اقتباس
من المناسب قبل الكلام على ما ذكره بعض الفقهاء من أركان لخطبة الجمعة بالتفصيل التمهيد له بذكر الخلاف في مبدأ إيجاب توفر أركان لها وما تحصل به؛ لأن ما بعده من تفصيل القول في كل ركن على حدة ينبني عليه، وهذا الخلاف على...
من المناسب قبل الكلام على ما ذكره بعض الفقهاء من أركان لخطبة الجمعة بالتفصيل التمهيد له بذكر الخلاف في مبدأ إيجاب توفر أركان لها وما تحصل به؛ لأن ما بعده من تفصيل القول في كل ركن على حدة ينبني عليه، وهذا الخلاف على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ليس لها أركان، بل تحصل بما يقع عليه اسم الخطبة عرفا، وبهذا قال أبو يوسف(1)، ومحمد بن الحسن(2) صاحبا أبي حنيفة(3)، والإمام مالك في رواية عنه، وهو المشهور من مذهب أصحابه(4).
وهو الظاهر من قول شيخ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمة الله- حيث جاء في الاختيارات: "ولا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت، بل لا بد من مسمى الخطبة عرفا، ولا تحصل باختصار يفوت به المقصود"(5).
واختاره الشيخ السعدي(6) -رحمه الله- حيث قال في معرض كلامه على الخطبتين: "والصواب أنه إذا خطب خطبة يحصل بها المقصود والموعظة أن ذلك كاف وإن لم يلتزم بتلك المذكورات، نعم من كمال الخطبة الثناء على الله وعلى رسوله... "(7).
وقال عندما سئل عن اشتراط الأركان الأربعة في كل من الخطبتين: "اشتراط الفقهاء والأركان الأربعة في كل من الخطبتين فيه نظر، وإذا أتى في كل خطبة بما يحصل به المقصود من الخطبة الواعظة الملينة للقلوب فقد أتى بالخطبة، ولكن لا شك أن حمد الله، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقراءة شيء من القرآن من مكملات الخطبة، وهي زينة لها"(8)، وبه قال ابن حزم(9).
القول الثاني: لا تحصل إلا بتوفر أركان فيها منها: حمد الله، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقراءة آية، والوصية بتقوى الله، وبهذا قال الشافعية في المشهور من مذهبهم(10)، وهو المذهب عند الحنابلة(11).
ولهم أقوال أخرى وتفصيلات سيأتي الكلام عليها عند ذكر كل ركن على حدة -إن شاء الله تعالى-.
القول الثالث: ليس لها أركان، بل تحتمل بذكر الله -تعالى- على قصد الخطبة، قل الذكر أو كثر، حتى لو سبح أو هلل أو حمد الله -تعالى- أجزأ، وبهذا قال الإمام أبو حنيفة(12)، والإمام مالك في رواية عنه(13).
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
استدلوا بأدلة من السنة، والمعقول.
أولا: من السنة:
ما رواه مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"(14) (15).
وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرنا أن نصلي كما صلى، ويدخل في ذلك الخطبة للجمعة، ولم يكن يقتصر فيها على تسبيحة أو تسبيحتين(16).
ثانيا: من المعقول:
1- أنه إذا وجب اسم الخطبة وجب الرجوع إلى العادة والعرف، والعرب تفرق بين الخطبة وغيرها، ولا تسمي من قال: سبحان الله، ولا إله إلا الله، وإن كرر خاطبا(17).
مناقشة هذين الدليلين: أن المتأمل فيهما يتضح له أنهما عبارة عن رد على القول الثالث، وهو قول الإمام أبي حنيفة، وليس فيهما دلالة واضحة على القول الأول- والله أعلم-.
2- أن المشروط هو الخطبة، والخطبة في المتعارف اسم لما يشتمل على تحميد الله، والثناء عليه، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والدعاء للمسلمين، والوعظ والتذكير لهم، فينصرف المطلق إلى المتعارف(18).
أدلة أصحاب القول الثاني:
استدلوا بأدلة من الكتاب والسنة.
أولا: من الكتاب:
قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)(19).
وجه الدلالة: أن الله أمر بالسعي إلى ذكره وهو الخطبة، وقد فسره بفعله كما سيأتي، فيجب الرجوع إلى تفسيره(20).
ثانيا: من السنة:
1- ما رواه جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "كانت صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قصدا، وخطبته قصدا، يقرأ آيات من القرآن، ويُذكّر الناس"(21) (22).
2- ما رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس، يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله"(23) (24).
وغيرهما من الأحاديث الواردة في هذا المعنى.
مناقشة هذه الأدلة:
تناقش من ثلاثة وجوه:
الأول: أن هذا مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، بل على الاستحباب على القول الراجح(25) ولم يرد ما يؤيد حمله على الوجوب.
الثاني: أن الاستدلال بهذه الأدلة على الركنية قد يتحقق لو كان هناك تصريح بمداومته صلى الله عليه وسلم على الإتيان بهذه الأمور في جميع خطبه، ولكن ذلك لم يكن هنا؛ لأن عبارة: "كان... " لا تدل على الدوام على أصح القولين، وإنما تدل على التكرار والعادة الماضية، فلا تصلح دليلا على وجوب الفعل حتى عند من يقول: إن المواظبة دليل الوجوب، فلو قال قائل: "كان زيد يقري الضيف" فإنه يدل على أن عادته وغالب أحواله، لا أنه لا يتخلف عن ذلك البتة(26).
الثالث: أن من أهل العلم من يقول: إن المداومة -على تقدير ثبوتها هنا- لا تدل على الوجوب(27) وهو الأظهر.
أدلة أصحاب القول الثالث:
استدلوا بأدلة من الكتاب والسنة وآثار الصحابة -رضي الله عنهم-:
أولا: من الكتاب:
قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)(28).
وجه الدلالة: أن الواجب في الآية هو ذكر الله، وذكر الله -تعالى- معلوم لا جهالة فيه، فلم يكن مجملا؛ لأنه تطاوع العمل من غير بيان يقترن به، فتقييده بذكر طويل لا يجوز إلا بدليل(29).
مناقشة هذا الوجه: يناقش بأنه لا إشكال في معرفة ذكر الله -تعالى- عموما، ولكنه غير محدد المقدار، فيرجع إلى ما يناسب مقصود الشارع من الخطبة وما يسمى خطبة عرفا؛ لأن ما لم يرد تحديده في الشرع يرجع فيه إلى العرف -والله أعلم-.
ثانيا: من السنة:
1- ما رواه البراء(30) بن عازب -رضي الله عنه- قال: "جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، علمني عملا يدخلني الجنة، فقال: لئن أقصرت الخطبة لقد أعرضت(31) المسألة" الحديث(32).
وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمى كلام الأعرابي خطبه مع قلته، فدل على أن اسم الخطبة يقع على ذلك وأمثاله، وليس على الكلام الطويل فقط(33) فتصح به الجمعة.
مناقشة هذا الدليل: نوقش بأن تسمية النبي -صلى الله عليه وسلم- لكلام الأعرابي هذا خطبة أسلوب من أساليب العرب غير الخطبة الشرعية المعروفة؛ لأن السؤال لا يسمى خطبة شرعا، ولذلك لو ألقى مسألة على الحاضرين لم يكف ذلك بالاتفاق(34).
2- ما رواه عدي(35) بن حاتم -رضي الله عنه-: "أن رجلا خطب عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله"(34) (35).
وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سماه خطيبا بهذا القدر القليل من الكلام، فدل على أن خطبة الجمعة تحصل بمثل ذلك(36).
مناقشة هذا الدليل: نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن الصحيح من أقوال أهل العلم كما ذكر النووي أن إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- على الرجل كان بسبب اختصاره حيث قال: "والصواب أن سبب النهي أن الخطبة شأنها البسط والإيضاح، واجتناب الإشارات والرموز"(37) وقد ساق (أي النووي) الأدلة على أن الإنكار ليس لأجل التشريك في الضمير، وبهذا يكون الحديث دليلا عليهم لا لهم.
الوجه الثاني: أنه ليس في الحديث ما يدل على أن الرجل اقتصر على هذا القدر، فيحتمل أن هذا مطلع خطبته، وأن الراوي ذكر منها ما أنكره النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه -والله أعلم-.
3- ما ورد من الأحاديث في الحث على تقصير الخطبة، ومن أبرزها ما روي عن عمار(38) -رضي الله عنه- أنه خطب فأوجز، فقيل له: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست(39) فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة(40) من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحرا"(41).
وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ندب في هذا الحديث تقصير الخطبة، وقول: (الحمد لله) مثلا كلمة وجيزة تحتها معان جمة تشتمل على قدر الخطبة وزيادة، والمتكلم بقوله: (الحمد لله) كالذاكر لذلك كله، فيكون ذلك خطبة لكنها وجيزة، ويتحقق بها ما ندب إليه من التقصير(42).
مناقشة هذا الدليل:
يناقش من وجهين:
الوجه الأول: أن تقصير الخطبة المندوب إليه بهذا الحديث وأمثاله ليس إلى هذا الحد بالاقتصار على (الحمد لله) مثلا، فإن هذا لا يسمى خطبة لا شرعا ولا لغة ولا عرفا، بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في خطبته آيات من القرآن، ويُذكّر الناس، ويحمد الله ويثني عليه، إلى غير ذلك في خطبته كما تقدم في حديثي جابر بن سمرة وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-(43) ولكنه لا يطيل إطالة مملة، ولا يمكن أن يندب إلى شيء ويخالفه بفعله -والله أعلم-.
الوجه الثاني: على تقدير التسليم بأن قول (الحمد لله) يسمى خطبة بناء على ما يتضمنه من المعاني، فإن ذلك مما نهى عنه الشارع لاختصاره الشديد كما ذكر النووي في الوجه الأول من مناقشة الدليل السابق.
ثالثا: من آثار الصحابة -رضي الله عنهم-:
1- ما روي عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن لما استخلف خطب في أول جمعة، فلما قال: "الحمد لله"، أرتج عليه، فقال: "أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وإن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المكان مقالا، وستأتيكم الخطب من بعد، وأستغفر الله لي ولكم"، ونزل وصلى بهم الجمعة(43).
وجه الدلالة: أن عثمان -رضي الله عنه- قد اقتصر على هذا الذكر القليل في خطبة الجمعة، وكان ذلك بمحضر من المهاجرين والأنصار، وصلوا خلفه، وما أنكروا عليه صنيعه مع أنهم كانوا موصوفين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان هذا إجماعا من الصحابة -رضي الله عنهم- على أن الشرط هو مطلق ذكر الله -تعالى-، ومطلق ذكر الله -تعالى- مما ينطلق عليه اسم الخطبة لغة، وإن كان لا ينطلق عليه عرفا(44).
مناقشة هذا الدليل: تكلم ابن العربي بكلام جيد جدا في مناقشة هذا الأثر، وأنه كذب حيث قال: "وحكى المؤرخون عن عثمان كذبة عظيمة: أنه صعد المنبر فأرتج منه، فقال كلاما منه: وأنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، فيالله والعقول إن قلنا اليوم لا يرتج عليه، فكيف عثمان ! لا سيما وأقوى أسباب الحصر في الخطبة أنه لا يدري ما يرمي السامعين ويميل قلوبهم؛ لأنه يقصد الظهور عندهم، ومن كان خطبته لله فليس يحصر عن حمد وصلاة وحض على خير، وتحذير من شر، أي شيء كان، ولم يخلق من تحصير إلا من كان له غرض غير الحق، فربما أعانه عليه بالفصاحة فتنة، وربما خلق له العي تعجيزا"(45).
2- ما روي عن الحجاج(46) أنه لما أتى العراق صعد المنبر فقال: "الحمد لله"، فأرتج عليه، فقال: "يا أيها الناس قد هالني كثرة رؤوسكم، وإحداقكم إلي بأعينكم، وإني لا أجمع عليكم بين الشح والعي، إن لي نعما في بني فلان فإذا قضيتم الصلاة فانتهبوها"، ونزل وصلى معه من بقي من الصحابة كابن عمر، وأنس بن مالك -رضي الله عنهم-(47).
وجه الدلالة: أن ابن عمر وأنسا -رضي الله عنهم- صليا مع الحجاج مع اقتصاره في خطبته على هذا الكلام القليل، ولو كان غير مجزئ لأنكرا عليه ولم يصليا معه، لعدم الخطبة المجزئة.
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه على تقدير ثبوته فإنه تقرير صحابة، وهو مختلف بالاحتجاج به، لا سيما وقد خالف فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- كما تقدم، حيث كان يخطب بأكثر من ذلك، ويذكر الناس، كما خالف العرف.
الترجيح:
عند التأمل في الأقوال والأدلة في هذه المسألة يتضح أن الأظهر من الأقوال فيها -والله أعلم بالصواب- هو القول بأنه ليس لخطبة الجمعة أركان معينة بعينها غير تحصيل مقصودها وهو الوعظ والتذكير، فتحصل بما يطلق عليه خطبة في العرف؛ لأن المأمور به هو ذكر الله وتذكير الناس، ولم يرد تحديده في الشرع، وأما ما ذكره أصحاب القول الثاني فهو مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، كما أن القول بالركنية يقتضي بطلان الخطبة التي لا تشتمل على الأركان أو أحدها، وبالتالي بطلان صلاة الجمعة بأكملها؛ لأن الخطبة شرط لها كما تقدم في أول البحث، والقول بالبطلان دون دليل صريح وواضح الدلالة فيه صعوبة بالغة.
_____________
التعليقات