عناصر الخطبة
1/الاختلاف يبن الناس سنة قدرية 2/دلالة الاختلاف على عظمة الله 3/بعض غايات الحوار ومقاصده وأهدافه 4/بعض آداب الحوار والمجالسةاقتباس
المتحاوران الصادقان يعتقدان بأن الخطأ سمة بشرية، وأن العصمة للأنبياء -عليهم السلام- فيما يُبلغون عن ربهم -سبحانه-، ولذلك فكل محاور يجب أن يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب. وربما كان من أهداف الحوار: تقريب...
الخطبة الأولى:
الاختلاف يبن الناس سنة كونية قدرية، فالبشر مختلفون في صورهم وألوانهم وألسنتهم وطبائعهم ومدركاتهم ومعارفهم وعقولهم، فلكل إنسان بصمة في يده وعينه، بل في صوته ورائحته.
هذا الاختلاف آية من آيات الله تدل على عظمة الخالق -سبحانه-، وكمال قدرته: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) [الروم: 22].
وإذا كان الناس مختلفين في ظواهرهم ومداركهم وطبائعهم فهم أيضا مختلفون في آرائهم وتوجهاتهم وقناعاتهم: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود: 118 - 119].
والناس مع هذا الاختلاف يتعايشون ويتجالسون ويتحاورون، ويتفقون ويختلفون، والحوار بين الناس اليوم في مجالسهم ومنتدياتهم ومراسلاتهم عبر الأجهزة المعاصرة يأخذ طابعاً جديداً في كثرته وتطوره، والغاية منه، فقد تكون الغاية من تلك المحاورات هادفة وجادة، وقد تكون الغاية تفاهة وساقطة.
وغاية الحوار الجاد التعاون بين المتحاورين للوصول للحق والتنبيه للخطأ، وزيادة الوعي ليعرف كل طرف ما عند الآخر.
والمتحاوران الصادقان يعتقدان بأن الخطأ سمة بشرية، وأن العصمة للأنبياء -عليهم السلام- فيما يُبلغون عن ربهم -سبحانه-، ولذلك فكل محاور يجب أن يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب.
وربما كان من أهداف الحوار: تقريب وجهات النظر للوصول لحل أو نتيجة ترضي الجميع، وليس من أهداف الحوار الناجح التوصل لنتيجة واحدة أو قناعة واحدة يقبلها الطرفان، وقد كان السلف الصالح يعذر بعضهم بعضاً في المسائل الاجتهادية، ولا يكلف بعضهم بعضاً أن يوافقه في فهمه.
إن عدم اقتناع الطرف الآخر لا يعني فشل الحوار أو عدم أهميته، فإن المحاور مطالب بتبليغ حجته، وليس مطالباً بإقناع الآخرين، ولذلك كانت مهمة الأنبياء مع قومهم تبليغ الرسالة فقط، أما هدايتهم فليست لهم: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) [البقرة: 272].
أيها الإخوة: وهذه بعض آداب الحوار والمجالسة، أذكر بها نفسي وإياكم؛ فمن أهم آداب المحاورة والمجالسة: احترام الطرف الآخر، فإن كسب القلوب مقدَّمٌ على كسب المواقف، وقد أمرنا الله بالإحسان عند المجادلة فقال: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125]، وقال: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء: 53]، وقال: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة: 83].
فالحوار الذي يقوم على أسس الطعن والإسقاط لشخصية المقابل بالسخرية والاتهام والإثارة والاستفزاز والتجريح حوار فاشل، وهو يدل على ضعف الأدب، وضعف التربية، بل على ضعف الديانة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء" (والطعان الذي يطعن في الناس في أعراضهم، وفي نياتهم ومقاصدهم).
إن أعظم آفات الحوار: الغرور والكبر والإعجاب بالنفس، والكبر والغرور سبب لرد لحق، قال صلى الله عليه وسلم: "الكبر بطر الحق وغمط الناس".
ومن آداب الحوار المهمة: حسن القصد، وتحري العدل، فمن كان يريد بحواره العلو على الناس، والانتصار للنفس، فلن يوفق للوصول إلى الحق، ومن كان حسن النيّة حسن القصد وفق وسدد، ولهذا كان الإمام الشافعي -رحمه الله- يقول: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويُسدَّد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه".
والاعتراف بالخطأ فضيلة، وثقافة عالية، وهو دليل القوة والشجاعة، والثقة بالنفس.
أيها الإخوة: الحوار الصحي هو الذي يعتمد على التأهيل العلمي والمعرفي في ذات التخصص، فالحوار مع الجاهل أو غير المختص حوار عقيم فهو يعترض ويخطئ ويغلط بلا علم، ولقد قال الشافعي متهكماً: "ما جادلت عالماً إلا وغلبته، وما جادلني جاهلٌ إلا وغلبني".
ومن آداب الحوار: حسن الاستماع والإصغاء إلى الآخرين، والانصات والاستماع فن عزيز قليل في الناس، وهو دليل كمال العقل، فالعاقل اللبق يحسن الانصات كما يحسن التكلم، لا يقاطع متحدثاً، ولا يستأثر بالحديث، العاقل الحكيم يعلم أن الحوار مناوبة وليس مناهبة، في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدِّث حديثًا لو شاء العادُّ أن يحصيه لأحصاه، لم يكن يسرد الحديث كسردكم".
ومن حسن الأدب عند الحوار: تجنب رفع الصوت والغلظة والحدة، وارتفاع الصوت يؤذي الآخرين، وهو دليل الرعونة وضعف الحجة، والصوت الهادئ دليل الاتزان والعقل والثقة والحكمة، وفي المثل: الماء العميق أهدأ، فالضجيج والصخب على الشواطئ حيث الصخور والمياه الضحلة، والهدوء في الماء العميق وفيه تكون الجواهر والدرر والنفائس، وقول الله أبلغ: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 19].
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: إن من أهم آداب الحوار والمجالسة: ترك التعصب أي لون من ألوان التعصب؛ فالتعصب والتحزب أثَّر في حياة المسلمين تأثيرًا كبيرًا، يدرك ذلك كل عاقل، فمن الناس من يتعصب لمذهب أو حزب أو جماعة أو فكرة، ومن الناس من يتعصب لوطن أو بلدة أو قبيلة، ومنهم من يتعصب لناد رياضي بحيث يحيط بعقله، لا يستطيع التحرر منه؛ بل يدور في فلكه، وربما أورث التعصب شيئاً من العناد، وقلة البصيرة، وقد قيل: "لا تناقش عاشقاً ولا متعصباً، فالأول يحمل قلباً أعمى، والثاني يحمل عقلاً مغلقاً".
المتعصب ضعيف في إرادته، قد سلم عقله لغيره، وأغلق على نفسه نوافذ الحكمة والرأي والحرية.
التعليقات