عناصر الخطبة
1/ ضوابط مهمة في العمل الصالح المقبول 2/ علاقة المشقة بالعمل الصالح 3/ فضل المداومة على الأعمال الصالحة 4/ فضل المسارعة في الخيرات.
اهداف الخطبة

اقتباس

"وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ، أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ رِضَاهُ أَوْ مَحَبَّتُهُ فِي مُجَرَّدِ عَذَابِ النَّفْسِ وَحَمْلِهَا عَلَى الْمَشَاقِّ، حَتَّى يَكُونَ الْعَمَلُ كُلَّمَا كَانَ أَشَقَّ كَانَ أَفْضَلَ، كَمَا يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَا، وَلَكِنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَمَصْلَحَتِهِ وَفَائِدَتِهِ، وَعَلَى قَدْرِ طَاعَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَيُّ الْعَمَلَيْنِ كَانَ أَحْسَنَ، وَصَاحِبُهُ أَطْوَعَ وَأَتْبَعَ كَانَ أَفْضَلَ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ حَالَ الْعَمَلِ".

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ الذي جعلَ هذه الأمَّةَ خيرَ أُمَّةٍ أُخرجتْ للنَّاسِ، وجعلَ فيها كتابَه خيرَ مِنهاجٍ ونِبراسٍ، وبذرَ فيها بُذورِ الخيرِ ففاحَ شَذاً وطابَ غِراسٍ، اصطفاها من بينِ سائرِ الأُمَّمِ، وأفاضَ عليها ما شاءَ من النِّعمِ، ودفعَ عنها كُلَّ شَرٍّ وبأسٍ ..

 

وأصلي وأسلمُ على من كان لظلامِنا بنورِ اللهِ ضياءً، ولأبصارِنا بوحي اللهِ جلاءً، جاءنا على حينِ فَترةٍ منَ الرُّسلِ، وانطماسٍ من السُّبلِ، فأوضحَ المُبهَماتِ، وكَشفَ الظُّلماتِ، وجاءَ من عندِ ربِّه بكتابٍ مُعجزِ الآياتِ، واضحِ البَيِّناتِ، فانهدمَ بُنيانُ الوَثنيَّةِ، وارتفعَ لواءُ الحَنيفيَّةِ .. صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه الفقهاءِ العلماءِ الأكياسِ، وعلى من سارَ على نهجِهم واتَّبعَ دربَهم ما تردَّدتْ في الصُّدورِ الأنفاسِ ..

 

أما بعد: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70- 71].

 

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا- عَنْ جُوَيْرِيَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى -حِينَ تَعَالَى النَّهَارُ-، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: "مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟" قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ".

 

سبحانَ اللهِ ..

ساعاتٌ مُباركاتٌ .. من التَّهليلاتِ .. والتَّسبيحاتِ .. والتَّكبيراتِ .. والتَّحميداتِ .. استغفارٌ .. وأذكارٌ .. ومع ذلك تُعادلُها أو تفوقُ عليها .. كلماتٌ معدوداتٌ .. في ثوانٍ قَليلاتٍ.

 

إنها يا عبادَ اللهِ .. برَكَةُ اتِّباعِ سُنَّةِ النَّبيِّ محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .. وأن العملَ فيها وإن كانَ قليلاً ينتقصُه الجاهلُ .. ولكنه في الأجرِ كبيراً لا يتصوَّرُه العاقلُ .. وأعظمُ ما فيه هو الامتثالُ لأمرِ اللهِ تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].

 

ولذلك لمَّا جاءَ جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا أُخْبِروا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، وَقَالُوا: أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ .. ثُمَّ قَالَ أحدُهُم: أمَّا أنا فَأُصَلِّي اللَّيلَ أبداً، وَقالَ الآخَرُ: وَأَنَا أصُومُ الدَّهْرَ أَبَداً وَلا أُفْطِرُ، وَقالَ الآخر: وَأَنا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أتَزَوَّجُ أبَداً، فجاءَ رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليهم، فَقَالَ: "أنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا واللهِ إنِّي لأخْشَاكُمْ للهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".

 

يا أهلَ الإيمانِ .. يقولُ اللهُ تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 1- 2].. ولم يقلْ: أكثرُ عَمَلاً .. قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) .. أَيْ: "أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟، قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا، وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا، لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا".. وَالْخَالِصُ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ، وَذَلِكَ تَحْقِيقُ قَوْلِه تَعَالَى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].

 

فعليكم يا أهلَ الإيمانِ .. بما تُطيقونَ من صالحِ العملِ .. والإخلاصِ للهِ -عزَّ وجلَّ- .. من العباداتِ التي تنشرحُ لها الصُّدورُ .. وتَعظمُ فيها الأجورُ .. ويَحضرُ فيها القلبُ .. ويُعظَّمُ فيها الرَّبُّ .. دَخَلَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المَسْجِدَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: "مَا هَذَا الحَبْلُ؟"، قالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، فَقَالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "حُلُّوهُ، لِيُصلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ".

 

يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَه اللهُ-: "وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ، أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ رِضَاهُ أَوْ مَحَبَّتُهُ فِي مُجَرَّدِ عَذَابِ النَّفْسِ وَحَمْلِهَا عَلَى الْمَشَاقِّ، حَتَّى يَكُونَ الْعَمَلُ كُلَّمَا كَانَ أَشَقَّ كَانَ أَفْضَلَ، كَمَا يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَا، وَلَكِنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَمَصْلَحَتِهِ وَفَائِدَتِهِ، وَعَلَى قَدْرِ طَاعَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَيُّ الْعَمَلَيْنِ كَانَ أَحْسَنَ، وَصَاحِبُهُ أَطْوَعَ وَأَتْبَعَ كَانَ أَفْضَلَ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ حَالَ الْعَمَلِ".

 

فإيَّاكَ أيها المؤمنُ من تضييعِ الحقوقِ .. وتحميلِ النَّفسِ ما لا تَفوقُ .. واسمعْ إلى حديثِ أبي جُحَيْفَة وَهْبِ بنِ عبد اللهِ -رضيَ اللهُ عنه- حينَ قَالَ: آخَى النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبي الدَّرْداءِ، فَزارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرداءِ فَرَأى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: مَا شَأنُكِ؟ قَالَتْ: أخُوكَ أَبُو الدَّردَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ في الدُّنْيَا، فَجاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَاماً، فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أنا بِآكِلٍ حَتَّى تَأكُلَ فأكلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّردَاءِ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فنامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ من آخِر اللَّيلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُم الآن، فَصَلَّيَا جَمِيعاً، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيكَ حَقّاً، وَلأَهْلِكَ عَلَيكَ حَقّاً، فَأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ سَلْمَانُ".

 

"فَأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" .. كلمةٌ أقرَّ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها سلمانَ .. فينبغي أن تكونَ لنا في حياتِنا عنوانٌ.

 

قد يعتري الإنسانُ في فترةِ شبابِه حماسٌ .. فيريدُ أن يكونَ أعبدَ النَّاسِ .. عنْ أَبي محمدٍ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرو بنِ العاصِ رضيَ اللهُ عنهما، قَالَ: أُخْبرَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنِّي أقُولُ: وَاللهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيلَ مَا عِشْتُ، فَقَالَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أنتَ الَّذِي تَقُولُ ذلِكَ؟"، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بأبي أنْتَ وأمِّي يَا رسولَ الله، قَالَ: "فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثةَ أيَّامٍ، فإنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا وَذَلكَ مِثلُ صِيامِ الدَّهْرِ"، قُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ: "فَصُمْ يَوماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ"، قُلْتُ: فَإنِّي أُطِيقُ أفضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ: "فَصُمْ يَوماً وَأفْطِرْ يَوماً فَذلِكَ صِيَامُ دَاوُد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ أفْضَلُ الصيامِ" .. فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا أفضَلَ مِنْ ذلِكَ"، وَلَمَّا كَبُرَ عَبْدُ اللهِ شَقَّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ لِعَجْزِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يَتْرُكَ عملاً اِلْتِزَمَ بِه لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "وَلأنْ أكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاثَةَ الأَيَّامِ الَّتي قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحَبُّ إليَّ مِنْ أهْلي وَمَالي".

 

فانظروا كيفَ كانَ النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- أرحمَ به من نفسِه .. وكانَ يعلمُ أنَّ المقصودَ هو إحسانُ العملِ وليسَ كثرتُه .. لذلك قالَ: "لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ"، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ .. قَالَ: "وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا، وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا".

 

قالَ ابنُ رجبٍ -رحمَه اللهُ- في شرحِ الحديثِ: "يعني أنَّ من مَشى في طَاعةِ اللهِ على التَّسديدِ والمقاربةِ فليبشرْ، فإنَّه يَصلُ ويسبقُ الدَّائبَ المجتهدَ في الأعمالِ، فإنَّ طَريقَ الاقتصادِ والمقاربةِ أفضلُ من غيرِها، فمنْ سلكَها فليبشرْ بالوصولِ فإنَّ الاقتصادَ في السُّنَّةِ خيرٌ من الاجتهادِ في غيرِها، وخيرُ الهديِ هديُ محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فمنْ سلكَ طريقَه كانَ أقربَ إلى اللهِ من غيرِه، وليستْ الفَضائلَ بكثرِة الأعمالِ البَدنيَّةِ، لكن بكونِها خالصةً للهِ -عزَّ وجلَّ- صواباً على مُتابعةِ السُّنَّةِ، وبكثرةِ معارفِ القلوبِ وأعمالِها، فمن كانَ باللهِ أعلمُ وبدينِه وأحكامِه وشرائعِه، ولهُ أخوفُ وأحبُّ وأرجى فهو أفضلُ ممن ليسَ كذلكَ وإن كانَ أكثرَ منه عملاً بالجوارحِ".

 

فانظرْ إلى قلبِكَ أينَ تَجدهُ في تلكَ السَّاعةِ .. فهو يتقلَّبُ من وقتٍ إلى وقتٍ .. فمتى رأيتَ نفسَكَ مُقبِلةً على الصَّلاةِ فصلِّ .. ومتى رأيتَ لسانَكَ منشرحاً للذِّكرِ فاذكرْ .. ومتى توَّفرَ عندكَ مالاً فباليسيرِ تصدَّقْ .. إن استطعتْ أن تُعينَ مُسلماً فأعنْه .. وإن قدرتَ أن تقضيَ حاجةَ مُحتاجٍ فاقضِها .. وأيامُ صيامٍ  .. وصِلةُ أرحامٍ .. وصفحاتٌ من القرآنِ .. وزيارةُ إخوانٍ .. وإذا ملَّتْ النَّفسُ فشيءٌ من التَّرويحِ المُباحِ .. حتى تعودَ نشيطةً لأعمالِ أهلِ الفَلاحِ.

 

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ والسُّنَّةِ، ونفعني وإياكم بما فيهما من البيِّناتِ والعِظاتِ والحِكمةِ، أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ الذي شَرعَ لنا ما يقرِّبُنا إليه ويدنينا، ونهجَ لنا من الطُّرقِ ما يكفينا عن غيرِها ويُغنينا .. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له.. وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثَه اللهُ بالهدى شِرعةً وتوحيدًا ونورًا مبينًا، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه أفضلِ النَّاسِ أعمالاً وعلمًا ويقينًا..

 

 أما بعد: عبادَ اللهِ .. قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَحَبُّ العَمَلِ إِلى اللهِ مَا دَاوَمَ عَلَيهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ" .. ولمَّا كانَ هذا الأمرُ محبوباً إلى اللهِ تعالى، أصبحَ واقعاً عمليَّاً في حياتِه .. ولذلكَ حِينَ سُئِلَت عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- عَن عَمَلِهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَت: "كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً".

 

وهكذا كانَ أصحابُه -رضيَ اللهُ عنهم-، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الفَجْرِ: "يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ"، قَالَ: "مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا، فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ" ..

 

وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَتَتْ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَقَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ، تُسَبِّحِينَ اللَّهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ"، يقولُ عليٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ، فَقِيلَ لهُ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟، قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ .. بل وعابَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- على من انقطعَ عن العملِ .. فعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ" .. فقليلٌ دائمٌ .. خيرٌ من كثيرٍ منقطعٌ.

 

زبيدةُ زوجةُ هارونَ الرَّشيدِ .. هيَ أولُ من سَقتْ الحجيجَ في مِنى .. شقَّتْ عَيناً من الجبالِ وأجْرَتها لمسافةٍ طويلةٍ لكي تسقيَ الحجيجَ .. وهي المشهورةُ بعينِ زُبيدةَ .. رؤيتْ زُبيدةُ في المنامِ .. فقيلَ لها: ما فعلَ اللهُ بكِ؟ .. فقالتْ: غفرَ اللهُ لي .. فقيلَ لها: لأجلِ العينِ؟ .. فقالتْ: لا، واللهِ العينُ وما العينُ .. إنما بركعتينِ بجوفِ اللَّيلِ كنتُ أُحافظُ عليها.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَنَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَنَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَنَسْأَلُكَ قَلْبَاً سَلِيمَاً، وَلِسَانَاً صَادِقَاً، وَنَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ..

 

 اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنا، وَتَرْحَمَنْا، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنَا غَيْرَ مَفْتُونينَ، وَنَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنَا إِلَى حُبِّكَ ..

 

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).. (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).

 

 

 

المرفقات
أحسن العمل.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life