أساليب تربوية (6) التربية بالعقوبة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/مفهوم التربية بالعقوبة والحكمة منها 2/أمثلة من التربية بالعقوبة في الكتاب والسنة 3/ضوابط التربية بالعقوبة 4/أثر التربية بالعقوبة في توجيه سلوك الأبناء وبناء قيمهم 5/رسائل للآباء والمربين حول التربية بالعقوبة.

اقتباس

لَا تَكُنْ صَارِمًا عَلَى الْأَوْلَادِ كُلَّ الصَّرَامَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّخْوِيفَ بِالضَّرْبِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ أَنْفَعُ مِنْ ذَوْقِهِ، إِنَّ الْأَطْفَالَ وَهُمْ فِي مَرْحَلَةِ الطُّفُولَةِ يَحْتَاجُونَ إِلَى اللَّعِبِ وَحُسْنِ الرِّعَايَةِ، فَلَا يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ الْكِبَارِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُمْلِيَ عَلَيْهِمْ قَوَانِينَ وَقَوَاعِدَ لَابُدَّ أَنْ يَسِيرُوا عَلَيْهَا...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ تَرْبِيَةَ الْأَوْلَادِ وَالْعِنَايَةَ بِهِمْ وَحُسْنَ رِعَايَتِهِمْ مِنْ وَاجِبَاتِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمُرَبِّينَ، وَلَابُدَّ لِنَجَاحِ هَذِهِ التَّرْبِيَةِ مِنَ اسْتِخْدَامِ الْأَسَالِيبِ التَّرْبَوِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَسَالِيبِ التَّرْبَوِيَّةِ، التَّرْبِيَةُ بِالْعُقُوبَةِ بِمَفْهُومِهِ الصَّحِيحِ وَضَوَابِطِهِ السَّلِيمَةِ، فَحِينَ لَا يَنْفَعُ النُّصْحُ وَلَا الْوَعْظُ وَلَمْ تُؤْتِ الْقُدْوَةُ ثِمَارَهَا وَلَمْ يَزْدَجِرْ بِالتَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّحْذِيرِ وَتَكْرِيرِ الْأَمْرِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسْتَخْدَمُ أُسْلُوبُ التَّرْبِيَةِ بِالْعُقُوبَةِ، وَيُقْصَدُ بِهِ زَجْرُ الطِّفْلِ وَتَأْنِيبُهُ وَحِرْمَانُهُ، وَرُبَّمَا الضَّرْبُ غَيْرُ الْمُبَرِّحِ، وَدُونَ تَعَدٍّ أَوْ إِحْدَاثِ أَضْرَارٍ فِي جَسَدِهِ.

 

عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ ذَكَرَ مِنْهَا: "وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ، وَلَا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا، وَأَخِفْهُمْ فِي اللَّهِ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي الْإِرْوَاءِ: 2026)، وَفِي الْحَدِيثِ: "عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ الْبَيْتِ؛ فَإِنَّهُ أَدَبٌ لَهُمْ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي الصَّحِيحَةِ: 1447).

 

عِبَادَ اللَّهِ: التَّرْبِيَةُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ مِنَ الْوَسَائِلِ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي تَرْبِيَةِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ؛ لِصِيَانَةِ أَفْرَادِهِ وَزَجْرِهِمْ مِنَ ارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ وَالتَّعَدِّي عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا، ثُمَّ إِنَّ الْبَشَرَ لَيْسُوا سَوَاءً؛ فَمِنْهُمْ مَنْ تُفْلِحُ مَعَهُ الْقُدْوَةُ الْحَسَنَةُ فِي التَّرْبِيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَنْفَعُهُ الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ وَالْقَوْلُ اللَّيِّنُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكْفِيهِ الْقِصَّةُ، وَهُنَاكَ صِنْفٌ مِنَ الْأَبْنَاءِ مَنْ يَحْتَاجُونَ إِلَى أُسْلُوبِ التَّرْبِيَةِ بِالْعُقُوبَةِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِقَدْرٍ دُونَ الْإِفْرَاطِ فِيهَا؛ كَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْبِقَهَا أَوْ يَصْحَبَهَا تَرْغِيبٌ وَتَحْفِيزٌ؛ فَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لَا يُبَادِرُ إِلَى الْعُقُوبَةِ فِي التَّرْبِيَةِ، إِنَّمَا يُقَدِّمُ قَبْلَهَا التَّرْغِيبَ فِي الثَّوَابِ أَوْ يَقْرِنُهُ مَعَهَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْعُقُوبَةَ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا، وَإِنَّمَا وَسِيلَةٌ يَسْتَخْدِمُهَا الْمُرَبِّي فِي حَالَاتٍ نَادِرَةٍ بَعْدَ اسْتِنْفَادِ الْأَسَالِيبِ النَّاجِعَةِ الْأُخْرَى وَبِقَدْرِ الْحَاجَةِ.

 

فَفِي مَجَالِ التَّرْغِيبِ قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التَّحْرِيمِ: 8].

 

وَفِي مَجَالِ الْعِقَابِ وَالتَّرْهِيبِ قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا)[النَّبَأِ: 21-26].

 

وَقَالَ -تَعَالَى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا)[الْإِسْرَاءِ: 18].

 

وَبَيَّنَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْكَثِيرَ مِنَ الْحُدُودِ -وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الْعِقَابِ- لِزَجْرِ الْمُعْتَدِي وَوَقْفِهِ عِنْدَ حَدِّهِ كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)]الْمَائِدَةِ: 33].

 

وَلِلَّهِ مَعَ خَلْقِهِ أَيَّامٌ وَسُنَنٌ، فَأَيْنَ ثَمُودُ وَعَادٌ؟! وَأَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ الشِّدَادُ؟! أَيْنَ مَنْ قَدُّوا الْأَرْضَ وَنَحَتُوا الْجِبَالَ، وَحَازُوا أَسْبَابَ الْقُوَّةِ وَاحْتَاطُوا لِلنَّوَائِبِ؟! لَمَّا نَسُوا اللَّهَ أَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسَهُ، فَصَارُوا بَعْدَ الْوُجُودِ أَثَرًا، وَأَصْبَحُوا لِلتَّارِيخِ قِصَصًا وَعِبَرًا: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 40].

 

وَفِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ جَاءَتْ أَمْثِلَةٌ لِلتَّرْبِيَةِ بِالْعُقُوبَةِ؛ كَالْحِرْمَانِ وَاللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ وَالْهَجْرِ وَالْعِقَابِ الْبَدَنِيِّ، فَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ حَاضِرَةً فِي تَرْبِيَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْمُجْتَمَعِ، فَاسْتَخْدَمَ التَّوْبِيخَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ عَيَّرَ رَجُلًا بِسَوَادِ أُمِّهِ، فَوَبَّخَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلًا: "إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ"(الْبُخَارِيُّ).

 

وَاسْتَخْدَمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسْلُوبَ الْهَجْرِ مَعَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ حَيْثُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَحَابَتَهُ أَلَّا يُكَلِّمُوهُمْ، فَجَرَتِ الْمُقَاطَعَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[التَّوْبَةِ: 117-118].

 

أَمَّا الْعِقَابُ الْبَدَنِيُّ لِمُعَالَجَةِ الْأَخْطَاءِ وَالتَّقْصِيرِ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُهِمَّاتِ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ"(أَبُو دَاوُودَ وَأَحْمَدُ).

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِلتَّرْبِيَةِ بِأُسْلُوبِ الْعُقُوبَةِ ضَوَابِطَ يَجِبُ الِانْتِبَاهُ لَهَا، مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَتَنَاسَبَ الْعُقُوبَةُ مَعَ الْخَطَأِ الَّذِي وَقَعَ دُونَ تَجَاوُزٍ؛ فَفِي ذَلِكَ ظُلْمٌ وَجِنَايَةٌ عَلَى هَذَا الطِّفْلِ.

وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ أَدَاةُ الضَّرْبِ أَدَاةً مُنَاسِبَةً لِسِنِّ الصَّغِيرِ؛ فَلَا يُضْرَبُ بِأَدَاةٍ تُحْدِثُ لَهُ كُسُورًا، أَوْ جُرُوحًا، أَوْ عَاهَاتٍ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ -أَوَّلًا وَأَخِيرًا- مِنْ هَذَا الضَّرْبِ هُوَ التَّأْدِيبُ، وَلَيْسَ الِانْتِقَامَ، وَيَجْتَنِبُ الْمُرَبِّي عِنْدَ الضَّرْبِ الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ بِمَا حَوَى، وَالْمَنَاطِقَ الْحَسَّاسَةَ مِنَ الْجِسْمِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى حُدُوثِ عَاهَاتٍ لِلصَّغِيرِ، وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ"(الْبُخَارِيُّ).

 

كَذَلِكَ: الْهَجْرُ وَالْحِرْمَانُ وَالتَّوْبِيخُ يَجِبُ أَنْ يَتَنَاسَبَ كَذَلِكَ مَعَ عُمْرِ الطِّفْلِ وَمَعَ الْخَطَأِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ، وَأَلَّا يَتَحَوَّلَ الْأَمْرُ إِلَى إِرْهَابٍ وَتَعَسُّفٍ وَقَهْرٍ، يَقُولُ ابْنُ خَلْدُونَ فِي الْمُقَدِّمَةِ: "مَنْ كَانَ مَرْبَاهُ بِالْعَسْفِ وَالْقَهْرِ سَطَا بِهِ الظُّلْمُ، وَحُمِلَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْخُبْثِ خَوْفًا مِنْ أَبْسَاطِ الْأَيْدِي عَلَيْهِ بِالْقَهْرِ، وَعَلَّمَهُ الْمَكْرَ وَالْخَدِيعَةَ، وَفَسَدَتْ فِيهِ مَعَانِي الْحَمِيَّةِ وَالْمُدَافَعَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَنْزِلِهِ، وَصَارَ عِيَالًا عَلَى غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، بَلْ وَكَسَلَتِ النَّفْسُ عَنِ اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ وَالْخُلُقِ الْجَمِيلِ" انْتَهَى.

 

فَإِيَّاكُمْ وَالْإِفْرَاطَ فِي عُقُوبَةِ أَبْنَائِكُمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَتْمًا سَوْفَ يُؤَثِّرُ عَلَى نَفْسِيَّاتِهِمْ وَعَلَاقَاتِهِمْ وَدِرَاسَتِهِمْ سَلْبًا، فَلَا تَعْتَدُوا، قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[الْبَقَرَةِ: 190].

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ لِلتَّرْبِيَةِ بِالْعُقُوبَةِ بِضَوَابِطِهَا أَثَرًا فِي تَرْبِيَةِ النُّفُوسِ وَتَهْذِيبِهَا، فَتَجَنُّبُ الْأَخْطَاءِ وَعَدَمُ تَكْرَارِهَا، وَإِدْرَاكُ خَطَرِهَا، وَالِاسْتِجَابَةُ السَّرِيعَةُ، وَالِانْضِبَاطُ وَمُرَاجَعَةُ النَّفْسِ وَتَذْكِيرُهَا قَبْلَ الْقِيَامِ بِهَا أَوِ ارْتِكَابِهَا نَتِيجَةٌ حَتْمِيَّةٌ لِأَثَرِ التَّرْبِيَةِ بِالْعُقُوبَةِ.

 

أَيُّهَا الْآبَاءُ/ أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: إِنَّ التَّرْبِيَةَ بِأُسْلُوبِ الْعُقُوبَةِ وَمِنْهَا الضَّرْبُ هُوَ آخِرُ طُرُقِ التَّأْدِيبِ، وَإِلَّا فَإِنَّ هُنَاكَ وَسَائِلَ لِلْعُقُوبَةِ، فَذَمُّ الْوَلَدِ وَتَوْبِيخُهُ عُقُوبَةٌ، وَحِرْمَانُهُ مِنَ الْجَوَائِزِ دُونَ إِخْوَانِهِ وَأَقْرَانِهِ عُقُوبَةٌ، وَالتَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ عُقُوبَةٌ، وَالْهَجْرُ وَعَدَمُ الْحَدِيثِ مَعَ الطِّفْلِ عُقُوبَةٌ.

 

وَمِنَ الْعُقُوبَاتِ أَيْضًا الْأَمْرُ بِتَصْحِيحِ الْخَطَأِ عَمَلِيًّا، وَهِيَ مِنْ صُوَرِ الْعِقَابِ الْإِيجَابِيِّ، كَأَمْرِ الطِّفْلِ بِإِصْلَاحِ مَا أَفْسَدَ، وَجَمْعِ مَا فَرَّقَ، وَتَنْظِيفِ مَا لَطَّخَ، وَكَذَلِكَ تَكْرِيرُ كِتَابَةِ مَا أَهْمَلَ كِتَابَتَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمْرُ الْأَوْلَادِ بِتَصْحِيحِ الْخَطَأِ يُرَبِّي فِيهِمُ النُّهُوضَ لِلْأَمْثَلِ، وَالِارْتِقَاءَ لِلْأَفْضَلِ.

 

أَيُّهَا الْأَبُ/ أَيُّهَا الْمُرَبِّي: لَا تَكُنْ صَارِمًا عَلَى الْأَوْلَادِ كُلَّ الصَّرَامَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّخْوِيفَ بِالضَّرْبِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ أَنْفَعُ مِنْ ذَوْقِهِ، إِنَّ الْأَطْفَالَ وَهُمْ فِي مَرْحَلَةِ الطُّفُولَةِ يَحْتَاجُونَ إِلَى اللَّعِبِ وَحُسْنِ الرِّعَايَةِ، فَلَا يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ الْكِبَارِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُمْلِيَ عَلَيْهِمْ قَوَانِينَ وَقَوَاعِدَ لَابُدَّ أَنْ يَسِيرُوا عَلَيْهَا، وَاسْمَعُوا إِلَى هَذَا الشَّاعِرِ الَّذِي تَذَكَّرَ أَبْنَاءَهُ وَقَدْ كَانَ ضَجِيجُهُمْ يَمْلَأُ الْبَيْتَ وَهُوَ يُصَوِّرُ تِلْكَ الْفِطْرَةَ الْبَرِيئَةَ وَالَّتِي بِسَبَبِهَا تَعَرَّضُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُيُوتِ لِأَبْشَعِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ وَالْعُنْفِ وَالِاحْتِقَارِ:

أَيْنَ الضَّجِيجُ الْعَذْبُ وَالشَّغَبُ *** أَيْنَ التَّدَارُسُ شَابَهُ اللَّعِبُ

أَيْنَ الطُّفُولَةُ فِي تَوَقُّدِهَا *** أَيْنَ الدُّمَى فِي الْأَرْضِ وَالْكُتُبُ

أَيْنَ التَّشَاكُسُ دُونَمَا غَرَضٍ *** أَيْنَ التَّشَاكِي مَا لَهُ سَبَبُ

أَيْنَ التَّبَاكِي وَالتَّضَاحُكُ فِي *** وَقْتٍ مَعًا، وَالْحُزْنُ وَالطَّرَبُ

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْنَا وَأَصْلِحْ أَوْلَادَنَا وَخُذْ بِنَوَاصِينَا إِلَى كُلِّ خَيْرٍ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات
8ArmurmOdkyXayfWnMX0rGunAJkdkKEDUK34fVZ8.doc
JdBSFW32UQpysSXbfAuk4b9KX5da4CvpsQbmTA1N.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life