أسباب هلاك الأمم كما بينتها السُّنَّة النَّبَوية

أحمد عبد المجيد مكى

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ليس بين آيات الكتاب تناقض ولا اضطراب؛ لأن الأمر كله من عند الله، لكن القرآن الكريم فيه المحكم والمتشابه، والمحكم هو البيّن الواضح الذي لا يلتبس أمره، وهذا هو الغالب في القرآن، فهو أمّ الكتاب وأصله، وأما المتشابه، فهو الذي يشتبه أمره على بعض الناس دون بعض، فيعلمه العلماء ولا يعلمه الجهال، ومنه...

لهلاك الأمم أسباب كثيرة جَرت سُنَّة الله -تعالى- في عباده عند وجودها أن يهلكهم بسببها، وهذه الأسباب متداخلة يجمعها: الكفر بالله والصّدّ عن سبيله، الاستهزاء بالرسل وتكذيبهم، الكفر بنعم الله وعدم القيام بواجب شكرها، انتهاك حرمات الله وشيوع الفواحش، والظلم، والطغيان. وقد أشار القران الكريم الى هذه الأسباب، كما أشارت السنة المطهرة الى طرف من هذه الأسباب، سأقف مع أهمها في السطور التالية.

وأود قبل الدخول في الموضوع الاشارة الى أمرين اثنين:

الأمر الأول: ينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في الأمم السابقة، وأن يتفكَّروا في أحوالهم، ويتَّعظوا بما حلَّ بهم من العقاب والنكال، وقد أمرنا الله -عز وجل- بذلك، وذكر في مواضع كثيرة من كتابه العزيز أن سنَّته في ذلك مُطردَةٌ وعادتُه مُستَمِرَّة لا تُحابِي أحدًا، وهذا هو أحد أهم الأهداف الأساسية من قصص القران. قال تعالى: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هود: 120]، وقال جل وعلا: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ .. )[يوسف: 111].

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ): "وَإِنَّمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قصَصَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ لِتَكُونَ عِبْرَةً لنا. فَنُشَبِّهُ حَالَنَا بِحَالِهِمْ ونَقِيسُ أَوَاخِرَ الْأُمَمِ بِأَوَائِلِهَا. فيكون للمؤمن من المتأخرين شَبَهٌ بما كان للمؤمن من المتقدمين. ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شَبَهٌ بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين"[1].

ويلفت الإمام البقاعي (ت: 885هـ) نَظَرَنا إلى أن "لكل من الماضين مثل يتكرر في هذه الأمة الخاتمة... فما صَدَّ أكثرَ هذه الأمة عن فهم القرآن؛ ظنُّهم أنَّ الذي فيه مِن قَصَص الأوَّلِين وأخبار المُثَابين والمُعَاقَبين مِن أهل الأديان أجمعين؛ أنَّ ذلك إنما مقصودة الإخبار والقَصص فقط، كلا، وليس كذلك؛ إنما مقصودُهُ الاعتبار والتنبيه لمشاهدة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد، وتلك الأحوال والآثار"[2].

 

الأمر الثاني: ابتلى الله الأمم السابقة بأصناف العذاب، وهذا العذاب على نوعين:

أولهما عذاب الاستئصال والفناء أو الاهلاك العام، فلا يبقي منهم أحد، كما حصل مع قوم نوح وعاد وثمود، وقد ذهب أهل العلم إلى أن الله -عز وجل- ببالغ حكمته ورحمته رفع هذا النوع من العذاب عن البشرية، وشرع للمؤمنين جهاد المكذبين المعاندين.

 

النوع الثاني: العذاب الشديد الذي يصيب الأمة كالطاعون والطوفان والكوارث وغيرها، وهذا النوع من العذاب لا يؤدي إلى فناء الأمة المعذبة برمتها. ويدخل في ذلك أيضا:

الاهلاك الجزئي، وهو الانتقام من قوم ظالمين بسبب اعتدائهم على قوم مؤمنين مسالمين. قال تعالى: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)[النحل: 46- 47].

 

والآن مع بيان أسباب الهلاك التي جاءت في السنة النبوية.

السبب الاول: المحاباة والمداهنة في الحدود والعقوبات.

لإقامة الحدود والعقوبات فوائد لا تحصى منها نزع شوكة الفساد، و رفع الظلم، وإقامة العدل، والمحافظة على الأنفس والأموال والأعراض. ومن ثم وجبت إقامتها على الشريف، والوضيع، والغني والفقير، ولا يحل تعطيلها؛ لا بشفاعة، ولا بهدية، ولا بغيرهما.

وقد حذرنا صلى الله عليه وسلم من مشابهة من قبلنا، في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وأمر أن يُسَوَّى بين الناس في ذلك، وأَخْبَرَ أَنَّ أَعَزَّ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ لَوْ أَتَى بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ لَأَقَامَهُ عَلَيْهِ، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إنَّ قُرَيشاً أَهَمَّهُمْ شَأنُ المرأَةِ المَخزوميَّةِ التي سَرَقَتْ، فقالوا: مَنْ يُكلّمُ فيها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: ومَنْ يَجترئُ عليه إلا أُسامَةُ بن زَيدٍ، حِبُّ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فَكلَّمَهُ أُسَامَةُ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: أتَشفَعُ في حدٍّ مِنْ حُدودِ الله؟ ثم قال: إنَّما أَهلك الذين قبلكم: أنَّهمْ كانوا إذا سَرقَ فيهم الشَّريفُ تَرَكُوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ. وَأيْمُ الله لَوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَهَا"[3].

قال شيخ الاسلام ابن تيمية (ت: 728هـ): بَيَّنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هلاك بني إسرائيل إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات، وأخبر أن فاطمة ابنته - التي هي أشرف النساء - لو سرقت، وقد أعاذها الله من ذلك، لقطع يدها؛ ليبين: أن وجوب العدل والتعميم في الحدود، لا يستثنى منه بنت الرسول، فضلا عن بنت غيره [4].

 

وقد استنبط الحافظ ابن حجر(ت: 852هـ) فوائد كثيرة من هذا الحديث اقتصر منها على ما يتعلق بموضوعنا، قال -رحمه الله-: وفي هذا الحديث من الفوائد: منع الشفاعة في الحدود، وفيه دخول النساء مع الرجال في حديث السرقة، وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه ولو كان ولداً أو قريباً أو كبير القدر، والتشديد في ذلك والإنكار على من رخص فيه أو تعرض للشفاعة فيمن وجب عليه، وفيه الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم ولاسيما من خالف أمر الشرع [5].

ويدخل تحت هذا الذم كل من أسند الأمر الى غير أهله وغير ذلك من المحاباة في أحكام الدين [6].

 

السبب الثاني: الشحُّ بالمال، ومنع حقوق الله، وحقوق عباده.

الشُّحُّ هو شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله وإمساكه، والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقي شره وذلك هو المفلح [7].

والشُّحُّ من أسباب هلاك الأمم وخراب الديار، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا الظلم، فإن الظُّلم ظُلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشُّحّ، فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دِماءهم واستحلّوا محارمهم"[8].

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخَلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا"[9].

 

قال الماوردي (المتوفى: 450هـ): ينشأ عن الشح من الأخلاق المذمومة أربعة أخلاق: الْحِرْصُ وَالشَّرَهُ وَسُوءُ الظَّنِّ، وَمَنْعُ الْحُقُوقِ:

فَأَمَّا الْحِرْصُ فَهُوَ شِدَّةُ الْكَدْحِ وَالْإِسْرَافِ فِي الطَّلَبِ.  وَأَمَّا الشَّرَهُ فَهُوَ اسْتِقْلَالُ الْكِفَايَةِ، وَالِاسْتِكْثَارُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْحِرْصِ وَالشَّرَهِ.

وسوء الظن: عدم الثقة بمن هو أهل لها.

وَأَمَّا مَنْعُ الْحُقُوقِ فَإِنَّ نَفْسَ الْبَخِيلِ لَا تَسْمَحُ بِفِرَاقِ مَحْبُوبِهَا. وَلَا تَنْقَادُ إلَى تَرْكِ مَطْلُوبِهَا، فَلَا تُذْعِنُ لِحَقٍّ وَلَا تُجِيبُ إلَى إنْصَافٍ.

وإذا آلَ الْبَخِيلُ إلى ما ذكر من هذه الصفات المذمومة والشيم اللئيمة لَمْ يَبْقَ مَعَهُ خَيْرٌ مَرْجُوٌّ وَلَا صَلَاحٌ مَأْمُولٌ.. [10].

 

وقال العلامة المناوي (ت: 1031هـ):

فالبخل مطلق المنع، والشح المنع مع ظلم، وعطف الشح الذي هو نوع من أنواع الظلم اشعارا بأن الشح أعظم أنواعه، لأنه من نتائج حب الدنيا ولذاتها .... وإنما كان الشح سبب ما ذكر لأن في بذل المال والمواساة تحاببا وتواصلا، وفي الإمساك تهاجر وتقاطع، وذلك يجر إلى تشاجر وتغادر من سفك الدماء واستباحة المحارم.

 

ومن السياق عُرِف أن مقصود الحديث بالذات ذكر الشح، وأما ذكر الظلم فتوطئة وتمهيد لذكره، وأبرزه في هذا التركيب إيذانا بشدة قبح الشح، وأنه يفضي بصاحبه إلى أفظع المفاسد، حيث جعله حاملا على سفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة وأخبث العواقب الوخيمة، قال بعض الحكماء: الشح مسابقة قدر الله، ومن سابق قدر الله سُبِق، ومغالبة لله ومن غالب الحق غُلِب، وذلك لأن الحريص يريد أن ينال ما لم يقدر له، فعقوبته في الدنيا الحرمان، وفي الآخرة الخسران [11].

 

وقد ذكر الإمام القرطبي في تفسيره عن بعض الحكماء أن الشح أضر من الفقر، لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبدا.

 

السبب الثالث: التعمق في سؤال الأنبياء والعلماء، مع الاختلاف عليهم وعدم اتباعهم.

إنَّ الاختلاف على الأنبياء من أسباب الفتنة والهلاك، وهذه العلة كما هي في حق الأنبياء، كذلك تكون بالنسبة للعلماء العاملين، والدعاة المخلصين، فإن العلماء ورثة الأنبياء، فإحراجهم بكثرة الأسئلة مع مخالفتهم فيما يأمرون به وينهون عنه من أسباب الهلاك. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا". فَقَالَ رَجُلٌ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله؟! فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثاً، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتكُمْ، لَوْ قلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلمَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةِ سُؤَالهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ"[12].

والمعنى: اتركوني من السؤال مدة ما تركتم فلا تتعرضوا بكثرة البحث عن ما لا يعنيكم في دينكم كما كان يفعل أهل الكتاب مع أنبيائهم ... فإنْ قيل: السؤال مأمور به كما في قوله تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النحل: 43] قيل: هذا فيما تتم به أداء المأمور به وترك المنهي عنه والنهي عن سؤال ما ليس من ذلك القبيل ... "[13].

 

ويفسر ابن تيمية (ت: 728هـ) الاختلاف على الأنبياء بالمخالفة لهم، فيقول: فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية، كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة.

لكن هذا الاختلاف على الأنبياء: هو - والله أعلم - مخالفة الأنبياء كما يقول: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه.

والاختلاف الأول: مخالفة بعضهم بعضا وإن كان الأمران متلازمين أو أن الاختلاف عليه هو الاختلاف فيما بينهم، فإن اللفظ يحتمله. "[14].

 

السبب الرابع: اتباع متشابه القرآن، وما استأثر الله بعلمه.

ليس بين آيات الكتاب تناقض ولا اضطراب؛ لأن الأمر كله من عند الله، لكن القرآن الكريم فيه المحكم والمتشابه، والمحكم هو البيّن الواضح الذي لا يلتبس أمره، وهذا هو الغالب في القرآن، فهو أمّ الكتاب وأصله، وأما المتشابه، فهو الذي يشتبه أمره على بعض الناس دون بعض، فيعلمه العلماء ولا يعلمه الجهال، ومنه ما لا يعلمه إلا الله -تعالى-.

 

فمن التبس عليه أمر شيء من المتشابه، فليرده إلى المحكم، إن كان من أهل العلم القادرين على الاستدلال والاستنباط، وإلا فليسأل أهل العلم. ولا شك أن اتباع متشابه القرآن وترك المحكمات. سبب في الاختلاف والتنازع في الدين المؤدي إلى الهلاك؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: قال: هَجَّرْتُ (أي: بكَّرْتُ) إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فَسَمِعَ أصواتَ رجلين اختَلَفا في آيةٍ فَخَرجَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُعْرَفُ في وجهه الغَضَبُ، فقال: "إنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قبلكم باختلافهم في الكتاب. "[15].

قال الإمام النووي (ت: 676هـ): المراد بهلاك من قبلنا هنا هلاكهم في الدين بكفرهم وابتداعهم، فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل فعلهم، والأمر بالقيام عند الاختلاف في القرآن محمول عند العلماء على اختلاف لا يجوز، او اختلاف يوقع فيما لا يجوز، كاختلاف في نفس القرآن، أو في معنى منه لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة وخصومة أو شجار، ونحو ذلك. وأما الاختلاف في استنباط فروع الدين منه، ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة واظهار الحق، واختلافهم في ذلك، فليس منهيا عنه، بل هو مأمور به وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الآن [16].

قال المناوي (ت: 1031هـ): والحاصل أن من الناس من فرط في السؤال فسَدَّ باب المسائل حتى قل فهمه وعلمه، ومنهم من أفرط في السؤال فتوسع حتى أكثر الخصومة والجدل بقصد المغالبة وصرف وجوه الناس إليه، حتى تفرقت القلوب وانشحنت بالبغضاء، ومنهم من اقتصد فبحث عن معاني الكتاب والسنة والحلال والحرام والرقائق ونحوها مما فيه صفاء القلوب والإخلاص لعلام الغيوب، وهذا القسم محبوب مطلوب، والأولان مذمومان . وبذلك عُرِف أن ما فعله العلماء من التأصيل والتفريع والتمهيد والتقرير في التأليفات مطلوب مندوب بل ربما كان واجبا شَكَرَ الله سعيهم[17].

 

السبب الخامس: الغلو في الدين والتنطع والتشدُّد.

الغلو: هو مجاوزة الحد، وهو مذموم في كل الأمور .وهو أحد الأسباب في هلاك من كان قبلنا من الأمم، والسعيد من اتعظ بغيره، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةَ العَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: "هَاتِ القُطْ لِي. فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الخَذْفِ. فَلمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدهِ قَالَ: بِأَمْثَالِ هَؤُلاَءِ. إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمُ بِالغُلُوُّ فِي الدِّينِ"[18].

والنهي هنا وإن كان خاصاً، فهو نهي عام لكل غلو، قال ابن تيمية (ت: 728هـ): هذا عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقاد والأعمال. والغلو مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك. والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، في قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)[النساء: 171].

وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخل فيه، فالغلو فيه: مثل الرمي بالحجارة الكبار، ونحو ذلك. بناء على أنه قد أبلغ من الحصى الصغار . ثم علل ذلك: بأن ما أهلك من قبلنا إلا الغلو في الدين[19].

 

السبب السادس: التنافس في الدنيا، والمغالبة عليها، وحب التفاخر والتكاثر.

حثنا الشرع على المُبادَرة إلى الخيرات، والتسابُق في الطاعات، والتنافُس في أعمال البرِّ؛ وهذا هو التنافُسُ المحمود الذي يُثرِي الحياة، ويعين المُسلمَ على السمُوِّ بنفسِه والارتِقاء بعلمِه وعملِه للسعيِ إلى الكمال.

 

وفي المُقابِل، نهَى الإسلام عن التنافُس المذموم على الدنيا الذي يُلهي عن الله والدار الآخرة، ويحمِلُ على القبائِح والمُنكَرات ومنع الحقوق، و يُفضِي إلى البغي والعُدوان والاستِطالة على الآخرين، و يُحوِّلُ الأمةَ إلى مُجتمعٍ مُتهالِكٍ مُتهافِت.

 

وقد أقسم رسول الله لأصحابه وهم أئمة الشاكرين أنه لا يخاف عليهم الفقر، وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها، وإهلاكها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: والله! ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبْسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم"[20].

وقوله - صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "إذا فُتِحَتْ عليكم خَزَائِنُ فارسَ والروم: أَيُّ قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله -عز وجل-، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: أو غير ذلك، تتنافَسُونَ، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، أو تتَباغضون..."[21].

 

السبب السابع: كثرة الفساد وانتشار المعاصي والمجاهرة بها:

بين النبي- صلى الله عليه وسلم- أن المعصية إذا أُعْلِنت دبَّ بلاؤها إلى العامَّة والخاصَّة، ولم يقتصر وبالها على مُرتكبها، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم الله بعذاب من عنده"[22].

وسُئِل- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ"[23]؛ ومعنى الحديث أنه إذا كثر الخبث وزاد الفجور والفسوق والفساد كانت الفتنة أقرب للوقوع، وتعرض الجميع للهلاك وإن كان هناك صالحون.

 

وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "تُوشِكُ الْقُرَى أَنْ تُخَرِّبَ وَهِيَ عَامِرَةٌ، قِيلَ وَكَيْفَ تُخَرَّبُ وَهِيَ عَامِرَةٌ؟ قَالَ: إِذَا عَلَا فُجَّارُهَا أَبْرَارَهَا، وَسَادَ الْقَبِيلَةَ مُنَافِقُوهَا"[24].

 

فالسكوت عن المعاصي من مُوجبات العقاب والهلاك، لأن السكوت عنها يغري أصحابها على التمادي فيها واستفحال أمرها وانتشارها. وفي حديث السفينة المشهورة: "... فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا جَميعاً، وإنْ أخذُوا على أيدِيهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعاً"[25].

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشَكَ أن يَعُمَّهُم الله بعقاب من عنده"[26].

 

وكذلك هو من موجبات عدم استجابة الدعاء؛ حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر، أو لَيُوشِكَنَّ الله يبعثُ عليكم عقابًا منه، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يسْتَجَيبُ لكمْ"[27].

قال المُناوي (المتوفى: 1031هـ): أي والله إنَّ أحد الأمرين كائن، إما ليكن منكم الأمر بالمعروف ونهيكم عن المنكر أو إنزال عذاب عظيم من عند الله ثم بعد ذلك الخيبة في الدعاء. وصلاح النظام وجريان شرائع الأنبياء إنما يستمر عند استحكام هذه القاعدة في الإسلام، فيجب الأمر والنهي حتى على من تَلَبَّس بمثله ... وفيه تهديد بليغ لتارك الإنكار، وأنَّ عذابه لا يدفع، ودعاءه لا يسمع، وفي أدنى من ذلك ما يزجر اللبيب[28].

 

اللهم ادفَع عنَّا المِحَن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ردنا الى دينك رداً جميلاً، اللهم تب علينا لنتوب. وصلى اللهم على النبي الأُميّ وعلى آله وصحبه أجمعين.

------------------------------------

([1]) مجموع الفتاوى (28/ 425)

([2]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (8/ 525)

([3]) أخرجه البخاري (6788)، ومسلم (1688) وغيرهما.

([4]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 330).

([5]) فتح الباري (12/ 85).

([6]) فيض القدير (2/ 568).

([7]) باختصار من الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 33).

([8]) مسلم رقم (2578).

([9]) أبو داود (1698)، أحمد (2753)، الحاكم (1516).

([10]) أدب الدنيا والدين (ص: 186).

([11]) فيض القدير (1/ 135).

([12]) أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).

([13]) التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 172).

([14]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 158).

([15]) رواه مسلم (2666).

([16]) شرح النووي على مسلم (16/ 218).

([17]) فيض القدير (3/ 562).

([18]) رواه أحمد (3248)، وابن ماجه (3029) والنسائي (3057).

([19]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 328).

([20]) أخرجه البخاري (3158)، (4015) ؛ ومسلم (2961).

([21]) رواه مسلم رقم (2962)

([22]) مسند احمد (26596).

([23]) البخاري (3346) مسلم (2880).

([24]) ذكره ابن القيم في كتابه: الداء والدواء (ص: 49).

([25]) صحيح البخاري (2493)، (2686).

([26]) أخرجه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وابن ماجة (4005).

([27]) رواه احمد في مسنده (26596).

([28]) فيض القدير (5/ 261).

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life