عناصر الخطبة
1/معايير الإسلام لاختيار شريك الحياة 2/اختلال معايير الاختيار عند بعض الأنام 3/الآثار المدمرة لسوء اختيار شريك الحياة.اقتباس
لَوْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا عِنْدَ الِاخْتِيَارِ: الدِّينَ وَالْخُلُقَ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ أَوْلَوِيَّاتِهِمْ، لَمَا كَانَ يُعَابُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَطْلُبُوا مَعَهُمَا الْمَالَ وَالْجَمَالَ وَالْجَاهَ وَالسُّلْطَانَ، لَكِنَّ الَّذِي يُعَابُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ لِلْمَالِ وَالْجَمَالِ وَلَوْ كَانَتْ مَبْتُورَةَ الصِّلَةِ بِدِينِهَا، مَقْطُوعَةَ الْحَبْلِ بِرَبِّهَا!...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: سَعَادَةُ الْإِنْسَانِ وَشَقَاؤُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ أَحْسَنَ اخْتِيَارَ طَرِيقِ الْهُدَى، ثُمَّ أَحْسَنَ اخْتِيَارَ شَرِيكِ حَيَاتِهِ، عَاشَ فِي سَعَادَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ هُوَ أَسَاءَ اخْتِيَارَ الطَّرِيقِ وَالشَّرِيكِ فَهِيَ تَعَاسَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ" وَعَدَّ أَوَّلَهَا: "الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ"(رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَضَعَ الْإِسْلَامُ الْمَعَايِيرَ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ اخْتِيَارُ شَرِيكِ الْحَيَاةِ، فَوَجَّهَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرِّجَالَ قَائِلًا: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، قَالَ النَّوَوِيُّ: "الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَ بِمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ هَذِهِ الْخِصَالَ الْأَرْبَعَ، وَآخِرُهَا عِنْدَهُمْ ذَاتُ الدِّينِ، فَاظْفَرْ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُسْتَرْشِدُ بِذَاتِ الدِّينِ"(شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ).
وَأَخْبَرَنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الزَّوْجَةَ الصَّالِحَةَ ذَاتَ الدِّينِ مِنْ خَيْرِ مَا يُكْنَزُ وَيُدَّخَرُ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمَّا سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَائِلًا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ أَجَابَهُ: "لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).
ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْلِيَاءَ الْمَرْأَةِ قَائِلًا: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
فَهَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- يَأْتِيهَا الزَّوْجُ الْمُنَاسِبُ الَّذِي لَا يُرَدُّ فَيَتَقَدَّمُ خَاطِبًا إِيَّاهَا، فَتَأْبَى أَنْ تَقْبَلَ بِهِ حَتَّى يُسْلِمَ فَيَصِيرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَيَتَحَقَّقَ فِيهِ شَرْطُ الدِّينِ، فَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مِثْلُكَ يَا أَبَا طَلْحَةَ يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ رَجُلٌ كَافِرٌ، وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ، فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي، وَمَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَأَسْلَمْ فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا"، قَالَ ثَابِتٌ: فَمَا سَمِعْتُ بِامْرَأَةٍ قَطُّ كَانَتْ أَكْرَمَ مَهْرًا مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ: الْإِسْلَامُ.(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
فَهَذَانِ هُمَا الْمِعْيَارَانِ الْأَهَمَّانِ لِاخْتِيَارِ شَرِيكِ الْحَيَاةِ؛ الدِّينُ وَالْخُلُقُ، يَقُولُ الْمَاوَرْدِيُّ: "وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي الدِّينِ فَهُوَ أَوْثَقُ الْعُقُودِ حَالًا، وَأَدْوَمُهَا أُلْفَةً، وَأَحْمَدُهَا بَدْءًا وَعَاقِبَةً؛ لِأَنَّ طَالِبَ الدِّينِ مُتَّبِعٌ لَهُ، وَمَنِ اتَّبَعَ الدِّينَ انْقَادَ لَهُ، فَاسْتَقَامَتْ لَهُ حَالُهُ وَأَمِنَ زَلَلَهُ".
سَعَادَةُ الْمَرْءِ فِي خَمْسٍ إِذَا اجْتَمَعَتْ: *** صَلَاحُ جِيرَانِهِ، وَالْبِرُّ فِي وَلَدِهْ
وَزَوْجَةٌ حَسُنَتْ أَخْلَاقُهَا *** وَكَذَا خِلٌّ وَفِيٌّ، وَرِزْقُ الْمَرْءِ فِي بَلَدِهْ
ثُمَّ زَادَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِعْيَارًا ثَالِثًا لِلِاخْتِيَارِ؛ وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْكَفَاءَةُ: فَإِنَّكَ إِنْ تَزَوَّجْتَ الْمَرْأَةَ صَارَ أَهْلُهَا أَصْهَارَكَ، وَأَبُوهَا جَدًّا لِأَوْلَادِكَ، وَأُمُّهَا جَدَّةً لَهُمْ، وَإِخْوَانُهَا وَأَخَوَاتُهَا أَخْوَالُهُمْ، فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَهَذَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَنْصَحُ قَائِلًا: "النَّاكِحُ مُغْتَرِسٌ، فَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ حَيْثُ يَقَعُ غَرْسُهُ"(بَهْجَةُ الْمَجَالِسِ، لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ).
كَمَا عَلَّمَنَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الْبِكْرَ أَفْضَلُ مِنَ الثَّيِّبِ: فَقَدْ سَأَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ تَزَوَّجَ: "هَلْ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟"، فَقَالَ جَابِرٌ: تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَيُقَدِّمُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْبَابَ تَفْضِيلِ الْبِكْرِ عَلَى الثَّيِّبِ فَيَقُولُ: "عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ؛ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَعَلَّمَنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْضًا أَنَّ الْوَلُودَ خَيْرٌ مِنَ الْعَقِيمِ، فَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَمَنْصِبٍ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: "تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
ثُمَّ لَا مَانِعَ -إِذَا تَوَافَرَتْ هَذِهِ الْمَعَايِيرُ- أَنْ يَبْتَغِيَ الْمَرْءُ الْمَالَ، أَوِ الْجَمَالَ، أَوِ الْحَسَبَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَخْتَارَ، لَكِنَّ أُنَاسًا آثَرُوا الْمَفْضُولَ عَلَى الْفَاضِلِ، وَجَعَلُوا يَخْتَارُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَزَوْجَاتِهِمْ عَلَى غَيْرِ الدِّينِ وَالْخُلُقِ وَالصَّلَاحِ:
فَيَخْتَارُونَ عَلَى أَسَاسِ الْمَالِ دُونَ الدِّينِ: فَهَؤُلَاءِ يَنْفَلِتُ مِنْ أَيْدِيهِمْ زِمَامُ الْقِوَامَةِ غَالِبًا، لِأَنَّهُمُ افْتَقَدُوا مُقَوِّمًا مِنْ مُقَوِّمَاتِهَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ يَقُولُ: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)[النِّسَاءِ:34]، حَتَّى قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: "فَهُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا"، وَلَا دِينَ لَهَا يَمْنَعُهَا مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى زَوْجِهَا!
وَيَخْتَارُونَ عَلَى أَسَاسِ الْجَمَالِ دُونَ الدِّينِ: وَرَبُّ الْعِزَّةِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يَقُولُ: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)[الْبَقَرَةِ :221]، يَقُولُ ابْنُ عِلَّانَ: "وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ رِعَايَةِ الْجَمَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِنَظَرِ الْمَخْطُوبَةِ لِيَكُونَ النِّكَاحُ عَنْ مُوَافَقَةِ الطَّبْعِ، وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ مُجَرَّدَ الْحُسْنِ وَاكْتُفِيَ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْخِصَالِ"، وَقَدْ أَنْشَدُوا:
جَمَالُ الْوَجْهِ مَعْ قُبْحِ النُّفُوسِ *** كَقِنْدِيلٍ عَلَى قَبْرِ الْمَجُوسِي
وَيَخْتَارُونَ عَلَى أَسَاسِ الْعَائِلَةِ وَالشَّرَفِ دُونَ الدِّينِ: وَلَا يُغْنِي شَرَفُ الْعَائِلَةِ شَيْئًا إِنِ افْتَقَدَ الْإِنْسَانُ الدِّينَ، فَهَا هُوَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لِعَائِلَتِهِ وَأَهْلِهِ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ، سَلِينِي بِمَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَمَا قِيمَةُ الشَّرَفِ وَالنَّسَبِ إِنْ لَمْ تَكُنِ الزَّوْجَةُ ذَاتَ دِينٍ وَخَشْيَةٍ مِنَ اللَّهِ؟!
وَقَدْ قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ: "لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ؛ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ؛ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، وَلَأَمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ"، وَقِيلَ: "مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا ذُلًّا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا فَقْرًا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا دَنَاءَةً، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يَتَزَوَّجْهَا إِلَّا لِيَغُضَّ بَصَرَهُ أَوْ لِيُحَصِّنَ فَرْجَهُ أَوْ يَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا، وَبَارَكَ لَهَا فِيهِ".
وَلَوْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا عِنْدَ الِاخْتِيَارِ: الدِّينَ وَالْخُلُقَ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ أَوْلَوِيَّاتِهِمْ، لَمَا كَانَ يُعَابُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَطْلُبُوا مَعَهُمَا الْمَالَ وَالْجَمَالَ وَالْجَاهَ وَالسُّلْطَانَ، لَكِنَّ الَّذِي يُعَابُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ لِلْمَالِ وَالْجَمَالِ وَلَوْ كَانَتْ مَبْتُورَةَ الصِّلَةِ بِدِينِهَا، مَقْطُوعَةَ الْحَبْلِ بِرَبِّهَا!
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اخْتِيَارَ شَرِيكِ الْحَيَاةِ عَلَى غَيْرِ الدِّينِ شَرٌّ وَبِيلٌ، وَهَمٌّ طَوِيلٌ، وَقَلْبٌ عَلِيلٌ، فَلَهُ مِنَ الْآثَارِ الْمُدَمِّرَةِ الْكَثِيرُ، وَمِنْهَا:
أَوَّلًا: تَعَاسَةُ الدُّنْيَا: فَلَقَدْ قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ"، وَعَدَّ مِنْهَا: "الْمَرْأَةَ السُّوءَ"(ابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، يَقُولُ الْفَارُوقُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ بَعْدَ كُفْرٍ بِاللَّهِ شَرًّا مِنَ امْرَأَةٍ حَدِيدَةِ اللِّسَانِ، سَيِّئَةِ الْخُلُقِ"(مُسْنَدُ الْفَارُوقِ لِابْنِ كَثِيرٍ).
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا ابْتُلِيَتْ بِزَوْجٍ طَالِحٍ فَإِنَّ مُصِيبَتَهَا أَشَدُّ؛ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَلَا تَمْلِكُهُ، وَهُوَ الْآمِرُ النَّاهِي وَعَلَيْهَا طَاعَتُهُ، فَهِيَ رَهِينَةٌ لَدَيْهِ تَكْتَوِي بِنَارِ مَعَاصِيهِ، أَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)؛ أَيْ: أَسِيرَاتٌ لَدَيْكُمْ.
ثَانِيًا: الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَوْلَادِ: فَإِنَّنَا نَخَافُ عَلَى الْوَلَدِ مِنْ صَدِيقِ السُّوءِ وَمِنَ الْجَلِيسِ الطَّالِحِ وَنُحَذِّرُهُ مِنْهُ، فَكَيْفَ إِنْ كَانَ جَلِيسُهُ الطَّالِحُ هُوَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ؟! إِنَّ الْأَشْجَارَ الزَّكِيَّةَ تُخْرِجُ ثَمَرَاتٍ زَكِيَّةً، وَإِنَّ الْأَشْجَارَ الْخَبِيثَةَ تُخْرِجُ ثَمَرَاتٍ خَبِيثَةً، وَكَذَا الطَّيِّبُونَ مِنَ الْأَزْوَاجِ يُخْرِجُونَ -فِي الْغَالِبِ- الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ -تَعَالَى-: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)[آلِ عِمْرَانَ:34]، وَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا *** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
ثَالِثًا: افْتِقَادُ السَّكَنِ، وَعَدَمُ الْأَمْنِ مِنَ الْخِيَانَةِ: فَمَنِ افْتَقَدَ الدِّينَ لَمْ تُؤْمَنْ غَائِلَتُهُ، وَلَا يَتَّقِي اللَّهَ فِي أَهْلِهِ؛ لَا يَشْكُرُ الْإِحْسَانَ، وَلَا يَصُونُ الْعِشْرَةَ، وَلَا يَحْفَظُ الْوِدَادَ، إِنْ كَانَ خِلَافٌ فَجَرَ وَظَلَمَ وَطَغَى، لَا يُعْطِي الْحُقُوقَ وَلَا يَرْعَى الْعُهُودَ، فَهُوَ شَرٌّ وَوَبَالٌ عَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ.
وَكَذَا يَكُونُ حَالُ كُلِّ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
أَمَرَ النّبِيُّ بِذَاتِ دِينِ زَوْجَةً *** فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ هُنَّ الْحُورُ
الْمَالُ يَفْنَى وَالْجَمَالُ وَدِيعَةٌ *** وَالْجَاهُ يَبْلَى كُلُّ ذَاكَ غُرُورُ
الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ذَخِيرَةٌ *** مَذْخُورَةٌ وَنَعِيمُهَا مَوْفُورُ
لَيْسَ الزَّوَاجُ لِشَهْوَةٍ وَغَرِيزَةٍ *** إِنَّ الزَّوَاجَ تَعَفُّفٌ وَطُهُورُ
لَيْسَ الزَّوَاجُ سِتَارَ أَطْمَاعٍ وَمَا *** تُغْنِي عَنِ اللُّبِّ الشَّهِيِّ قُشُورُ
لَيْسَ الزَّوَاجُ لِنَزْوَةٍ مَسْعُورَةٍ *** ذَاكَ انْفِعَالٌ، فِتْنَةٌ، تَغْرِيرُ
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات