اقتباس
ولْيتجنب الخطيب الإكثار من الأدلة والأقيسة الجافة، فهذه لا تجذب عامة الجمهور، ولْيعلم أن الموقف الخطابيَّ يعتمد على إثارة العواطف والمشاعر أكثر من الإقناع أو البرهان العقليّ.
درج علماء الخطابة المحدَثون على تقسيم الخطبة إلى ثلاثة أجزاء، هي:
1) المقدمة.
2) والإثبات أو العَرْض.
3) ثم الخاتمة [1].
وقد كان للقدماء رؤية أخرى خاصةٌ لأجزاء الخطبة ومحتوياتها، حسب أزمنتهم وبيئاتهم، "وقد أطلق أرسطو على كل جزء من أجزاء الخطبة لفظ (الاقتصاص) وبين كيف أن هذا الاقتصاص أي التجزيء والتقطيع يرتبط بعضه ببعض، وقد أطلق على الاقتصاص الأول أي الجزء الأول: (الصدر)، والجزء الثاني: (العرْض)، والثالث: (الاقتصاص)، والرابع: (التصديق)، والخامس: (الخاتمة) " [2].
والواقع أنه ليس كل الخطب تتضمن تلك الأجزاءَ الثلاثةَ التي قررها المحدَثون، وهي: المقدمة والعرض والخاتمة، فبعض الخطب موجز يُكتفَى فيه بعرض الموضوع أو الفكرة فقط دون اللجوء إلى مقدمة أو خاتمة، وأحيانًا تتضمن الخطبةُ العرْضَ مع الخاتمة، لكن هذا -فيما أرى- استثناء، أما الأصل فهو اشتمال الخطبة على الأجزاء الثلاثة في تنسيق بديع وترتيب محكم، وخاصة الخطبَ الطويلة، والمسهبة، والمحاضرات ونحوها.
ولْنتحدث عن كل جزء من الأجزاء بشيء من التفصيل:
1- المقدمة:
مقدمة الخطبة هي أول أجزائها، وهي بداية ما يطرق سمعَ الجمهور، وأول ما يَستهل به الخطيب خطبته؛ فإذا كانت تتسم ببراعة الاستهلال، وروعة الافتتاح؛ كانت رسول خير إلى قلب المستمع، وسبيلًا إلى جذبه نحو الخطبة، وإنصاته للخطيب، وتهيئة نفسه للاقتناع والاستمالة إذا انتقل إلى عرْض موضوعه، أما إذا فقدت المقدمة خصائصها، ومقوماتها التي تجعلها أهلًا للقبول، وتكسوها بهاء، لم يأنس منها المستمع ارتياحًا، ولم تستطع أن تشده نحو الخطيب.
وكم من خطيب نجح في مقدمته فملك أزمّة القلوب، وسلُس له قياد النفوس، ونشأت جسور من الوُدّ بينه وبين الجمهور، فأقبلوا عليه بمشاعر الحب، ونظروا إليه بعين الرضا، وولج بهم إلى موضوعه بهذه الحال الطيبة، وكم من خطيب جانَبَه التوفيق في مقدمته، فساء ظنُّ الجمهور به وبموضوعه.
وقد ذكر العلماء أن المقدمة الناجحة تشتمل على ثلاثة عناصر أساسية:
• أولها: وأهم شيء ينبغي أن تتضمنه هو: حسن الافتتاح وبراعة الاستهلال.
• ثانيها: بيان المقصد.
• وثالثها: تقسيم الخطاب.
والخطيب الداعية لا بد أن يفتتح خطبته بحمد الله والصلاة والسلام على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، مهما كان مجال الخطبة، سواء أكانت حفلية، أم سياسية، أم وعظًا وإرشادًا دينيًا، أم غير ذلك، اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان لا يدع هذا في افتتاح خطبه [3]، وعلى هذا الهدْي سار السلف الصالح -رضوان الله عليهم-.
وقد ذكر الجاحظ أن خطباء السلف الطيب، وأهلَ البيان من التابعين بإحسان، ما زالوا يسمون الخطبة التي لم تُبْتَدأْ بالتحميد، وتستفتحْ بالتمجيد: "البتراء"، ويسمون التي لم تُوشَّح بالقرآن، وتزيَّنْ بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الشوهاء".
وخطب أعرابي فلما أعجله بعضُ الأمر عن التصدير بالتحميد، والاستفتاح بالتمجيد، قال: أما بعد، بغير ملالة لذكر الله، ولا إيثارِ غيرِه عليه؛ فإنا نقول كذا، ونسأل كذا، فرارًا من أن تكون خطبته بتراء أو شوهاء [4].
ومن براعة الاستهلال أن يبتعد عن التنفير أو التعسير، كمن استهل كلامه بقوله: لا بشرى؛ ولكن بشريان.
كما ينبغي أن يتجنب استهلالَ المقدمة بما لا يتناسب مع طبيعة المقام والمناسبة، فليس من التوفيق بحال أن يقف خطيب -مثلًا- في خُطبة زواج، ويُضمِّنَ مقدمتَه قولَ الله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)[آل عمران: 185]؛ فأين هذا الافتتاح مما هو فيه؟!
وينبغي أن لا يكون الافتتاح طويلًا، ولا مبتذَلًا، لا تستسيغه الأفهام.
وهناك آراء مختلفة في أفضل طرق الافتتاح، والواقع أن أفضلها يعود إلى حسن تصرف الخطيب، وجودة تقديره لما يتطلبه المقام.
وبعد حسن الافتتاح يُومِئ الخطيب إلى بيان مقصده، ويشير إلى موضوعه الذي سيطرقه مجملًا بدون تفصيل "بعبارة جامعة جلية موجزة، لتكون كالعنوان للكتاب، ولبيان المقصد عند العرب أسماء أخرى، وقد يسمونه بالسِّمَة، وهي عنوان الخطاب ليكون عند السامع إجمالُ ما يفصِّله الخطيب بعد" [5].
ومن البلاغة أن يكون صدْر الكلام دالًّا على ما بعده؛ فقد سُئل ابن المقفع ما البلاغة؟ فكان مما أجاب به أن قال: "وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعْتَ صدْرَه عرفْتَ قافيته (كأنه يقول: فرِّق بين صدر خُطبة النكاح، وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة التواهب)[6]، حتى يكون لكل فن من ذلك صدْرٌ يدل على عَجُزِه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدتَ، والغرض الذي إليه نزعْتَ [7].
وينبغي أن يكون بيانُ الخطيب لمقصده، وذكرُه لموضوعه مُصاغًا في عبارات أنيقة مثيرة جذابة، متَّسمًا بالوضوح في أسلوبه، بعيدًا عن الغموض، كما ينبغي أن يسوقه ضمن قضية عامة، أو قاعدة مقررة، سواء أكانت نصًّا قرآنيًّا أم نبويًّا، أم عبارة سائرة من منقوله أو إنشائه، فإذا كان موضوعه -مثلًا- الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر؛ ذكر في مقدمته قوله -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)[آل عمران: 110].
وإذا كان يريد التحدث عن الظلم، ذكر في مقدمته قول الله -تعالى- في الحديث القدسي الشريف -: "يا عبادي إني حَرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا"[8].
"هذا؛ وليس بلازم أن يُذكَر المقصد دائمًا، بل قد يوجب المقام إهماله، وذلك إذا أراد الخطيب أن يستدرج السامعين إلى ما يريد أن يأخذهم به، ولو صَرَّح لهم به لنأوا عنه وقاطعوه، ففي مثل هذه الحال يجب أن يأخذهم في رفق إلى ما يريد، من غير أن يصرِّح بمقصده، حتى يبلغ الخطيب غايته، من تهيئة النفوس لتلقيه"[9].
وإذا كانت الخطبة طويلة أو متشعبة؛ عمَد الخطيب إلى ذكر عناصرها وأجزائها متسلسلة مرتبة، وموجزة، على النسق الذي سيتناولها به في وضوح، وتميّز لكل عنصر عن الآخر، دون تداخل أو تكرار.
هَبْ -مثلًا- أن موضوع الخطبة أو المحاضرة سيكون في ظاهرة ما يسمى "بالتطرف الديني"، فيمكن أن يعمد الخطيب بعد الاستفتاح وبيان المقصد إلى تقسيم موضوعه من البداية، كأن يقول:
وسوف يكون بمشيئة الله -تعالى- حديثنا عن هذا الموضوع الهام حول أربعة عناصر أساسية، تندرج تحتها أخرى فرعية، على النحو التالي:
أ- مفهوم التطرف الديني، وموقف الإسلام منه.
ب- مظاهر التطرف الديني وصوره.
ج- أسباب التطرف الديني.
د- علاج هذه الظاهرة.
ويلاحظ في هذا التقسيم ما يأتي:
1- أنه واضح لا غموض فيه.
2- التباين والتمايز بين كل عنصر وآخر.
3- التسلسل المنطقي، والترتيب الطبيعي، فكل عنصر متصل بما قبله، مُسلم لما بعده.
4- وهذا بدوره جعل العناصر مترابطة ليس بينها انفصام، ينتقل الخطيب من العنصر إلى ما بعده بسلاسة ورفق.
5- شمولها لسائر جوانب الموضوع (تقريبًا).
6- أنه موجَز لا إسهاب فيه، ومع وجازته قد سلم من الإخلال.
7- اقتصاره على ما له صلة مباشرة بالموضوع.
فهذه الملاحظات والضوابط، ينبغي مراعاتها في تقسيم أي موضوع، وعند الإشارة إليه في المقدمة.
وقد تأملتُ في بعض قَصص القرآن الكريم، فوجدته قد اهتم بالمقدمة، ووجدت هذه المقدمات تشتمل على حسن الافتتاح، والإشارة إلى الموضوع، وذكر إيجاز له، ثم الشروع في العرْض والإثبات بعد المقدمة.
ومن هذا القبيل حديث القرآن الكريم عن قصة أهل الكهف؛ فقد جعل الله تعالى مقدمة قبل الشروع في القصة، وكانت المقدمة - فيما يظهر لي - على النحو التالي:
قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا)[الكهف: 9]؛ فهذه الآية اشتملت على عنصريْ حسن الافتتاح: (أَمْ حَسِبْتَ) والإشارة للموضوع: (أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ).
ثم جاء ملخَّصٌ للقصة كلها في عبارات موجزة هي قوله -تعالى-: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا)[الكهف: 10 - 12].
وبعد هذه المقدمة الشائقة، ينتقل القرآن إلى عرض القصة، وذكر أحداثها: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)[الكهف: 13] إلخ الآيات.
هذا، وهناك أخطاء -فيما يتعلق بالمقدمة- قد يقع فيها بعض الخطباء:
ومن هذه الأخطاء: أن لا يكون للمقدمة صلة بالموضوع الذي سيتحدث فيه، فبعضهم -على سبيل المثال- يعمد إلى مقدمة أو عدد من المقدمات ذاتِ السجع المتكلَّف، فيحفظها، ويحرص على تصدير أيّةِ خطبة بها، سواء أكانت ذات صلة بالموضوع أم لا.
ومن الأخطاء في هذا الصدد -أيضًا-: إطالةُ المقدمة، وشَغلُها حَيّزًا زمنيًا أكثر مما تستحق بكثير، وأذكر أنني صليت الجمعة مع أحد الخطباء، وقد اسغرقت المقدمة نحوًا من عشر دقائق، مع أن خطبتَه جميعَها لم تتجاوز خمسا وعشرين دقيقة، فضلًا عن أنها لم تكن جذابة ولا مُمَهِّدة للموضوع، ولا مُفْصِحة عنه، ولا مجْمِلة لمقاصده، فكانت مللًا في ملل.
فينبغي أن يكون حجم المقدمة متناسقًا مع حجم الموضوع وزمنِه، وإذا تأمل بعض الخطباء حجم المقدمة بالنسبة للزمن الإجمالي للخطبة لوجد أن مقدمته تستغرق ربع الوقت، وأحيانًا ثلثه، وهذا -بلا شك- خلل في التنسيق بين أجزاء الخطبة، يهبط بمستواها ويقلل من فائدتها، ويستنفد طاقة كلٍّ من الخطيب والمستمع قبل الوصول إلى عرْض الموضوع ومضمونه.
وإذا كان بعض الخطب لا يستدعي الأمرُ اشتمال مقدمتها على عناصرها الثلاثة، فيُستغنَى عن بعضها، فإن هناك عنصرًا لا يمكن الاستغناء عنه بحال في أيّةِ مقدمة، وهو حسن الافتتاح وبراعة الاستهلال.
2- عرض الموضوع:
وهذا الجزء هو أهم أجزاءِ الخطبة ومكوِّناتِها، ولا يمكن الاستغناء عنه -إن جاز الاستغناء عن أحد الأجزاء الأخرى- بل ما وُجِدت الأجزاء الأخرى من مقدمة وخاتمة إلا لخدمته، وتعميقه وتثبيته في نفوس السامعين.
والموضوع هو المشكلة أو القضية التي يريد الخطيب التحدث عنها، مستهدِفا إقناعَ الجمهور بها واستمالتَهم نحوها، وبقدر ما يكون الخطيب مُعِدًّا لموضوعه الإعدادَ اللائقَ به، ومرتِّبا له، ومستحضِرًا لمادته العلمية وأدلته المثْبِتةِ له، الداحضةِ لما يناقضه، ولمن يعارضه؛ بقدر ما يتوفر هذا ونحوه؛ يكون تحقيق النجاح للخطيب في مهمته، مع الأخذ في الاعتبار أمرًا على جانب كبير من الأهمية، له دور خطير في نجاح الخطيب، ألا وهو سعة ثقافة الخطيب، وكثرة حصيلته العلمية والأدبية، وتوافر مقوماته الفنية.
من عوامل النجاح في عرض الموضوع:
وعلى الخطيب أن يحشد كل إمكانياته وطاقاته، وأن يأخذ بجميع الأسباب الممكنة للنجاح في عرض الموضوع، ومن هذه الأسباب:
أ- الوَحدة الموضوعية، ونقصد بها: أن يلتزم الخطيب في عرضه بموضوع الخطبة؛ فلا يُكثِر من الاستطرادات، أو يَخرج عن الموضوع بالحديث فيما لا صلة له به، أو يتناول في الخطبة الواحدة عددا من الموضوعات دون رابط بينها.
وهذا من الأمور التي لا يليق بالخطيب أن يهملها، كما يحدث من بعض الخطباء -مع الأسف- حينما لا يراعون الوَحدة الموضوعيةَ في خطبهم، فيعود هذا بالآثار الضارة على الخطبة، حيث لا يتمكنون -في حال تناولهم لأكثر من موضوع في الخطبة الواحدة- من خدمة الخطبة بالأدلة الكافية التي تَلْزَمها، فيهبط مستواها في نظر الجمهور، وكذلك قد يتورطون في الإطالة المملة التي تكاد تفقد الحاضرين من الجمهور أعصابهم، لاسيما وهم يشعرون بعدم الفائدة وعدم الراحة، من كثرة ما ينتقل الخطيب من موضوع إلى آخر، ونحو هذا من الآثار، التي لا تخدم الخطبة، فليحرص الخطيب على الالتزام بالوحدة الموضوعية وليبتعد عن الحشو والاستطراد، وكل ما لا صلة له بموضوعه.
ب- ترتيب عناصر الموضوع ترتيبًا محكَما متناسقًا: بحيث تكون متسلسلة متتابعة، يسلم كل عنصر إلى الآخر، ويكون بمثابة التمهيد لما بعده، مع الارتباط بما قبله، ولْيقسِّم موضوعه إلى عناصر أساسية، تتفرع عنها أو تندرج تحتها أفكار فرعية، فيعرض كل عنصر بأفكاره وتفصيلاته، ثم ينتقل إلى غيره، وهكذا يسير في عرضه سيْرا حسنًا رفيقًا، حتى ينتهيَ الموضوع نهايته الطبيعية، ويصلَ بالجمهور إلى النتيجة التي يريدها ويقررها.
ج- حشد الأدلة التي يدعم بها موضوعه، ويخدم بها عناصره وأفكاره، كي يصل إلى غرضه ومطلوبه.
وينبغي أن تسير الأدلة في اتجاهين:
الأول: اتجاه يثبت الموضوع ويؤيده.
الثاني: اتجاه يفند آراء المعترضين -إن وجدت، أو كانت متوقَّعة-.
والأدلة في عمومها ترجع إلى قسمين:
الأول: أدلة عقلية برهانية، تعتمد على الإقناع العقلي.
الثاني: أدلة وجدانية، تعتمد على إثارة المشاعر والانفعال والأهواء والميول.
ولْيتجنب الخطيب الإكثار من الأدلة والأقيسة الجافة، فهذه لا تجذب عامة الجمهور، ولْيعلم أن الموقف الخطابيَّ يعتمد على إثارة العواطف والمشاعر أكثر من الإقناع أو البرهان العقليّ.
"يروي (جوستاف لوبون) حادثة طريفة ملخصها: أنه رأى وقت حصار باريس جمهورًا يسوق قائدًا عظيمًا من قواد الجيش إلى مقر الحكومة، والناس حوله أكداس، يزمجرون ويتميزون من الغيظ، ويتهمونه بأنه باع للبروسيين رسمَ معقلٍ فرنسيٍّ، فلما وصلوا إلى قصر اللوفر، خرج أحد أعضاء الحكومة -وكان خطيبًا ذائع الصيت- ليخطب في هذا الجمع الهائج، المطالب بإعدام هذا القائد الخائن، وكان المنتظر منه أن يبرهن على بطلان الاتهام بقوله: "إن القائد المتهم أحد المهندسين الذين أقاموا الحصون، وأن رسومها تباع في باريس في المكتبات، غير أن (جوستاف لوبون) بُهِت إذ سمعه يقول: " سيَقتصّ منه العدلُ قصاصًا لا رحمة فيه، فاتركوا حكومة الدفاع تُتِمّ التحقيق الذي بدأتموه، وستزجّه في السجن حتى حين " فسكنت الثورة، وتفرق الجمع، وبعد ربع ساعة كان القائد في بيته، ولو أن الخطيب دافع عن المتهم بأدلة منطقية لمزقه الجمع إِرْبًا" [10].
ولا نقصد أن تخلو الخطبة من البراهين والأدلة المنطقية، وإنما نقصد أن لا يطغَى هذا النوعُ من الاستدلال، بل ينبغي إفساح المجال للأدلة الأخرى الأكثر جذبًا وتشويقًا لدى الجمهور، مثل القصة، سواء أكانت من القصص القرآنيّ، أم النبويّ، أم قصة تاريخية، أم من واقع الجماعة التي يخاطبها، والبيئة التي يعيشها، أم كانت قصة مفترَضة متخيَّلة، ومثل ضرب الأمثال وإيرادها، ومثل الأدلة التي تخاطب الوجدان وتستميل الأهواء كأساليب الترغيب والترهيب، أو الوعد والوعيد، أو التصوير البليغ الذي يصف أمرًا ما وصفًا يوحي بالميل إليه أو بكراهيته، كتصوير الحسد، وتجسيد حقيقته البغيضة وآثاره المدمرة الخطيرة، بما يبعث على النفور منه، وكتصوير الألفة والوَحدة وآثارهما العظيمة النافعة بما يثير الوجدان، ويحرك المشاعر، ويحمل المخاطَبين على الحفاظ عليهما والتخلق بهما.
د- أن يكون الموضوع واضحًا في ألفاظه، مجانِبًا للتعقيد في عباراته، بعيدًا عن الغموض في كلماته، فإن الخطيب إذا حشا موضوعه بما لا يفهمه السامع، ضاع مجهوده سدى، وذهب تعبه أدراج الرياح، وحيل بينه وبين ما يشتهي من استمالة الجمهور وإقناعه، فهيهات أن يتأثر الناس بما لم يفهموه، ويقتنعوا بما لم يعرفوه ويتصوروه.
3- الخاتمة:
وإذا كانت المقدمة لها أهميتها لأنها أول ما يطرق سمع المخاطب، فإن كانت تتسم بالجودة والإتقان أسهمت في جذبه، وتهيئة نفسه للإقبال على الخطيب والخطبة - كما سبق؛ إذا كان هذا شأنَ المقدمة، فكذلك الشأن مع الخاتمة من حيث الأهمية، إذ إنها آخر ما يطرق سمعَ المخاطب، ويَعْلُق بذهنه، فإذا كانت جيدة متقَنة، أسهمت في تثبيت الموضوع في قلبه ووجدانه، وساعدت في الوصول إلى الهدف المبتغَى من وراء الخطبة.
لذلك يجب الحرص على تدبيجها والاعتناء بها وبمضمونها، وعلى الخطيب أن يُعِدّ لها، ويعرف مسبقًا ماذا سيكون في محتواها، تمامًا كما يُعِدّ لصلب موضوعه.
ولكي تكون الخاتمة ناجحة، ينبغي مراعاة الآتي:
أ- أن تكون واضحة المعاني، ليس فيها غموض أو لبس.
ب- أن تشتمل على موجَز لما ألقاه الخطيب من أفكار، وما توصل إليه من نتائج؛ فلربما يكون الجمهور قد تعرض لنسيان أجزاء من الخطبة، بسبب كونها جديدة عليه، أو لأي اعتبار آخر.
ج- أن لا تتضمن أفكارا جديدة؛ فإنها حينئذٍ تكون امتدادًا للموضوع وعنصرًا من عناصره، وليست خاتمة له.
د- أن تكون الخاتمة متصلة بالموضوع، وأن تكون مُركَّزة ومختصَرة قدر الإمكان.
هـ- أن تكون الخاتمة قوية؛ لأنها -كما أشرنا- آخر ما يطرق سمع المخاطب، فتحمل توكيدًا لرأي الخطيب، وتكسوها مشاعر الثقة بأن ما ذهب إليه من آراء، وما يحث المستمعين على قبوله هو الصواب، وهو الحق الذي لا يحتمل الجدال، وأن الخير في اتباع ما يدعو إليه من تعاليم الإسلام، والهلاك في مخالفته.
و- وليحرص الخطيب على أن يكون إلقاء الخاتمة حيّا نابضًا بالحرارة، مليئا بالتحمّس، خاليًا من الفتور، ليتناسب هذا مع قوتها، ومع ثقته في آرائه، ولأن إلقاءها على هذا النحو من الحيوية، يأتي في وقت يمكن أن يتسرب الملل فيه إلى المخاطبين، فيكون هذا الإلقاء الحيّ أدعى لتنبيه أذهانهم، وإثارة انفعالهم.
ز- أن لا تكون مفاجئة، وأن لا تكون جافة، بل سلسة وجذابة، ومثيرة للعواطف.
ح- ثم ليكن آخر كلامه بعض العبارات الرقيقة، أو الألفاظ البهية الأنيقة، ليتهيأ له حسن الختام، كما تهيأ له من قبل حسن الافتتاح.
هـ- التعبير والصوغ الخطابي:
وهذه آخر مرحلة في إعداد الخطبة وتكوينها، وفيها يقوم الخطيب بصياغة ألفاظ خطبته وتعبيراته، وعرضها على الجمهور، في أسلوب خَطابيّ يتّسِم بالإقناع والاستمالة.
_______
[1] راجع الخطابة للشيخ علي محفوظ. ص 51، والخطابة للشيخ أبي زهرة ص95.
[2] الخطابة الدينية. د/ عبد الغفار عزيز. ص175، نقلًا عن تلخيص الخطابة لابن رشد. ص307.
[3] قال الإمام ابن قيم الجوزية - في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبته -: " وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله. وأما قول كثير من الفقهاء: إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وخطبةَ العيدين بالتكبير؛ فليس معهم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتةَ، وسنّتُه صلى الله عليه وسلم تقتضي خلافَه، وهو افتتاحُ جميعِ الخطب ب- (الحمد لله) ". زاد المعاد في هدي خير العباد 1/ 186، تحقيق شعيب الأرنؤوط، عبد القادر الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة. بيروت. ط السادسة والعشرون 1412ه- 1992م.
[4] البيان والتبيين 2/ 6.
[5] فن الخطابة. على محفوظ. ص54.
[6] ما بين القوسين تعليق للجاحظ على كلام ابن المقفع.
وتواهبَ الناسُ: وهبَ بعضُهم بعضا، سواءٌ أكان مالا أمْ حقوقا، كأن يعفوَ بعضهم عن بعض، ويتنازلوا عن كلّ الدِّماء التي سالت بينهم في حروب أو ثارات.
[7] البيان والتبيين 1/ 116.
[8] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، ك البر، ب تحريم الظلم، مسلم بشرح النووي 16/ 131 رقم 2577، من رواية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
[9] الخطابة. أبو زهرة. ص 102 باختصار.
[10] فن الخطابة. د/ أحمد الحوفي ص 128، نقلًا عن روح الاجتماع. غوستاف لوبون. ص142.
المصدر/ الألوكة
التعليقات