، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته". متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت" (رواه أبو داود). وقال أيضاً: " ما من عبد يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ". متفق عليه.
والمحافظة على شباب الأمة من الانحرافات العقدية أمرٌ ذو بال خاصة في هذه الأيام أيام الفتن والمحن، والتي اختلط فيها الحابل بالنابل، وفسدت فيها بعض المفاهيم، وامتلأت عقولٌ بملوثات فكرية أضرت بالعقيدة والسلوك، وشَطَتْ أفهامٌ بأصحابها عن سواء السبيل فأخلت بالأمن وشقت عصا الطاعة وفرقت الجماعة وحملت على أهلها وبلدها السلاح.
وإن من المؤسف حقاً أن يتولى كبر هذه الأفعال أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا يسوغون هذه الأعمال بأفكار مضللةٍ خارجةٍ عن الجماعة؛ ليقع في أتون فتنتهم الشباب الأغرار. وهذا يستدعي دورا ًكبيراً من المجتمع بشتى طبقاته وفئاته؛ لعلاج هذه الظاهرة ومن أعظم ما يكون حماية للشباب من هذه الانحرافات بعد حماية الله –تعالى- لهم ما يأتي:
1–تربية الشباب على المنهج الحق وهو منهج الوسطية والاعتدال فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا جفاء قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.) [البقرة: 143]. وقال صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ". متفق عليه.
فلابد من توجيه الناشئة على اعتناق هذه العقيدة الوسطية والبعد عن الغلو والتطرف.
2-تحذيرهم من الخروج عن جادة الشرع والتحلل من أحكامه وقيمه قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: 7].
3–التحصن بالعلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة وفهم علماء الأمة وانتهاج منهج السلف الصالح في التعامل مع القضايا والمستجدات؛ لأن العلم عاصمٌ من الضلالة وحامٍ من الغواية والفتنة قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام: 122].
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم وإذا أدبرت عرفها الجاهل".
فأحوج ما يحتاج إليه الناشئةُ وشبابُ الأمة في هذه الأزمنة هو العلمُ الشرعي –الصحيح- فبالعلم يميز المرء بين الحق والباطل ويثبت عند انقلاب المفاهيم ويتبصر عند تشعب الطرق يقول حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: " لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك إنما الفتنة إذا التبس عليك الحق بالباطل ".
4–توجيه الشباب للأخذ عن العلماء المعتبرين المعروفين بسلامة المنهج والرأي السليم، والصدور عنهم قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].
وكذلك تحذيرهم من المتعالمين والمتسرعين في الأمور أو المتجاسرين على الفتيا خاصةً فيما يتعلق بالأمور العامة ومصير الأمة.
5-تعريفهم أن التلقي والحكم على الأشخاص وتشخيص الأحداث لا يتلقى من المجاهيل أو من الإنترنت مثلاً فهي ليست مصدراً موثوقاً به للتلقي.
6-تحذير الناشئة من الحماس غير المنضبط، وأن يكون الحكم على الأشياء بعيداً عن العواطف ومجانباً للتشنجات، وأخذ الحقوق ورفع الظلم إنما يكون بالطرق المشروعة.
7-تقوية جانب التوجيه والتثقيف بالحوار مع الشباب وعلى العلماء والدعاة والآباء كفلٌ كبيرٌ من ذلك فلابد من النزول إلى الساحة بقوة عن طريق المحاضرات والدروس واللقاءات ولا بد أن تتسع صدور العلماء والآباء للحوار الهادف وقبول النقد البناء واستيعاب الآراء واحترامها.
8–وهو من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها من قبل الآباء تجاه الأبناء انتقاء الصحبة فالصحبة لها أثر كبير في تكوين فكر النشء والمرء على دين خليله.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
التعليقات