أساليب تربوية (5) التربية بالحب والقرب

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/التربية بالحب والقرب المفهوم والأهمية 2/أمثلة من التربية بالحب والقرب في القرآن والسنة 3/أثر التربية بالحب والقرب في توجيه سلوك الأبناء وبناء قيمهم 4/رسائل للآباء والمربين حول التربية بالحب والقرب.

اقتباس

وَالتَّرْبِيَةُ بِالْحُبِّ تَعْنِي أَنْ تَكُونَ صَدِيقًا لِابْنِكَ أَوِ ابْنَتِكَ عِنْدَمَا يَحْتَاجَانِ النَّصِيحَةَ، أَوْ يَرْغَبَانِ فِي السُّؤَالِ، أَوْ يَقَعَانِ فِي مُشْكِلَةٍ، أَوْ يَقْتَرِفَانِ خَطَأً، أَوْ يُبْدِيَانِ رَأْيًا، أَوْ يَتَمَنَّيَانِ أَمْرًا، فَتَسْتَطِيعُ مِنْ خِلَالِ ذَلِكَ تَرْبِيَتَهُمْ وَتَزْكِيَةَ نُفُوسِهِمْ وَكَسْبَ قُلُوبِهِمْ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: لَقَدْ دَعَا الْإِسْلَامُ إِلَى الْحُبِّ وَالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ، وَاعْتَبَرَ الْحُبَّ قِيمَةً عُلْيَا فِي رِسَالَتِهِ، وَهَدَفًا سَامِيًا مِنْ أَهْدَافِهِ، يَسْعَى بِشَتَّى الْوَسَائِلِ لِتَحْقِيقِهِ، وَتَكْوِينِهِ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِشَاعَتِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ، بَلْ جَعَلَهُ قِيمَةً كُبْرَى سَعَى لِتَحْقِيقِهَا فِي الْحَيَاةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ: أَفْشَوُا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ"(صَحِيحٌ).

 

وَالْحُبُّ وَسِيلَةٌ لِكَسْبِ الْقُلُوبِ، وَنَشْرِ الطُّمَأْنِينَةِ، بِهِ تُدْفَعُ الْوَسَاوِسُ وَالشُّرُورُ، وَعَنْ طَرِيقِهِ تُزَالُ الْعَدَاوَاتُ وَالْأَحْقَادُ وَالضَّغَائِنُ، وَهُوَ كَذَلِكَ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ التَّرْبِيَةِ لِلنَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمَا أَشَدَّ حَاجَةَ أَطْفَالِنَا وَأَبْنَائِنَا وَطُلَّابِنَا لِتَرْبِيَتِهِمْ وَتَنْشِئَتِهِمْ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنْهُمْ.

 

وَالتَّرْبِيَةُ بِالْحُبِّ تَعْنِي الْقُدْرَةَ عَلَى التَّوَاصُلِ مَعَ أَبْنَائِنَا بِطَرِيقَةٍ يَشْعُرُونَ بِهَا بِصِدْقِ الْمَحَبَّةِ وَالْقُرْبِ مِنْهُمْ وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَاحْتِرَامِ كَرَامَتِهِمْ وَتَقْدِيرِ ذَاتِهِمْ، دُونَ ازْدِرَاءٍ أَوْ تَحْقِيرٍ، وَتَرْجَمَةِ هَذَا الْحُبِّ عَنْ طَرِيقِ الْحِوَارِ وَالتَّوَاصُلِ بِصُورَةٍ إِيجَابِيَّةٍ، وَتَعْزِيزِ الِاحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ، وَتَشْجِيعِ السُّلُوكِ الْجَيِّدِ الَّذِي يَرْغَبُ الْوَالِدُ بِظُهُورِهِ لَدَى طِفْلِهِ بَدَلَ التَّرْكِيزِ فَقَطْ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ عَلَى السُّلُوكِ الْمَذْمُومِ إِذَا مَا صَدَرَ مِنْهُ.

 

وَالتَّرْبِيَةُ بِالْحُبِّ تَعْنِي أَنْ تَكُونَ صَدِيقًا لِابْنِكَ أَوِ ابْنَتِكَ عِنْدَمَا يَحْتَاجَانِ النَّصِيحَةَ، أَوْ يَرْغَبَانِ فِي السُّؤَالِ، أَوْ يَقَعَانِ فِي مُشْكِلَةٍ، أَوْ يَقْتَرِفَانِ خَطَأً، أَوْ يُبْدِيَانِ رَأْيًا، أَوْ يَتَمَنَّيَانِ أَمْرًا، فَتَسْتَطِيعُ مِنْ خِلَالِ ذَلِكَ تَرْبِيَتَهُمْ وَتَزْكِيَةَ نُفُوسِهِمْ وَكَسْبَ قُلُوبِهِمْ، وَانْظُرُوا -رَعَاكُمُ اللَّهُ- إِلَى هَذَا الْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنَ الْأَبْنَاءِ، وَالَّذِي جَعَلَ مِنْ يُوسُفَ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ يَقُصُّ عَلَى أَبِيهِ حَتَّى رُؤْيَاهُ وَهُوَ فِي هَذِهِ السِّنِّ الصَّغِيرِ، قَالَ -تَعَالَى-: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)[يُوسُفَ: 4].

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَإِذَا كَانَ الْحُبُّ يُشَكِّلُ أُسْلُوبًا مِنْ أَسَالِيبِ التَّرْبِيَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ قَدْ أَفَاضَ فِي ذِكْرِ الْحُبِّ وَصِفَاتِ أَهْلِهِ وَحَبِّ اللَّهِ لَهُمْ وَقُرْبِهِ مِنْهُمْ، فَهَذَا نَبِيُّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، اتَّخَذَهُ اللَّهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- خَلِيلًا، وَهِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْحُبِّ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)[النِّسَاءِ: 125].

 

وَهَذَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَحَبَّهُ رَبُّهُ وَقَرَّبَهُ مِنْهُ، قَالَ -تَعَالَى-: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[طه: 38-39]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَحَبَّهُ وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ".

 

وَكَمْ هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي بَيَّنَتْ حُبَّ اللَّهِ لِعِبَادِهِ وَقُرْبَهُ مِنْهُمْ، وَكَيْفَ أَنَّ هَذَا الْحُبَّ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْجِهَادِ وَالْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[الْمَائِدَةِ 54].

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَالتَّرْبِيَةُ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ كَذَلِكَ كَانَتْ أُسْلُوبًا نَبَوِيًّا اسْتَطَاعَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ خِلَالِ تَثْبِيتِ الْإِيمَانِ وَغَرْسِ الْقِيَمِ وَكَسْبِ الْقُلُوبِ وَتَوْجِيهِ الِاهْتِمَامَاتِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: "يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"(صَحِيحُ الْجَامِعِ).

 

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النِّسَاءَ وَالْصِّبْيَانَ مُقْبِلِينَ -قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ عُرْسٍ- فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُمَثِّلًا فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ. قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ"(الْبُخَارِيُّ).

 

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ"(مُسْلِمٌ).

 

وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَبِّرُ عَنْ حُبِّهِ لِلْأَطْفَالِ وَصِغَارِ السِّنِّ، فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-؛ حَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ فَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَحِبَّهُمَا فَإِنِّي أُحِبُّهُمَا"(الْبُخَارِيُّ).

 

وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوَطِّدُ حُبَّهُ لِأَصْحَابِهِ بِوَصْفِهِمْ بِأَجْمَلِ الصِّفَاتِ الَّتِي تُعَزِّزُ الْأُلْفَةَ وَالتَّقَارُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَيَصِفُ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ بِأَنَّهُ حَوَارِيُّهُ، وَيَصِفُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بِأَنَّهُمَا وَزِيرَاهُ، وَجَعَلَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ كَاتِمَ سِرِّهِ، وَلَقَّبَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَامِرَ بْنَ الْجَرَّاحِ بِأَنَّهُ أَمِينُ الْأُمَّةِ، وَغَيْرُهُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَجْمَعِينَ.

 

كَمَا أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَثْنَى عَلَى الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، وَكَشَفَ عَنْ عَظِيمِ ثِمَارِ هَذَا الْحُبِّ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ..."، فَذَكَرَ مِنْهُمْ: "... رَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ..."(الْبُخَارِيُّ).

 

وَعِنْدَمَا اشْتَرَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَلَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِخَدِيجَةَ وَهَبَتْهُ لَهُ فَتَبَنَّاهُ الرَّسُولُ، فَخَرَجَ أَبُو زَيْدٍ وَعَمُّهُ لِفِدَائِهِ، فَلَمَّا وَصَلَا لِمَكَّةَ سَأَلَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  وَذَهَبَا إِلَيْهِ وَخَاطَبَاهُ بِلُغَةٍ رَاقِيَةٍ جِدًّا، قَالَا: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا ابْنَ سَيِّدِ قَوْمِهِ، أَنْتُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَجِيرَانُهُ، تَفُكُّونَ الْأَسِيرَ، وَتُطْعِمُونَ الْجَائِعَ، وَتُغِيثُونَ الْمَلْهُوفَ، وَقَدْ جِئْنَاكَ فِي ابْنٍ لَنَا عِنْدَكَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا بِفِدَائِهِ، فَإِنَّا سَنَدْفَعُ لَكَ فِي الْفِدَاءِ مَا تَشَاءُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: وَمَنْ هُوَ؟ فَقَالَا: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: فَهَلَّا غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: أَدْعُوهُ فَأُخَيِّرُهُ فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِنِ اخْتَارَنِي فَمَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنْ يَخْتَارُنِي أَحَدًا. فَقَالَا: قَدْ زِدْتَنَا عَلَى النَّصَفِ وَأَحْسَنْتَ.

 

فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أَبِي. وَمَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عَمِّي. فَقَالَ لِزَيْدٍ: "فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا". وَلَمْ يُقَدِّمْ كَشْفَ حِسَابٍ طَوِيلٍ.

 

هَذَا الْكَلَامُ مُهِمٌّ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ-، مُهِمٌّ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ يُمَثِّلُ مِفْتَاحَ التَّرْبِيَةِ بِالْحُبِّ.

 

قَالَ زَيْدٌ: "مَا أَنَا بِالَّذِي يَخْتَارُ عَلَيْكَ أَحَدًا، أَنْتَ مِنِّي مَكَانَ الْأَبِ وَالْعَمِّ".

 

مَا الَّذِي جَعَلَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ يَخْتَارُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دُونَ وَالِدِهِ، أَلَيْسَ ذَلِكَ سَبَبَ الْحُبِّ وَالْقُرْبِ وَالْمُعَامَلَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي حَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَالَّتِي أَثْمَرَتْ فِي مَا بَعْدُ بَطَلًا شَامِخًا، دَافَعَ عَنِ الدِّينِ وَقَادَ جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ وَخُتِمَتْ مَسِيرَةَ حَيَاتِهِ بِالشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ.

 

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ الْهَدَفَ مِنْ تَنَوُّعِ أَسَالِيبِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّوْجِيهِ لِلطِّفْلِ هُوَ إِعْدَادُ شَخْصِيَّتِهِ وَفْقًا لِتَعَالِيمِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ الْحَنِيفِ؛ فَيَكُونُ إِنْسَانًا رَاشِدًا، وَفَرْدًا نَاضِجًا، وَعُضْوًا فَاعِلًا فِي الْمُجْتَمَعِ.

 

وَالتَّرْبِيَةُ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ تُسَاهِمُ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَهْدَافِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ عَلَى الْوَالِدَيْنِ أَنْ يُشْعِرَا أَطْفَالَهُمْ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنْهُمْ لِيَتَحَقَّقَ الْأَمْنُ النَّفْسِيُّ الَّذِي فَقَدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَبْنَاءِ بِسَبَبِ الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ.

 

وَالتَّرْبِيَةُ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ تَصْنَعُ طِفْلًا مُحَاوِرًا يَسْأَلُ لِيَسْتَفِيدَ فَيَتَعَلَّمَ وَيَنْضَجَ سَرِيعًا، وَالتَّرْبِيَةُ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ تَجْعَلُ الطِّفْلَ إِلَى الْمُسَارَعَةِ فِي تَنْفِيذِ التَّكَالِيفِ وَالتَّوْجِيهَاتِ وَالِابْتِعَادِ عَنِ الْمَحَاذِيرِ وَمَا قَدْ تُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ أَخْطَارٍ طَوَاعِيَةً؛ لِأَنَّهُ لَامَسَ حُبَّ وَالِدَيْهِ وَإِرَادَتَهُمُ الْخَيْرَ لَهُ وَحِرْصَهُمْ عَلَيْهِ.

 

وَالتَّرْبِيَةُ بِالْحُبِّ تَدْفَعُ الْأَبْنَاءَ إِلَى مُشَاوَرَةِ آبَائِهِمْ وَطَرْحِ مَشَاكِلِهِمْ عَلَيْهِمْ فَيَجِدُونَ الْعِلَاجَ الشَّافِيَ وَالتَّوْجِيهَ النَّاصِحَ فَتَقِلُّ حَيْرَتَهُمْ وَتَهْدَأُ نُفُوسُهُمْ، وَالتَّرْبِيَةُ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ تُكْسِبُ الطِّفْلَ السُّلُوكَ الْجَيِّدَ وَالْخُلُقَ الْقَوِيمَ، فَالطِّفْلُ يُدْرِكُ أَنَّ ثَمَرَةَ الْحُبِّ وَالْقُرْبِ هِيَ السُّلُوكُ السَّوِيُّ وَالتَّصَرُّفُ السَّلِيمُ وَالْبَحْثُ عَنْ رِضَا وَالِدَيْهِ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ.

 

(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الْفُرْقَانِ: 74].

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْآبَاءُ/ أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: إِنَّ تَرْبِيَةَ الْأَبْنَاءِ بِحَاجَةٍ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْوَعْيِ وَالْحِكْمَةِ وَالْجُهْدِ، كَمَا أَنَّهَا بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْحُبِّ؛ كَوْنُهُ أَوَّلَ خُطْوَةٍ لِإِشْبَاعِ الْعَاطِفَةِ عِنْدَ أَطْفَالِنَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَسَاسُ فِي تَكْوِينِ شَخْصِيَّتِهِمْ، وَعَلَيْهِ لَابُدَّ مِنَ التَّعْبِيرِ الْجَيِّدِ عَنْ هَذَا الْحُبِّ بِالتَّوْجِيهِ السَّلِيمِ وَالنُّصْحِ السَّدِيدِ، وَإِشْعَارِ الطِّفْلِ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ وَبِمَكَانَتِهِ فِي نَفْسِ وَالِدَيْهِ، وَيَكُونُ كَذَلِكَ بِمُمَازَحَتِهِ وَضَمِّهِ وَتَقْبِيلِهِ؛ فَقَدْ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: "مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ"((رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) (5997)).

 

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: 5998).

 

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَقْبَلَهُ ذَاتَ يَوْمٍ صِبْيَانُ الْأَنْصَارِ، وَالْإِمَاءُ، فَقَالَ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكُمْ"(رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: 14043)، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ شُعَيْبٌ الْأَرْنَاؤُوطُ".

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات
Lbo6Cw7tDeYU9lD6d3AcfjmnQ8dDV4KFQlYpbAbz.doc
FVyOBUkQkSNS8pe6oAwOzPFcJRsFcrScpx70ld0O.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life