اقتباس
ومن الخير لهذا الكاتب أن يتدارك نفسه بالتوبة إلى الله من هذا الباطل الذي فُتن به ودعا إليه؛ لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وهذا هو الذي ينفعه في الحياة الدنيا وفي القبر وما بعده، ومن لم يمتنع عن الفساد والإفساد في بلاد الحرمين يكون منعه من ذلك لولاة الأمور كما قال عثمان -رضي الله عن-: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/217): "من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقرّه من ولاة الأمور على...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، ففي أوائل شهر شوال من عام 1430هـ فُتحت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية وحصل فيها الاختلاط بين الرجال والنساء، فنشط التغريبيون بعد ذلك لتأييد الاختلاط وتحبيذه، بل حصل من أحد المنتسبين إلى العلم الشرعي المبالغة في تأييد الاختلاط والعتاب الشديد لمن منعه، وهو الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى وزير العدل في مقال له نشر في صحيفة الرياض في 5/11/1430هـ أي بعد افتتاح الجامعة بشهر واحد، وقد رددت عليه بكلمة بعنوان: "لماذا النشاط المحموم في تأييد اختلاط الجنسين في بلاد الحرمين" نشرت في 18/11/1430هـ.
وجاء بعده رجل غير معروف نشرت له صحيفة عكاظ مقالاً في عددين بتاريخ 22و23/12/1430هـ أتى فيه بأسوأ هذيان في تأييد الاختلاط وهو أحمد قاسم الغامدي الذي يعتبر أبرز مطايا التغريبيين من المتعالمين، جنى على نفسه في هذا المقال جناية عظيمة وأتى فيه بما لم يسبقه إليه أحد، أجاز فيه النظر إلى النساء والمصافحة والخلوة بالمرأة الأجنبية وأن تفلي رأسه وتقص شعره، وقد رددت عليه بكلمة بعنوان: "أسوأ هذيان ظهر حتى الآن في فتنة اختلاط الجنسين في بلاد الحرمين" نشرت في 10/1/1431هـ، بينتُ فيها فساد استدلاله على هذا الباطل، وذكرت كلام أهل التحقيق من أهل العلم فيما اشتبه من الأدلة.
وأهل العلم عوَّلوا في تحريم الاختلاط على أدلة محكمة واضحة منها ما رواه البخاري (870) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إذا سلّم قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مُقامه يسيراً قبل أن يقوم، قال: نرى ـ والله أعلم ـ أنَّ ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال" ورواه النسائي (1333) ولفظه: "أنَّ النساء في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كنَّ إذا سلّمن من الصلاة قمن، وثبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام الرجال".
وما رواه البخاري (7310) ومسلم (6699) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقالت: يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا، فاجتمعن، فأتاهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فعلمهن مما علمه الله" الحديث، وهو دال على عدم مخالطة النساء الرجال في مجالسه صلى الله عليه وسلم، وكذا ما حصل من الصحابة -رضي الله عنهم- حين بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- في سقيفة بني ساعدة وفي المسجد لم يكن معهم امرأة واحدة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله! إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج؟ فقال: اخرج معها" رواه البخاري (1862) ومسلم (3272)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إيّاكم والدخول على النساء؟ فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيتَ الحمو؟ قال: الحمو الموت" رواه البخاري (5232) ومسلم (5674)، والحمو كل قريب للزوج سوى آبائه وأبنائه، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: "ولا يخلونَّ رجل بامرأة؛ فإن ثالثهما الشيطان" رواه أحمد (177) في مسنده باسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
وهذا الكاتب الجديد عوّل على أدلة متشابهة، ذكرت جواب أهل العلم عنها في كلمتي المشار إليها، وطريقة أهل الزيغ اتباع المتشابه وترك المحكم؛ قالت عائشة رضي الله عنها: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" رواه البخاري (4547) ومسلم (6775) واللفظ له، وقد جاء في القرآن الكريم أنَّ ترك الاختلاط بين الرجال والنساء كان في الأمم السابقة، قال الله -عز وجل- عن نبيه موسى -عليه الصلاة والسلام-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا).
ففي هذه القصة أنَّ هاتين المرأتين احتاجتا إلى سقي غنمهما وانتظرتا حتى ينتهي الرجال من سقي أغنامهم، واعتذرتا لموسى -عليه الصلاة والسلام- بأنَّ أباهما شيخ كبير لا يتمكن من الحضور لسقي الغنم مع الرجال، فسقى لهما موسى عليه الصلاة والسلام، وجاء أيضاً في الشرائع السابقة أن من فقد الحياء يصنع ما يشاء، فقد روى البخاري (6120) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت"، ومن العقوبة على السيئة أن تجر إلى سيئة أخرى، ومن العقوبة على الزيغ إزاغة القلوب؛ كما قال الله عز وجل: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وهذا الكاتب المتعالم الذي دعا إلى الاختلاط بين الرجال والنساء قبل خمس سنوات ظهر في هذه الأيام مع زوجته سافرة عن وجهها في بعض القنوات، فجمع بذلك بين الجناية على نفسه والجناية على زوجته المسكينة.
ومن جناية هذا الكاتب على نفسه بعد هذيانه في الدعوة إلى الاختلاط جنايته أيضاً بهذيان آخر في التثبيط عن صلاة الجماعة والتهوين من شأنها، نشرته صحيفتا المدينة وعكاظ في وقت واحد بتاريخ 4/5/1431هـ، ومن أسوأ ما جاء فيه قوله: "لا يصح الإنكار على من ينادي بعدم إغلاق المحال التجارية أوقات الصلاة"، وقوله: "وزيادة إن أثقل الصلاة على المنافقين ..." وإن كان الشيخان أخرجاها في صحيحيهما إلا أن في النفس منها شيئاً"!! وقد رددت على هذيانه بكلمة بعنوان: "تحذير أهل الطاعة من الهذيان المثبِّط عن صلاة الجماعة" نشرت في 20/5/1431هـ.
وقد سمى الكاتب هذيانه "قوافل الطاعة في حكم صلاة الجماعة"، وقد قلت: إن هذه التسمية لا تطابق المسمى؛ لأن من شأن القوافل أنها تسير، وسيرها يناسب الذهاب إلى المساجد لأداء صلاة الجماعة، فيقال فيه قوافل الطاعة لأداء صلاة الجماعة، وأما بقاء الرجال في البيوت والحوانيت وقت أداء صلاة الجماعة فالذي يطابقه بقاء الدواب في حظائرها رابضة وباركة، فتكون التسمية المناسبة للتثبيط عن صلاة الجماعة "البوارك والروابض عن الطاعة" لا "قوافل الطاعة".
ومن أعظم مصائب هذا الكاتب فتنته واهتمامه بالدعوة إلى اختلاط الجنسين وتثبيطه عن صلاة الجماعة في بلاد محافظة على الحشمة وحراسة الفضيلة والمبادرة إلى الذهاب إلى المساجد لأداء صلاة الجماعة، فدعوته القبيحة فيها الخروج من النور إلى الظلمات والإفساد في بلاد الحرمين بعد إصلاحها، وقد قال الله عز وجل: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) في آيتين من سورة الأعراف، قال ابن كثير عند تفسير الآية الأولى منهما: "ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد، فنهى الله عن ذلك".
ومن الخير لهذا الكاتب أن يتدارك نفسه بالتوبة إلى الله من هذا الباطل الذي فُتن به ودعا إليه؛ لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وهذا هو الذي ينفعه في الحياة الدنيا وفي القبر وما بعده، ومن لم يمتنع عن الفساد والإفساد في بلاد الحرمين يكون منعه من ذلك لولاة الأمور كما قال عثمان -رضي الله عنه-: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/217): "من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقرّه من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً، قال أبو الفرج ابن الجوزي -رحمه الله-: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، وإذا تعيّن على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنّة ولم يتفقه في الدين؟!"، وقال أيضاً (4/207): "رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفتي مَن لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال: ولَبعضُ مَن يفتي ههنا أحق بالسجن من السرَّاق".
ولا أدري هل هذا الكاتب مطمئن لما جاء عنه من تأييد السفور والاختلاط وأنه لا يخشى تبعات ذلك في الحياة وبعد الممات؟! أو أنه فورة الغرور والشغف بالمخالفة ودخول التاريخ بهذه الطريقة المشينة؟! فيكون شبيها بصاحب الحكاية الذي قال: إنه سيدخل التاريخ، فما كان منه إلا أن تعرى وخلع ثيابه في جمع حافل، فدخل بهذا العمل التاريخ!
وأسأل الله -عز وجل- أن يهديه إلى الصراط المستقيم ويخرجه من الظلمات إلى النور، وأسأله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، والثبات على الحق، وأن يحفظ على هذه البلاد السعودية أمنها وإيمانها وسلامتها وإسلامها، وأن يقيها شر الأشرار من التغريبيين ومطاياهم المتعالمين، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات