عناصر الخطبة
1/ وصف الله النصارى بالضلال واليهود بالمغضوب عليهم 2/ وجوب معاداة الكافرين وبغضهم وتحريم موالاتهم 3/ قصة حاطب بن أبي بلتعة 4/ اضطهاد المسلمين في إريتريا وأثيوبيااهداف الخطبة
اقتباس
كان النصر دائمًا حليفهم، والعز ديدنهم، انتصروا في كل ميدان، انتصروا على النفس الأمارة بالسوء، فألجموها بلجام التقوى، وانتصروا على الشيطان القاعد لهم بكل طريق، وانتصروا على الدنيا وزينتها، فلم تبهرهم الأضواء، ولم تفتنهم الشهوات، وانتصروا على العدو في أرض المعركة في أقصر وقت، فكان النصر دائمًا حليفهم، ولا شك أن الناصر لهم هو الله -عز وجل-: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ..
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدل، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضل، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله -عز وجل- وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
عباد الله: أصدق الحديث كتاب الله -عز وجل-، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الأنعام: 134].
ألستم معي -عباد الله- في أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا أسباب نصر وعز وفتح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس -أي جماعات من الناس- فيقول: هل فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!، فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: نعم". وهذا يوافق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
فهذه القرون الخيرية الثلاثة الأول، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحبني".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعدون، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت آتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي آتى أمتي ما يوعدون".
فالصحابة -رضي الله عنهم- كانوا أسباب عز ونصر وفتح:
فما العز للإسلام إلا بظلهم *** وما المجد إلا ما بنوه فشيدوا
كان النصر دائمًا حليفهم، والعز ديدنهم، انتصروا في كل ميدان، انتصروا على النفس الأمارة بالسوء، فألجموها بلجام التقوى، وانتصروا على الشيطان القاعد لهم بكل طريق، وانتصروا على الدنيا وزينتها، فلم تبهرهم الأضواء، ولم تفتنهم الشهوات، وانتصروا على العدو في أرض المعركة في أقصر وقت، فكان النصر دائمًا حليفهم، ولا شك أن الناصر لهم هو الله -عز وجل-: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 10].
والله -عز وجل- لا يحابي أحدًا من خلقه، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، ولكن الصحابة -رضي الله عنهم- توفرت فيهم مؤهلات هي مؤهلات القيادة والسيادة، وتوفرت فيهم أخلاق هي أخلاق النصر، فهما وجدت هذه المؤهلات ومهما وجدت هذه الأخلاق في جيل من أجيال الأمة لابد أن ينصرهم الله -عز وجل-؛ لأن هذه المؤهلات تبقى هي مؤهلات القيادة والسيادة، وهذه الأخلاق هي أخلاق النصر في كل زمان وفي كل مكان.
فينبغي على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أن تتدبر هذه الأخلاق، وأن تتوفر فيها هذه الأخلاق حتى تنتظر النصر من عند الله -عز وجل-، فما هي أخلاق النصر في جيل الصحابة؟!
أول ذلك -عباد الله- أنهم كانوا يعظمون أمر الله -عز وجل- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فكانت هذه سمة واضحة في الصحابة -رضي الله عنهم- تعظيم أمر الله -عز وجل- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوة أحد في منتصف شوال من السنة الثالثة من الهجرة، وقتل من الصحابة الكرام سبعين وجرح من جرح، وكان في الجرحى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- شج في وجهه وكسر البيضة على رأسه وكسر رباعيته، ولما بلغه أن أبا سفيان بن حرب يفكر في أن يعود إلى المدينة من أجل أن يستأصل شأفة المسلمين ويبيدهم دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة للخروج، ما قالوا: رجعنا بالأمس وقتل من قتل وجرح من جرح، وجروحنا لا تزال تسيل دمًا، ولكنهم عظموا أمر الله -عز وجل- وأمر رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- وخرجوا لمتابعة جيش أبي سفيان، وسجل الله -عز وجل- هذا الموقف الإيماني في كتابه الخالد فقال -عز وجل-: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 172، 173].
أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش -وكانت شريفة قرشية- أن تتزوج زيد بن حارثة، وزيد مولى كان عبدًا، فقالت: لست بناكحته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بلى فانكحيه"، فبينما يتكلمان إذ نزل قول الله -عز وجل-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36].
الذي يظن أن اللحية سنة فهو لا يلتحي لأنها سنة، والسنة عنده بمعنى الترك، أي ليست بواجبة، فهي سنة ولكنها سنة واجبة، وهي تعظيم لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي تشبه بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمن كان يدعي محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلماذا لا يتشبه به؟! خاصة وقد أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر بإعفاء اللحية فقال: "أعفوا اللحى وأحفوا الشوارب"، وقال: "أرخوا اللحى"، وقال: "وفروا اللحى".
الذين كانوا يخافون من أمن الدولة، والذين كانوا يخافون من السجون والمعتقلات في النظام البائد، ذهب النظام البائد الظالم الغاشم، وذهبت أمن الدولة، فلماذا لا تتشبه بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟! (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33]، في عقيدته في هديه في سمته في التزامه بشرع الله -عز وجل-، في محافظته على أوامر الله -عز وجل-، المرأة التي تؤمر بالحجاب فتقول: حتى أقتنع!! بماذا تقتنعين؟! ألستِ بمسلمة؟!! والمسلم الذي سلم أمره لله -عز وجل- وسلم أمره للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، بماذا تقتنعين؟! ألا تعتقدين صحة نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟! أم تعتقدين ما يقوله الليبراليون والعلمانيون يظنون أن الشرع لا يصلح لأن يحكم حياة الناس مع أن الله -عز وجل- رضي الإسلام دينًا حتى يرث الله -عز وجل- الأرض وما عليها: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3].
فهؤلاء العلمانيون والليبراليون يريدون أن يوهموا الناس أن الإسلام لعصور الظلام، وليس لهذه العصور المتطورة، وأنه لا يصلح لأن يحكم الدنيا: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) [الكهف: 5]، من اعتقد أن الإسلام لا يصلح لأن يحكم الدنيا فهو في اعتقاده هذا كافر خارج من ملة الإسلام؛ لأن الإسلام هو الدين الذي رضيه الله -عز وجل- للبشرية: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران: 19]، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 35].
فينبغي على المسلم -عباد الله- أن يعظم أمر الله، وأن يعظم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، لما نزلت هذه الآية الكريمة: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36].
قالت: بلى يا رسول الله، قد رضيته لي منكحًا، فشرفها الله -عز وجل- بعد ذلك فصارت أمًّا من أمهات المؤمنين، وزوجة لسيد الأولين والآخرين؛ لأنها عظمت أمر الله، وعظمت أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة من الأنصار لأحد إخوانه الكرام، فقال له أبواها: حتى أشاور أمها، فلما شاور أمها ظنت أنه يطلبها لنفسه، قالت: نعم ونعمة عين، فلما علمت أنه يخطبها لصاحبه جليبيب -رضي الله عنه- أبت أشد الإباء وقالت: أما وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا جليبيب!! وكانت المرأة تسمع، فخرجت وقالت لأبويها: كيف تردون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره، إن كان قد رضيه لكم فارضوه، فذهب أبواها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كأن المرأة نبهت أبويها إلى أمر مقرر عند الصحابة -رضي الله عنهم-، وهو تعظيم أمر الله -عز وجل- وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذهب أبواها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالا له: يا رسول الله: إن كنت قد رضيته لنا فقد رضيناه، قال: "نعم قد رضيته لكم".
وكان هذا الصحابي جديرًا بهذه المرأة، وكان جديرًا بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، نشب قتال، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من تفقدون؟"، قالوا: نفقد فلانًا وفلانًا، قال: "ولكني أفقد جليبيب"، فلتمسوه فوجدوه في وسط ستة قتلهم ثم قتلوه، فوضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- على يديه الشريفتين وقال: "قتل ستة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه".
فهذا هو الخلق الأول الذي توفر في الجيل الأول.
الخلق الثاني -عباد الله-: آية البذل والتضحية في الجيل الأول لم تُرَ في جيل من أجيال الصحابة كما وجدت في هذا الجيل، آيات البذل والتضحية عباد الله، الجهاد لرفع راية الله -عز وجل-، الإمام مالك يقول: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أمر أولها، وهل صلح أمر أولها -عباد الله- بالقيام والصيام وتلاوة القرآن فحسب؟! هل صلح أمر أولها دون بذل وجهاد وتضحية؟! هل صلح أمر أولها دون أن تسيل دماء الصحابة -رضي الله عنهم- يذبون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرفعون راية الإسلام ويعزون دين الملك العلام.
لابد أن نأخذ كل ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، فكانوا على عبادة وطاعة لله -عز وجل-، ومع ذلك بذلوا في الدعوة إلى الله، وبذلوا لإعزاز دين الله -عز وجل-، وبذلوا الأرواح، ما كانوا يعزون شيئًا على الله -عز وجل-، ما كانوا يبخلون بشيء يبذلونه من أجل أن يعز دين الله -عز وجل- ومن أجل أن ترتفع راية الله -عز وجل-، فصلح أمر أولها باتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعظيم أمر الله -عز وجل- وأمر رسوله.
كذلك صلح أمر أولها بالبذل والجهاد والتضحية، وهذه دماء المسلمين تسيل في العراق وتسيل في اليمن وتسيل في سوريا وتسيل في ليبيا، هذه الدماء التي تسيل -عباد الله- طلبًا للحرية وطلبًا لإزالة الطواغيت الكفرة الفجرة الذين يصدون عن سبيل الله والذين يبغونها عوجًا.
فهذه الدماء التي تسيل -عباد الله- هي من ثمن الحرية ومن ثمن إعزاز دين الله -عز وجل- ورفع راية الله -عز وجل-، فالصحابة -رضي الله عنهم- استهانوا بالدنيا وبذلوا كل نفس ونفيس من أجل إعزاز دين الله -عز وجل-.
فهذا عمير بن الحمام -رضي الله عنه- يسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، فيقول: بخ بخ يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض، قال: "ما حملك على قولك بخ بخ؟!"، قال: والله -يا رسول الله- لا لشيء إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: "فأنت من أهلها"، فأخرج تمرات يأكلهن ثم ألقى بالتمرات وقال: لا، إن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، وأخذ يقاتل حتى قتل.
أرسل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سرية من أصحابه وكان عددها ثلاثة ألاف، وأمّر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عليهم زيد بن حارثة مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، ففوجئ الصحابة -رضي الله عنهم- بمائة ألف من الروم، ومائة ألف من العرب المستعربة في شمال الجزيرة، أما زيد بن حارثة فشاط في رماح القوم، وأما جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- فاقتحم على فرس له شقراء ثم عقرها، أي دخل بفرسه في وسط الكفار وهو يقول:
يـا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة وبـارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها
وأخذ يقاتل، يحمل الراية بيمينه فتقطع يمينه، فيحملها بشماله فتقطع شماله، فيحملها بين عضديه فيقسمه رجل بالسيف نصفين، ووجد فيه بضعًا وتسعين ما بين طعنة ورمية وضربة.
بهذا وصل إلينا الإسلام -عباد الله-، ثم تلقى الراية من بعده عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- تردد بعض التردد ثم قال:
أقسمت يـا نفس لتنزلن *** طـائعـة أو لتكـرهـن
ما لي أراك تكرهين الجنة *** إن أجلب الناس وشدوا الرنة
لطالما قد كنـت مطمئنة *** هل أنـت إلا نطفة في شنة
وقال:
يا نفس إن لا تقتلي تموتي *** هذا حياض الموت قد لقيتِ
ومـا تـمنيت فقد لقيتِ *** إن تفعـلي فعلهما هديتِ
أي فعل صاحبيه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يجلس مع الصحابة الكرام بالمدينة، لا أقول لكم ينقل على الهواء ولكنه ينقل بالوحي الصادق من السماء، يقول: "حمل الراية زيد فأصيب، ثم حملها جعفر فأصيب، ثم حملها عبد الله بن رواحة فأصيب". وعيناه تذرفان -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الصحابة آمنوا بالآخرة لأنهم كانوا كأنهم يرون الجنة رأي العين؛ لأن أحوالهم الإيمانية كانت في غاية الارتفاع.
وجد في التابعين عباد وزهاد، كما قال ابن مسعود للتابعي: "لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكنهم كانوا خيرًا منكم، كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة".
فقد يوجد من هو أكثر صلاة وصيام وحجًا وعمرة، ولكن الأحوال الإيمانية عند الصحابة -رضي الله عنهم- ثقة بوعد الله، محبتهم لله -عز وجل-، محبتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- جعلتهم يعزون دين الإسلام ولا يبخلون بشيء من أجل أن يعلو دين الملك العلام.
هذا البراء بن مالك -رضي الله عنه- الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره"، منه البراء بن مالك، ويروى أن البراء لقي زحفًا فقالوا: يا براء: أقسم على ربك، فقال: "أقسمت عليك لمنحتنا أكتافهم"، ويروى أن البراء لقي زحفًا آخر فقالوا: يا براء: أقسم على ربك، فقال: "أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم وألحقني بنبيك -صلى الله عليه وسلم-"، فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء -رضي الله عنه-.
كان عمر -رضي الله عنه- يقول: "لا تؤمِّروه على سرية فإنه مهلكة"، يطلب الشهادة، يطلب إعزاز دين الله -عز وجل-.
ما حدث يوم اليمامة لم يتكرر في جيل من أجيال الأمة، بل ولا في جيل من أجيال البشرية، لما دخل المرتدون من بني حنيفة من أتباع مسيلمة الكذاب وأغلقوا عليهم الباب، طلب البراء بن مالك من أصحابه أن يجعلوه على ترس، وأن يحملوه على أسنة الرماح، وأن يلقوه عليه من فوق سور الحديقة يريد أن يقاتل وحده، جيش وصفهم الله -عز وجل- بقوله: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ...) [الفتح: 16]، فالمفسرون مجمعون على أنه لم يكن هناك دعاء للقتال بعد نزول هذه الآيات إلا دعاء أبي بكر لقتال المرتدين.
وهذه الآية تدل على صحة خلافة أبي بكر خلافًا لما يعتقده الشيعة قبحهم الله، فإن الذي دعاهم هو أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، والله -جل وعلا- يقول: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ).
يقاتل البراء بن مالك وحده هذا الجيش حتى يفتح الباب لأصحابه، فيدخلون يقتلون المرتدين حتى يخلصوا إلى مسيلمة فيقتلوه، هل وُجِدت هذه الآيات من البذل والتضحية والفداء في جيل من أجيال الأمة -عباد الله-؟!
بهذا انتصر الصحابة -رضي الله عنهم- بهذه الأخلاق، عز دين الله -عز وجل-، وارتفعت راية الإسلام، والمجازر من حولنا في كل مكان، والمسلمون وحكام المسلمين لا نسمع لأحد منهم صوتًا، وهذه أمريكا الكافرة الفاجرة بعد شهور متطاولة لا تدري هل هم مع الثوار في ليبيا أم مع القذافي!! فهم يضربون هؤلاء تارة وهؤلاء تارة، ثم يحاسبون على فاتورة هذه الضربات المسلمين، ويريدون أن يدمروا المسلمين، يتركون كتائب القذافي التي تدمر البلاد وتقتل العباد في مصراته، ثم بهم يضربون مدنيين في طرابلس، نقول: هل هذا غباء منكم أو عن قصد وتدبير؟!
ثم هم في سوريا يجتمعون من أجل أن يمنعوا أربعة آخرين من السفر، أو يجمدوا أموالهم حتى يشعروا العالم أنهم مع الشعب السوري وأنهم مع الديمقراطية، وهم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ولا يريدون خيرًا للإسلام والمسلمين، لن يقوم الإسلام إلا بأبنائه، ولن ترتفع راية الله -سبحانه وتعالى- إلا بالبذل والتضحية، فهذه الدماء من ثمن الحرية ومن ثمّ رفع راية الله –عز وجل-، ونحن قد بذلنا كثيرًا من الدماء في بلدنا، ومنّ الله -عز وجل- بالحرية من الطواغيت.
كنت أسمع في سوريا أنهم يعلقون لافتات يكتبون عليها يسقط الله ويحيى الأسد أيام الكلب الكبير، ثم هم الآن يعظمون جزار الأسد ويرفعونه، هذا لأن النصيريين من أولئك الشيعة العلويين الذين يعتقدون أن الله -عز وجل- حل في علي، عقيدة أخبث من عقيدة النصارى، وهم يقولون: إن الله -عز وجل- ينبغي أن يخرج من بشار، ويلقون صور بشار الأسد قبحه الله في الشوارع وتماثيل هؤلاء الفجرة الكفرة من أجل أن يسجد لها الناس، هذا موجود في سوريا الآن، انتهاك الأعراض بالجملة في سوريا، وبالجملة في ليبيا، هؤلاء الطواغيت الذين يحكمون بلاد المسلمين لما كشف الستار عن خبيثتهم وعن صورهم القبيحة إذا هم ليس عندهم رأفة ولا رحمة، فبشار هذا ما أشبهه بالذي قال: أنا ربكم الأعلى، والذي قال: ما علمت لكم من إله غيري، ويخرج بغباء بعد شهرين من التظاهرات يلقي خطابًا رقيقًا وهو يعد بأنه سوف يصلح الحياة السياسية!!
ما دام هناك دماء ليس هناك تفاهم بعد ذلك، ألا يفهم هؤلاء الأغبياء؟! نحن ننصحه أن يترك البلاد وأن يترك العباد، ونقول له: أبشر بمصير سيئ، كلما بقي الطاغوت وكلما كثرت جرائمه تزداد نهايته سوءًا، فهذا زين الفاسقين فرّ من أول الأمر فنجا بنفسه وبدنه، وهذا حسني مبارك بقى فترة فسجن هو وأولاده، وهذا رئيس اليمن علي عبد الله صالح -ولم يكن صالحًا- ما خرج إلا وهو ملفوف بالشاش بدنه كله، قيل: 18% من جلده قد احترق، بالإضافة إلى أحد أعصاب عينيه قد قطع، وشظية بالقرب من قلبه قد أنهكت إحدى رئتيه، فكيف يتحمل ذلك وهو على السبعين؟! والكذبة يقولون: هو يعود يوم الجمعة إلى اليمن، يحلمون بعودة الطاغوت مرة ثانية إلى بلاده.
فنحن ننصح هذا الجزار، نقول له: كلما بقيت وكلما كثرت جرائمك فسوف تزداد خاتمتك سوءًا، وسوف تكون أسوء الخواتيم بإذن الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
لا شك أن على المسلمين واجبًا تجاه ما يحدث من حولهم، فمن استطاع أن ينصر إخوانه بالمال أو بالذهاب أو بالدعاء لهم فالمسلمون كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، ولا تستهينوا بسلاح الدعاء، إذا كنا لا نملك إلا الدعاء فهل تدعون في سجودكم؟! هل يقوم الواحد منكم في نصف الليل الآخر بنية أن يصلي ركعتين لله –عز وجل-، وأن يدعو لإخوانه في ليبيا ولإخوانه في سوريا ولإخوانه في اليمن؟!
أليس هذا من الواجب علينا -عباد الله- أن ننصر إخواننا وأن نكون معهم في آلامهم وأن نشاركهم أحزانهم وأن ننصرهم بكل ما لدينا من قوة!! فهذا الألم -عباد الله- وهذا المخاض الذي تعيشه أمة الإسلام يوشك أن ينجلي بفجر جديد تكون الكلمة فيه لله –عز وجل- والعزة لله -عز وجل- ولرسوله وللمؤمنين.
فالظلم إذا اشتد -عباد الله- فهو يدل على قرب الفجر، ولكن إذا بذل المسلمون طاقتهم وإن كانت قليلة كما قال -عز وجل-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60]، فمهما بذل المسلمون طاقتهم وبذلوا وسعهم من أجل نصر دين الله -عز وجل- ومن أجل إعزاز دين الله -عز وجل-، لابد أن يعينهم الله -عز وجل-، ولابد أن ينصرهم الله –عز وجل-؛ لأن الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر والتمكين وقال: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 173].
ينبغي على الأمة -عباد الله- أن تتعرف على أخلاق النصر في جيل الصحابة، فعلمنا أن من أخلاق النصر في جيل الصحابة تعظيم أمر الله -عز وجل- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أخلاق النصر في جيل الصحابة استهانتهم بالدنيا وبذلهم من أجل إعزاز دين الله، ورفع راية الله –عز وجل-.
من أخلاق النصر في جيل الصحابة: قطع حبال الجاهلية، فكان الواحد منهم بمجرد أن يسلم يخلع على عتبة الإسلام كل ما يكون من أمر الجاهلية، ولا يكون ولاؤه إلا لله –عز وجل- وللنبي -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين.
لما مر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على عبد الله بن أبي ابن سلول -رأس النفاق- عرّض بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: غبر علينا ابن أبي كبشة، وقال: لقد آذاني ريح حمارك، فرد عليه بعض الصحابة بأن ريح حمار النبي -صلى الله عليه وسلم- أطيب من ريح المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول، ويذهب عبد الله بن عبد الله بن أبي -وكان مؤمنًا صادقًا- يقول: يا رسول الله: لو شئت لأتيتك برأسه، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا، بل بر أباك وأحسن إليه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه".
وفي غزوة بني المصطلق لما قال مقالته الفاجرة: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، وكان يظن أنه هو الأعز؛ لأن الأوس والخزرج كانت تنوي تتويجه ملكًا على المدينة قبل أن تتنور المدينة بهجرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فلما بلغ ذلك ابنه عبد الله بن عبد الله وقف بسيفه على طريق المدينة والصحابة يمرون من تحت سيفه، فلما أراد أبوه أن يدخل قال: والله لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحتى تعلم من الأعز ومن الأذل، فلما استأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن له، وقد علم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
يمر مصعب بن عمير بعد غزوة بدر بأخيه أبي عزيز بن عمير وقد أسره أحد الأنصار الكرام، فيقول مصعب للأنصاري: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع -أي عندها مال- لعلها تفديه منك، فيقول أبو عزيز لمصعب: أهذه وصايتك بي يا أخي -يذكره بأخوة الرحم-، فيقول مصعب: إنه أخي دونك. لأن إخوة الإسلام مقدمة على أخوة الرحم، إنه أخي دونك.
أبو عبيدة بن الجراح يتعرض له أبوه يوم بدر ويتحشاه أبو عبيدة أمين الأمة وأحد العشرة المبشرين، ومن رضيه أبو بكر خليفة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح، وقال عمر: لو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته، أي ما ترك الشورى في ستة بل استخلف أبي عبيدة، يتعرض له أبوه يوم بدر فيتحشاه أبو عبيدة، فلما أصر أبوه على قتله تمكن منه أبو عبيدة فقتله. لا ولاء إلى لله -عز وجل- وللنبي -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين.
سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- كان من أبر الناس بأمه، ولما أسلم قالت له أمه: والله لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيَّر بي، فيقال: يا قاتل أمه، فمكثت يومًا ثم يومًا حتى مالت رأسها، فقال لها سعد بن أبي وقاص: "كلي أو لا تأكلي، والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت دين محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-".
بهذه الموالاة -عباد الله- وبقطع حبال الجاهلية انتصر الصحابة -رضي الله عنهم-.
ولنا لقاءات أخرى مع هذا الجيل الفاضل ومع أخلاق النصر.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.
التعليقات