عناصر الخطبة
1/ديمومة الطاعة من مقاصد الشريعة 2/أهمية المداومة على الأعمال الصالحة 3/قليل دائم خير من كثير منقطعاقتباس
إنَّ المواظبةَ على قليلِ العملِ الصالحِ أمنةٌ ربانيةٌ للعبدِ، وسلامةٌ عاصمةٌ له بأمرِ اللهِ مِن الزيغِ والضلالِ, وتلك المواظبةُ تقتضي رعايةَ الفرائضِ والواجباتِ، وتركَ المحرماتِ، وتعاهدَ التوبةِ حالَ الإخلالِ بالواجبِ أو انتهاكِ المحرمِ، كما تقتضي تلك المواظبةُ الإبقاءَ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ ذي الجلالِ والإكرامِ، والطَّوْلِ والإنعامِ، عمّ بخيرِه الأنامَ، ووسعت مغفرتُه الآثامَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ الملِكُ السلامُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آله وصحبِه الكرامِ.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها المؤمنون: ديمومةُ العملِ الصالحِ مقصدٌ شرعيٌّ كليٌّ أصيلٌ، وخيرٌ غَدِقٌ مباركٌ؛ تُصْبَغُ به الحياةُ بغايةِ العبادةِ التي لأجلِها خَلَقَ اللهُ الخلقَ، وتكونُ هي اللونَ السائدَ فيها، كما قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام: 162]، فينعمُ فيها المؤمنُ برضى المولى وهناءِ العيشِ، ويذوقُ الجنةَ المعجَّلةَ مع ما ينتظرُه من جنةِ الآخرةِ.
ولأجلِ بقاءِ ذلك الدوامِ التعبديِّ نَهَتْ الشريعةُ عن التشددِ في العبادةِ، وبيّنتْ أن خيرَها ما دامَ عليها صاحبُها وإن قلَّتْ، عن عائشةَ -رضي اللهُ عنها-: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يَحْتَجِرُ حصيرًا بالليلِ فيصلي عليه، ويبسطُه بالنهارِ فيجلسُ عليه، فجعلَ الناسُ يثوبون إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فيصلُّون بصلاته حتى كثروا، فأقبلَ فقال: "يا أيها الناسُ! خذوا من الأعمالِ ما تطيقون؛ فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى اللهِ ما دامَ وإنْ قَلَّ", وكان آلُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- إذا عملوا عملًا أثبتوه"(رواه البخاريُّ ومسلمٌ، واللفظُ له).
وذلك يفْصِحُ عن كمالِ شفقتِه -صلى الله عليه وسلم- ورأفتِه بأمتِه, إذ أرشدهم إلى ما يصلحُهم, وهو ما يُمْكِنُهم الدوامُ عليه بلا مشقةٍ؛ لأنَّ النفسَ تكونُ فيه أنشطَ، والقلبُ منشرحٌ، فتستمرُ العبادةُ، ويحصلُ مقصودُ الأعمالِ، وهو الخضوعُ فيها، واستلذاذُها، والدوامُ عليها، بخلافِ مَن تعاطى مِن الأعمالِ ما لا يمكنُه الدوامُ، وما يشقُّ عليه، فإنه مُعَرَّض لِأَنْ يتركَه كلَّه أو بعضَه، أو يفعلَه بكُلْفةٍ أو بغيرِ انشراحِ القلبِ فيفوتَه الخيرُ العظيمُ, قال طاووسٌ: "أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَخَفُّهَا"، قَالَ ابنُ عبدِالبرِّ: "يُرِيدُ: أَخَفَّهَا عَلَى الْقُلُوبِ، وَأَحَبَّهَا إِلَى النُّفُوسِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يَدُومَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ عَادَةً وَخُلُقًا".
عبادَ اللهِ: بدوامِ العبادةِ -وإنْ قلَّتْ- سلامةٌ مما يُفضي إليه إثقالُها مِن تبغيضِها إلى النفسِ, ولُحُوقِ مَنْقَصَةِ المللِ والفتورِ ومَعَرَّةِ الانقطاعِ, والتي قد تحمِلُ في معانيها إعراضَ العبدِ عن اللهِ بعد الإقبالِ عليه، والرجوعَ فيما بَذَلَه مِن نفسِه لله، كما أنَّ ذلك قد يكونُ حاملًا لتركِ الفرائضِ، وفاتحًا لبابِ التهاونِ في عملِ الصالحاتِ؛ وكفى بذلك شُؤْمًا.
وذلك الدوامُ حبلٌ متينٌ موصولٌ باللهِ لا يَنْفَصِمُ أبدًا؛ به يكونُ الثباتُ على الصراطِ المستقيمِ، والهدايةُ إلى حسنِ الختامِ، والبشارةُ بالوصولِ ووراثةِ الجنانِ، كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "سَدِّدُوا وقارِبوا وأبشروا؛ فإنه لا يُدْخِل أحدًا الجنةَ عملُه", قالوا: ولا أنت يا رسولَ اللهِ؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بمغفرةٍ ورحمةٍ"(رواه البخاريُ), قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: "وأحبُّ العملِ ما داومَ عليه صاحبُه؛ فإنَّ الأعمالَ بالخواتيمِ، بخلافِ عملُ الأُجَرَاءِ في الدنيا؛ فإنَّ الأجرةَ تَتَقَسَّطُ على المنفعةِ، فإذا عَمِلَ بعضَ العملِ استحقَّ مِن الأجرةِ بقدْرِ ما عَمِلَ, ولو لم يعملْ إلا قليلًا، فمَن خُتِمَ له بخيرٍ استحقَّ الثوابَ، وكفَّرَ اللهُ بتوبتِه سيئاتِه، ومَن خُتِمَ له بكفْرٍ أحبطتْ رِدَّتُه حسناتِه؛ فلهذا كان العملُ الذي داومَ عليه صاحبُه إلى الموتِ خيرًا ممن أعطى قليلًا ثم أكْدى, وكلّفَ نفسَه ما لا يطيقُ, كما يفعلُه كثيرٌ مِن العمّالِ".
وقليلُ العبادةِ الدائمُ ذو أثرٍ عظيمٍ في صلاحِ القلبِ؛ إذ مداومُ الخيرِ ملازمٌ للبِرِّ والذكر, والمراقبةِ والنيةِ والإخلاصِ والإقبالِ على اللهِ -سبحانَه-، فكأنَّه يترددُ إلى بابِ الطاعةِ كلَّ وقتٍ، فلا يُنسى من البِرِّ لتردُّدِه، وليس كمَن لازَمَ البابَ يومًا دائمًا ثُمَّ انقطعَ شهرًا كاملًا.
وبالدوامِ يُثْمِرُ القليلُ ويباركُه اللهُ ليزيدَ على الكثيرِ المنقطعِ أضعافًا كثيرةً؛ بدوامِ أجرِه، وفتحِه أبوابًا مِن الخيراتِ لم تكنْ مِن قَبل, وذلك مِن ثوابِ الإبقاءِ على الحسناتِ، كما قال -تعالى-: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)[الشورى: 23], كما أن استشعارَ المؤمنِ قلةَ عملِه حاملٌ له على انكسارِ قلبِه، واستصحابِ تقصيرِه وعجزِه، وعدمِ إدلائِه بالطاعةِ واغترارِه بها؛ مما يُصان به عملُه مِن آفة العجبِ والرياءِ، ويكونُ قبولُه وبركتُه حينئذٍ أحرى ما يكونُ.
عبادَ اللهِ: إنَّ المواظبةَ على قليلِ العملِ الصالحِ أمنةٌ ربانيةٌ للعبدِ، وسلامةٌ عاصمةٌ له بأمرِ اللهِ مِن الزيغِ والضلالِ, وتلك المواظبةُ تقتضي رعايةَ الفرائضِ والواجباتِ، وتركَ المحرماتِ، وتعاهدَ التوبةِ حالَ الإخلالِ بالواجبِ أو انتهاكِ المحرمِ، كما تقتضي تلك المواظبةُ الإبقاءَ على النوافلِ التي يَسْتَمِرُّ عليها العبدُ دون مللٍ؛ كقراءةٍ يوميةٍ للقرآنِ مدةَ ثلثِ ساعةٍ، أو قيامِ ركعةٍ بعد العشاءِ، أو صدقةٍ ببضع من المالِ، أو دعاءٍ أو استغفارٍ شخصيٍّ أو عامٍّ للمؤمنين لبِضْعِ دقائقَ، أو تَبَسُّمٍ في وجهِ أخيه المسلمِ وابتدارِه بالسلامِ، أو تعلُّمِ مسألةِ دينيةٍ، أو إرسالِ فائدةٍ أو نصيحةٍ، أو صيامِ ثلاثةِ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ، أو قيامٍ ببرنامجٍ دعويٍّ في الأسرةِ أو الحيِّ ولو في العامِ مرةً، أو أداءِ عمرةٍ سنويةٍ.
ولا يتعارضُ الدوامُ على طاعةِ النافلةِ مع الازديادِ منها حالَ مواسمِ الخيرِ كرمضانَ وعشرِ ذي الحجةِ, واستغلالِ نشاطِ النفسِ وإقبالِها على الطاعةِ دون الإثقالِ عليها, بما يسبِّبُ لها المللَ أو المشقةَ, فذاك كان إرشادَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، كما هو حالُه, قال عمرُ -رضي اللهُ عنه-: "إن لهذه القلوبِ إقبالًا وإدبارًا, فإذا أقبلتْ فخذوها بالنوافلِ، وإذا أدبرتْ فألزموها الفرائضَ"، وقال ابنُ مسعودٍ -رضي اللهُ عنه-: "إن لهذه القلوبِ شهوةً وإقبالًا، وإنَّ لها فترةً وإدبارًا، فخذوها عند شهوتِها وإقبالِها، وذَرُوها عند فتْرتِها وإدبارِها", وقال يحيى بنُ جَعْدةَ: "كان يُقال: اعملْ وأنت مشفقٌ وَدَعِ العملَ وأنت تشتهيه، عملٌ صالحٌ قليلٌ تدومُ عليه"، وقال ابنُ عثيمينَ: "والذي ينبغي للإنسانِ أن لا يَخرُجَ من العبادةِ إلا وهو أرغبُ بها مِن دخولِه فيها؛ حتى يؤديَها على يسرٍ وسهولةٍ ونشاطٍ".
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.
أما بعدُ: فاعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: إنَّ الديمومةَ على العملِ الصالحِ -وإنْ قلَّ- ذو أثرٍ حَسَنِ قويِّ المفعولِ, وطِيبِ العاقبةِ على النفسِ والمجتمعِ؛ فالواردُ الدائمُ القليلُ يؤثِّرُ في الصخْرِ على صلابتِه, فكيف بالقلوبِ وهي مُضَغٌ من اللحمِ؟! قال الْفَضْلُ بْنُ سَعِيدِ: " كَانَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَعَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ، فَمَرَّ بِمَاءٍ يَنْحَدِرُ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ عَلَى صَخْرَةٍ قَدْ أَثَّرَ الْمَاءُ فِيهَا، فَقَالَ: الْمَاءُ عَلَى لَطَافَتِهِ قَدْ أَثَّرَ فِي صَخْرَةٍ عَلَى كَثَافَتِهَا!, وَاللَّهِ لَأَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ؛ فَطَلَبَ فَأَدْرَكَ".
وجَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى حَلَقَةِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ يَطْلُبُ الْكَلَامَ، فَسَأَلَتْهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا فِيهَا شَيْئًا مِنَ الْجَوَابِ، فَانْصَرَفْت إِلَى حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، فَسَأَلتهُ فَأَجَابَهَا, فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: غَرَّرْتُمُونِي، سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ، فَلَمْ تُحْسِنُوا شَيْئًا، فَقَامَ أَبُو حَنِيفَةَ فَأَتَى حَمَّادًا، فَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: أَطْلُبُ الْفِقْهَ قَالَ: تَعَلَّمْ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَسَائِلَ وَلَا تَزِدْ عَلَيْهَا شَيْئًا, حَتَّى يَتَّفِقَ لَكَ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ فَفَعَلَ، وَلَزِمَ الْحَلَقَةَ حَتَّى فَقِهَ، فَكَانَ النَّاسُ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ.
عبادَ اللهِ: ولئِنْ كان التأكيدُ على التَشَبُّثِ بقليلِ العملِ الصالحِ من لَدُنِ عهدِ القرونِ المفضَّلةِ, فإنَّ التأكيدَ عليه زمنَ فتنِ الشبهاتِ والشهواتِ والأثرةِ وانفتاحِ قنواتِ التواصلِ والتقنيةِ، وانكبابِ الناسِ على الدنيا، وتنافسِهم فيها، وكثرةِ الانشغالِ بها، وانحسارِ العلمِ، وكثرةِ المتساقطين؛ آكدُ وألزمُ، والمعصومُ مَن عَصَمَه اللهُ، والمخذولُ مَن خَذَلَه؛ (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[فصلت: 46].
التعليقات