اقتباس
مِنْ بلخ في بلاد الأفغان انطلقَ في القرن الثالث الهجري عالمٌ بلخيٌّ يريدُ زيارة بغداد مدينة العلم والحكم، وأرض الشعر والسحر، وموطن الخلافة والثقافة... المدينة التي كان صيتُها يملأُ الآفاق، ويداعبُ خيالُها عقولَ العلماء، وقلوبَ الشعراء، ونفوسَ التجار...
مِنْ بلخ في بلاد الأفغان انطلقَ في القرن الثالث الهجري عالمٌ بلخيٌّ يريدُ زيارة بغداد مدينة العلم والحكم، وأرض الشعر والسحر، وموطن الخلافة والثقافة... المدينة التي كان صيتُها يملأُ الآفاق، ويداعبُ خيالُها عقولَ العلماء، وقلوبَ الشعراء، ونفوسَ التجار...
وبعد رحلةٍ استغرقتْ زمناً غيرَ قصير تراءتْ لذلك العالمِ البلخي أسوارُ بغداد فخفق قلبُه، وسبقتْ عيناهُ رجليه، تستطلعُ سماءَها، وتستقبلُ هواءَها... وفي لحظاتٍ كان يستعرضُ في ذاكرتِهِ ما سمعه عن علمائها وأدبائها، وخلفائها ووزرائها، وقصورها وجسورها، ومساجدها ومشاهدها، ودجلتها ونخيلها، ولكنْ بماذا سيبدأ بالزيارة؟
إنَّ كلَّ شيء في بغداد جميلٌ يستحقُّ البدء به، وفي كلِّ بقعة ذكرى عالم،وأثر أديب، وقد تغنى الشعراءُ بها، وذكروا محاسنَها، ولعله كان قد سمع بقول علي بن الجهم:
عيونُ المها بين الرُّصافة والجسرِ *** جلبنَ الهوى مِن حيثُ أدري ولا أدري
أعدْنَ لي الشَّوقَ القديمَ ولم أكنْ *** سلوتُ ولكن زِدْنَ جمراً على جمرِ
لعله سمعَ هذا فأراد أنْ يقف عند ذلك الجسرِ، ويستذكرَ تلك الأبيات السائرة، وهكذا كان، ويحدِّثنا فيقول:
( دخلتُ بغداد، وإذا برجلٍ على الجسر ينادي).
ترى ماذا يُنادي ذلك الرجلُ؟ أيُعلنُ مرسوماً سلطانياً، أم يُنشِد قصيدة، أم يَنشُد ضالة، دعوني أقترب وأسمع، فكأنني أسمعُ ذكرَ قاضي بغداد الشهير أحمد بن عمرو الخصّاف، العالم الكبير، الفرضِي الحاسب الفقيه، المقرَّب عند الخليفة المهتدي بالله، الورع الذي شاع ورعُه، وأنه لا يأكل إلا مِن كسب يده... إنَّ في نيتي زيارةَ هذا الرجل الجليل، والآن أسمعُ اسمَه فلأقترب لأرى...واقتربتُ فهالني ما سمعتُ، وقفَّ شعرُ جسدي خشوعاً وإعظاماً... لقد سمعتُ الرجلَ يُنادي ويقولُ:
(ألا إنَّ القاضي أحمد بن عمرو الخصّاف استُفتيَ في مسألة كذا، فأجاب بكذا وكذا، وهو خطأ، والجوابُ كذا وكذا، رحم اللهُ مَنْ بلّغها صاحبها)...
وقلتُ في سرِّي: هكذا والله فليكن العلماءُ وإلا فلا، علمٌ وعملٌ، وخشيةٌ من الله تعالى تملأ القلبَ، فتُرضي الربَّ، وتُنير الدربَ.
خشيةٌ تعظِّمُ حرمات الله، وتحذرُ الوقوفَ بين يديه..
ولا اعتبارَ بعد ذلك بمنصب القضاء...
ولا حسابَ لما يُمكن أن يقولَه الناسُ من أعداء وحسّاد ومتربصين.. .
ولا خوف من أنْ تهتز مكانتُه عند الخليفة أو الكبراء...
اللهُ وحده هو الذي كان حاضراً في قلبه في تلك اللحظات، وكفى به. واستغرقتني بغدادُ بحاضرها وماضيها إلى اليوم الثاني حيث جئتُ أعبرُ الجسرَ إلى مقصدي، وإذا بالمشهد السابق يُعادُ كما رأيتُ في اليوم الأول.
وقد وقفَ الناسُ واستمعوا، واستمعتُ معهم، ولم يَظهر مِن أحدهم ما يُفيد بوصول الخبر إلى المُستفتي المجهول.
ماذا تُرى سيصنعُ هذا القاضي الجليل، فمِنَ الواضح أنَّ خطأه أرَّقه وأقلقه، وخوَّفه وآسفه، ماذا سيصنعُ؟
هذا ما عرفتُه في اليوم الثالث، حيث رأيتُ الرجلَ المناديَ نفسَه ينادي النداءَ نفسَه:
" ألا إنَّ القاضي أحمد بن عمرو الخصّاف استُفتيَ في مسألة كذا، فأجاب بكذا وكذا، وهو خطأ، والجوابُ كذا وكذا، رحم اللهُ مَنْ بلّغها صاحبَها".
وجئتُ في اليوم الرابع فلم أرَ شيئاً، ولا أدري أوصلتْ الفتوى الصحيحة إلى صاحبها فكفَّ المُنادي عن النداء، أم غلب اليأسُ على القاضي وضعف الرجاء؟
مهما يكن فلعله أعذرَ إلى الله أنَّه رجعَ عن خطئه، وأعلنَ هذا في الناس ثلاثةَ أيام في مكانٍ هو مظِنَّة حضور الكثيرين منهم...
لقد ذُكِرَ القاضي بالعلم والورع، وإنَّه – والله – لجديرٌ بهاتين الصفتين... ولقد أثبتَ أنَّه جديرٌ بهما...
أيها القاضي الجليل:
لقد كان خطؤُك أكثرَ فائدةً من صواب غيرك.
ولقد كان اعترافُك بالخطأ أكبرَ أثراً من فتواك بالصواب.
إنَّ فينا حاجة إلى أخلاق كثيرة، ومِن أهم هذه الأخلاق أنْ نتعلمَ كيف نرجعُ عن خطئنا، ولا نلجُّ عليه، ولا نستكبرُ، ولا نستحي، ولا نعبدُ الهوى من دون الله.
وعاد العالمُ البلخيُّ إلى بلخ، وفي جعبته الكثيرُ ممّا يحكيه عن بغداد، وغرائبِها وعجائبِها، وعلمائِها وأمرائِها، ومائِها وهوائِها، ولكن مِنْ أعظم ما حَمَلَ معه قصةُ قاضيها الورع العاقل أحمد بن عمرو الخصَّاف*.
_______________________________________
* قال الصفدي في الوافي بالوفيات (7/267) في ترجمة الخصاف المتوفى سنة 261هـ:
(قال محمدُ بن إسحاق النديم: سمعت أبا سهل محمد بن عمر يحكي عن بعض مشايخه ببلخ قال: دخلتُ بغداد وإذا برجلٍ على الجسر ينادي ثلاثة أيام: ألا إنَّ القاضي أحمد بن عمرو الخصّاف استُفتيَ في مسألة كذا، فأجاب بكذا وكذا، وهو خطأ، والجوابُ كذا وكذا، رحم اللهُ مَنْ بلّغها صاحبها). وهذا كل ما ذُكر.
التعليقات