اقتباس
وقال الذهبي: وكان رأسا ً في التذكير بلا مدافعة, يقول النظم الرائق والنثر الفائق بديها, ويسهب ويعجب ويطرب ويطنب, لم يأتي قبله ولا بعده مثله فهو حامل لواء الوعظ, والقيم بفنونه, مع الشكل الحسن, والصوت الكيب, والوقع في النفوس, وحسن السيرة. وكان بحرا ً في التفسير, علامة في السير والتاريخ, موصوفا
التعريف به
اسمه: عبدالرحمن بن علي بن محمد بن عبيد بن عبدالله ابن حمادى بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبدالله بن القاسم بن النضر ابن القاسم بن محمد بن عبدالله ابن الفقيه عبد الرحمن بن الفقيه القاسم ابن محمد بن خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي الواعظ.
مولده: ولد سنة تسع أو عشر وخمسمائة.
صفته: قال الموفق عبد اللطيف: كان ابن الجوزي لطيف الصورة, حلو الشمائل, رخيم النغمة, موزون الحركات, والنغمات لذيذ المفاكهة.
قال: ولباسه أفضل لباس الأبيض الناعم المطيب, وله ذهن وقاد, وجواب حاضر, وقال قرأت بخط محمد بن عبد الجليل الموقاني: أن ابن الجوزي شرب البلاذر فسقطت لحيته فكانت قصيرة جدا, وكان يخضبها بالسواد إلى أن مات.
ثناء العلماء عليه:
قال أبو عبدالله بن الدبيثي في ( تاريخه ): شيخنا جمال الدين صاحب التصانيف في فنون العلوم من اللتفسير والفقه, والحديث, والتواريخ, وغير ذلك, وإليه انتهت معرفة الحديث, وعلومه, والوقوف على صحيحه, وسقيمه, وكان من أحسن الناس كلاما, وأتمهم نظاما, وأعذبهم لسانا ً وأجودهم بيانا.
وقال الموفق بن عبد اللطيف في تأليف له: كان ابن الجوزي لطيف الصورة, حلو الشمائل, رخيم النغمة, موزون الحركات والنغمات, لذيذ المفاكهة, يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون, لا يضيع من زمانه شيئا ً, يكتب في اليوم أربع كراريس, وله في كل علم مشاركة, لكنه كان في التفسير من الأعيان, وفي الحديث من الحفاظ, وفي التاريخ من المتوسعين, ولديه فقه كاف, وأما السجع الوعظي؛ فله فيه ملكة قوية, وله في الطب كتاب ( اللقط )؛ مجلدان.
قال: وكان يراعي حفظ صحته وتلطيف مزاجه, وما يفيد عقله قوة وذهنه حدة, جل غذائه القراريج والمزاوير, ويعتاض عن الفاكهة بالأشرية والمعجونات.
وقال أبو معتوق محفوظ بن معتوق بن البزوري في ( تاريخه ) في ترجمة ابن الجوزي: برع في العلوم, وتفرد بالمنثور والمنظوم, وفاق على أدباء مصره, وعلا على فضلاء عصره, تصانيفه تزيد عن ثلاثمائة وأربعين مصنفا, بين عشرين مجلدا ً إلى كراس, وما أظن الزمان يسمح بمثله.
وقال الذهبي: وكان رأسا ً في التذكير بلا مدافعة, يقول النظم الرائق والنثر الفائق بديها, ويسهب ويعجب ويطرب ويطنب, لم يأتي قبله ولا بعده مثله فهو حامل لواء الوعظ, والقيم بفنونه, مع الشكل الحسن, والصوت الكيب, والوقع في النفوس, وحسن السيرة. وكان بحرا ً في التفسير, علامة في السير والتاريخ, موصوفا ً بحسن الحديث ومعرفة فنونه, فقيها, عليما ً بالإجماع والاختلاف, جيد المشاركة في الطب, ذا تفنن, وفهم وذكاء, وحفظ واستحضار, وانكباب على الجمع والتصنيف, مع التصون والتجمل, وحسن الشارة, ورشاقة العبارة, ولطف الشمائل, والأوصاف الحميدة, والحرمة الوافرة عند الخاص والعام, ما عرفت أحدا ً صنف ما صنف.
وقال أيضا: الشيخ الإمام العلامة الحافظ المفسر شيخ الإسلام, مفخر العراق جمال الدين.
وقال ابن خلكان: كان علامة مصره, وإمام وقته في الحديث ,’ وصناعة الوعظ, صنف في فنون عديدة.
وقال الداودي: الإمام العلامة حافظ العراق, وواعظ الآفاق, صاحب التصانيف المشهورة في أنواع العلوم, في التفسير والحديث, والفقه والوعظ, والزهد والتاريخ, الطب وغير ذلك.
نشأته وطلبه للعلم وبراعته في الوعظ:
قال الذهبي: توفي أبوه وله ثلاثة أعوام, فربته عمته, وأقاربه كانوا تجارا ً في النحاس, فربما كتب اسمه في السماع عبد الرحمن ابن على الصفار.
ثم لما ترعرع حملته عمته إلى ابن ناصر فأسمعه الكثير, وأحب الوعظ, ولهج به, وهو مراهق, فوعظ الناس, وهو صبي, ثم مازال نافق السوق, معظما ً متغاليا فيه مزدحما ً عليه مضروبا ً برونق وعظه المثل كماله في ازدياد واشتهار إلى أن مات – رحمه الله وسامحه -, فليته لم يخض في التأويل, ولا خالف إمامه ـ يقصد أحمد بن حنبل - رحمه الله- ـ
وقال: وكان ذا حظ عظيم وصيت بعيد في الوعظ, يحضر مجالسه الملوك والوزراء, وبعض الخلفاء والأئمة الكبراء, لا يكاد المجلس ينقص عن ألوف كثيرة, حتى قيل في بعض مجالسه: إنه حرز الجمع بمائة ألف, ولا ريب أن هذا ما وقع, ولو وقع ما قدر أن يسمعهم, ولا المكان يسعهم.
قال سبطه أبو المظفر: سمعت جدي على المنبر يقول: بأصبعي هاتين كتبت ألفي مجلد, وتاب على يدي مائة ألف, وأسلم على يدي عشرون ألفا ً وكان يختم في الأسبوع ولا يخرج من بيته إلا إلى الجمعة أو المجلس.
وقال أبو المظفر: جدي قرأ القرآن وتفقه على أبي بكر الدينوري الحنبلي وابن الفراء.
قال الذهبي: وقرأ القرآن على سبط الخياط.
وعنى بأمره شيخه ابن الزغوني, وعلمه الوعظ واشتعل بفنون العلوم, وأخذ اللغة عن أبي منصور الجواليقي, وربما حضر مجلسه مائة ألف, وأوقع الله له في القلوب القبول والهيبة.
قال: وكان زاهدا ً في الدنيا متقللا ً منها, كان يجلس بجامع القصر والرصافة وبباب بدر وغيرها, إلى أن قال: وما مازح أحدا ً قط, ولا لعب مع صبي, ولا أكل من جهة لا يتيقن حلها.
وقال ابن الجوزي: وأعلم يا بني, أن أبي كان موسرا ً, وخلف ألوفا ً من المال, فلما بلغت دفعوا لي عشرين دينارا ً ودارين, وقالوا لي: هذه التركة كلها, فأخذت الدنانير واشتريت بها كتبا ً من كتب العلم, وبعت الدارين وأنفقت ثمنها في طلب العلم, ولم يبق لي شيء من المال وما ذل أبوك في طلب العلم قط, ولا خرج يطوف في البلدان كغيره من الوعاظ, ولا بعث رقعة إلى أحد يطلب منه شيئا ً قط وأموره تجري على السداد ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ) الطلاق: [2, 3].
وقال أيضا ً: " وكنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة, فأخرج إلى طلب الحديث, وأقعد على نهر عيسى, فلا أقدر على أكلها إلا عند المساء, فكلما أكلت لقمة شربت عليها, وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم فأثمر ذلك عندي أني عرفت سماعي لحديث سير الرسول - صلى الله عليه وسلم -, وأحواله آدابه وأحوال الصحابة وتابعيهم, فصرت في معرفة طريقه؛ كابن أجود, وأثمر ذلك عندي من المعاملة ما لا يدرك بالعلم حتى أنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة والعزبة قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان على الماء الزلال, ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي من العلم من خوف الله - عز وجل -.
وقال أيضا ً: " كنت في بداية الصبوة قد ألهمت طريق الزهاد بإدامة الصوم والصلاة, وحببت إلى الخلوة, فكنت أجد قلبا ً طيبا, وكانت عين بصيرتي حادة, فانتهى الأمر بي إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي فأمالني إليه, فمال الطبع, ففقدت تلك الحلاوة, ثم أمالني آخر فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه؛ لخوف الشبهات ".
أخلاقه وعبادته:
ــ كان على خلق كريم, وكان يغلب عليه الجد, حتى منذ صغره, فقد كان وقورا ً ولا يمازح أحدا ً ولا يبعث وكان ورعا ً فقد ذكروا أنه ما كان يأكل من جهة لا يتبين حلها, ومازال كذلك حتى توفاه الله, وكان كثير التلاوة إذ كان يختم القرآن في كل سبعة أيام, وكان يقوم الليل ولا يكاد يفتر عن ذكر الله, وقد نشأ على العفاف والصلاح, وله ذهن وقاد وجواب حاضر, وذكروا أن له مع ذلك مداعبات حلوة حتى يقول في خلال حديثه عن نفسه: ولولا خطايا لا يخلو منها البشر لقد كنت أخاف على نفسي من العجب غير إنه – عز وجل – صانني وعلمني وأطلعني على أسرار العلم وعلى معرفته وإيثار الخلوة به, ثم عاد فغمسني في التقصير والتفريط, حتى رأيت أقل الناس خيرا ً مني, وتارة يوقظني لقيام الليل, ولذة مناجاته, وتارة يحرمني مع سلامة بدني.
وقد يغلب الرجاء بقوة أسبابه؛ لأني رأيت أنه رباني منذ كنت طفلا؛ فإن أبي مات وأنا لا أعقل, والأم لم تلتفت إلي, فركز في طبعي حب العلم, ومازال يوقعني على المهم فالمهم, ويحملني على الأصوب حتى قوم أمري, وكم قد قصدني عدو فصده عني, وإذا رأيته قد نصرني وبصرني ودافع عني, ووهب لي قوى رجائي في المستقبل بما قد رأيت في الماضي.
ابن الجوزى يتحدث عن نفسه:
يقول: وما ابتلى إنسان قط بأعظم من علو همته؛ فإن من علت همته يختار المعالي وربما لا يساعد الزمان, وقد تضعف الآلة فيبقى في عذاب, ولا أقول ليته لم يكن؛ فإنه يحلو العيش بقدر عدم العقل, والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل.
وقال أيضا: نظرت إلى علو همتي فرأيته عجبا؛ وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه, لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها, وأريد استقصاء كل فن, وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه.
وقال: خلقت لي همة عالية تطلب الغايات, بلغت الستين, وما بلغت ما أملت, فأخذت أسأل الله تطويل العمر وتقوية البدن وبلوغ الآمال, فأنكرت علي العادات وقالت: ما جرت عادة بما تطلب, فقلت: إنما أطلب من قادر على تجاوز العادات.
وقال: وإني أخبر عن حالي ما أشيع من مطالعة كتاب, وإذا رأيت كتابا ً لم أره, فكأني وقعت على كنز, ولقد نظرت في بعض الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية, فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد, وفي بعض كتب أبي حنيفة, وكتب الحميدي وكتب شيخنا عبد الوهاب , , وابن ناصر, وكتب أبي محمد بن الخشاب, وكانت أحمالا وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه.
ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر, وأنا بعد في الطلب, فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم, وقدر همهم وعبادتهم, وغرائب علومهم ما لم يعرفه من لم يطلع فصرت أستزري الناس فيه, وأحتقرهم الطلاب ولله الحمد.
وقال: " إني رجل حبب إلي العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به ثم لم يحبب إلي فن واحد منه بل فنونه كلها, ثم لا تقتصر همتي في فن على بعضه بل أروم استقصاءه ".
وله من أبيات:
الله أسأل أن يطــول مدتــــي*** لأنـــال بالإنعـــام مــا في نيتـــي
لي همة في العلم ما إن مثلها *** وهي التي جنت النحول هي التي
درر من أقواله ونتف من أشعاره:
عقارب المنايا تلسع, وخدران جسم ينع, وماء الحياة في إناء العمر يرشح.
يا أمير, اذكر عند القدرة عدل الله فيك, وعند العقوبة قدرة الله عليك, ولا تشف غيظك بسقم دينك.
وقال لصديق: أنت في أوسع العذر من التأخر عني لثقتي بك, وفي أضيقه من شوقي إليك.
وقال له رجل: ما نمت البارحة من شوقي إلى المجلس. قال: لأنك قد تريد الفرجة, وإنما الليلة أن لا تنام.
وقام إليه رجل بغيض فقال: يا سيدي: نريد كلمة ننقلها عنك, أيما أفضل أبو بكر أو علي ؟ فقال: اجلس فجلس, ثم قام فأعاد مقالته, فأقعده, ثم قام فقال: اقعد فأنت أفضل من كل أحد.
وسأله آخر أيام ظهور الشيعة فقال: أفضلها من كانت بنته تحته, وهذه عبارة محتمة ترضي الفريقين, وسأله آخر: أيما أفضل أسبح أو أستغفر ؟ قال: الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور, وقال: من قنع طاب عيشه, ومن طمع طال طيشه.
وقال يوما ً في وعظه: " يا أمير المؤمنين, إن تكلمت خفت منك, وإن سكت خفت عليك.
وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك, فقول الناصح: اتق الله خير من قول القائل: أنتم أهل بيت مغفور لكم.
وقال: يفتخر فرعون مصر بنهر ما أجراه, ما أجرأه ؟
وقال الواعظ أبو القاسم العلوي وأنشدني بواسط لنفسه:
يا ساكن الدنيا تأهـب*** وانتظر يوم الفـــــراق
واعد زادا ً للرحــيـل *** فسوف يحدي بالرفـاق
وابك الذنوب بأدمــع *** تنهل من سحب الماقي
يا من أضاع زمانــه *** أرضيت ما يفني ببــاق
وله أيضا:
ستنقلك المنايا عن ديــــارك *** ويبدلك الردى دارا ً بــــدارك
وتترك ما عنيت به زمانــــا ً*** وتنقل من غناك إلى افتــــارك
فدود القبر في عينيك يسعى *** وترعى عين غيرك في ديارك
ما أخذ عليه:
قال الدكتور الصباغ:
كان لابن الجوزي زلات نذكرها من باب التقويم الموضوعي للرجل, ولله در من قال:
من ذا الذي ترجي سجاياه كلها *** كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
ونسأل الله أن يتجاوز عنا وعنه, وأن يغفر لنا وله, وأن يسامحنا وإياه, إنه سبحانه سميع مجيب كان لابن الجوزي مواقف يبدو أنها متعارضة, ويبدو هو من خلالها مزدوج الموقف فهو عندما ينتقد الصوفية والمتساهلين في الحديث يكون إنسانا ً على منهج سليم يدعو إلى الحق الذي يراه بجرأة وحرارة, كما يظهر ذلك جليا ً في ( تلبيس إبليس ), أو في مقدمة ( صفوة الصفوة ), أو كتاب ( الموضوعات ), ولكنه في مواضع من مؤلفاته تراه من أشد الناس تساهلا ً في إيراد الأحاديث الضعيفة التالفة كما نطالع ذلك, في كتابه ( المدهش ) أو ( ذم الهوى ), وتراه في مواضع أخرى يأتي بالقصص الباطلة والخرافات المردودة, ويورد ما يقوله المتصوفة ويحكونه في مجالسهم, مع أنه انتقدهم وعاب عليهم فكرهم وسلوكهم, وذكرهم بما يستحقون, ووجه إليهم اللوم اللاذع.
ومما أخذ عليه كثرة الغلط فيما يصفونه:
قال الذهبي: قرأت بخط الموقاني: أن ابن الجوزي كان كثير الغلط فيما يصنفه, فإنه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره.
قال الذهبي: نعم له وهم كثير في تواليفه, يدخل عليه الداخل من العجلة والتحويل إلى مصنف آخر, ومن أن جل علمه من كتب وصحف, ما مارس فيها أرباب العلم كما ينبغي.
ومن ذلك ميله إلى التأويل أحيانا:
قال الحافظ بن رجب: نقم عليه جماعة من مشايخ أصحابنا ميله إلى التأويل في بعض كلامه, واشتد نكيره عليه في ذلك, ولا ريب أن كلامه في ذلك مضظرب مختلف, وهو وإن كان مطلعاً على الأحاديث والآثار فلم يكن يحل شبه المتكلمين, وبيان فسادها.
ثم بين سبب ميله للتأويل فقال:
كان معظما ً لأبي الوفاء بن عقيل, متابعا ً لأكثر ما يجده من كلامه, وإن كان قد رد عليه في بعض المسائل, وكان ابن عقيل بارعا ً في الكلام, ولم يكن له خبرة تامة بالحديث والآثار, فلهذا يضطرب في هذا الباب, وتتلون فيه آراؤه, وأبو الفرج تابع له في هذا التلون.
وقال موفق الدين: ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ, وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة, وكان صاحب فنون, كان يصنف في الفقه ويدرس, وكان حافظا ً للحديث, إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة, ولا طريقته فيها, وكانت العامة يعظمونه, وكانت تنفلت منه في عض الأوقات كلمات تنكر عليه في السنة, فيستفتي عليه فيها ويضيق صدره من أجلها.
ومما أخذ عليه شيء من الإعجاب بالنفس, واحتقار معاصريه, ويبدو أن من أسباب ذلك ذكاؤه النادر, ومجالس وعظه العجيبة الفريدة, التي لم يسبق إليها, ولا يلحق فيها.
ومما يشير إلى ذلك قوله:
كم كان لي من مجلس لو شبهت *** حــالاته لتشبــــهت بالجنة
اشتاقه لمـــا مضت أيامه *** عطلا ً وتعذر ناقة إن حنت
قال الدكتور الصباغ: وقد كان منه بهاء وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه, وذلك ظاهر في كلامه في نثره ونظمه فمن ذلك قوله:
ما زلت أدرك ما غلا بل مـــا علا *** وأكابد النهج العسير الأطـــولا
تـجري بـي الآمـــــال في حلباته *** طلق السعيد جرى مدى ما أملا
أفضي بي التوفيق فيه إلى الذي *** أعيا سواي توصلا وتغلغــــــلا
لو كان هــذا العلم شخصا ناطقا ً*** وسألته هل زار مثـــــلي قال لا
مصنفاته:
ذكر الأستاذ عبد الحميد العلوجي: مؤلفاته ابن الجوزي المطبوعة والمخطوطة والضائعة ونحن نقتصر على المطبوع من ذلك فرارا ً من التطويل.
1) إخبار أهل الرسوخ في الفقه والحديث بمقدار المنسوخ من الحديث.
2) أخبار الظرفاء والمتماجنين.
3) أخبار النساء ( طبع منسوبا لابن القيم ).
4) الأذكياء.
5) بستان الواعظين ورياض السامعين.
6) تاريخ عمر بن الخطاب.
7) تقوين اللسان.
8) تقليح فهوم أهل الأثر.
9) تنبيه النائم الغمر على حفظ مواسم العمر.
10) دفع شبه التشبيه والرد على المجسمه.
11) ذم الهوى.
12) الذهب المسبوك في سيد الملوك.
13) روح الأرواح.
14) رءوس القوارير.
15) سيرة عمر بن عبد العزيز.
16) صفوة الصفوة.
17 ) صيد الخاطر.
18) الطب الروحاني.
19) العروس, أو مولد النبي صلى الله عليه وسلم, وطبع بعنوان ( بغية العوام في شرح مولد سيد الأنام ).
20) كتاب الحمقى والمغفلين.
21) كتاب الوفا في فضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم.
22) مختصر مناقب عمر بن العزيز.
23) المدهش.
24) ملتقط الحكايات.
25) مناقب أحمد بن حنبل.
26) مناقب بغداد.
27) مناقب الحسن البصري.
28) المنتظم في تارخ الملوك والأمم.
29) الناموس في تلبيس إبليس ( وطبع بعنوان تلبيس إبليس ).
واستدرك عليه الدكتور حسن ضياء الدين عتر ثلاثة عشر كتابا ً:
- التبصرة.
- الثبات عند الممات.
- زاد المسير في علم التفسير.
- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية.
- غريب الأحاديث.
- فنون الأفنان في عيون علوم القرآن.
- كتاب القصاص والمذكرين.
- كتاب اللطف في الوعظ.
- لفتة الكبد في نصيحة الولد.
- مشيخة ابن الجوزي.
- المصغى بأكف أهل الرسوخ في علم الناسخ والمنسوخ.
- الموضوعات في الأحاديث المرفوعات.
- نواسخ القرآن.
محنته:
ـ رغم أن المحنة التي تعرض لها الإمام ابن الجوزي كانت في آخر عمره، إلا إن أسباب تلك المحنة كانت قديمة وبعيدة الجذور، وذلك لأمرين، أولهما متعلق بالأجواء السائدة في بغداد خلال القرن السادس الهجري، وثانيهما متعلق بطبيعة شخصية ابن الجوزي والتي أورثته خصومة وعداوة الكثيرين.
فبغداد ومنذ سيطرة الدولة السلجوقية على مقدرات الخلافة العباسية وظهور شخصية الوزير الشهير نظام الملك، أخذ أتباع المذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية في الظهور والتحكم في الساحة العلمية لبغداد عاصمة الخلافة، والسيطرة على حلق العلم والمدارس الفقهية ومحاريب الجوامع، وكانت تلك المكانة من قبل بيد أتباع المذهب الحنبلي والعقيدة السلفية، فلما ظهر الشافعية استطالوا بشدة على الحنابلة وضيقوا عليهم في المجالس والمدارس، ودخلوا معهم في مهاترات حامية بسبب العقائد، وشنعوا عليهم، وظل الأمر على ما هو عليه فترة طويلة، حتى ظهرت شخصية الإمام ابن الجوزي الذي استطاع أن يستقطب الناس إلى مجالس وعظه ويبهرهم بفريد عباراته وفائق تذكيراته، فحضر مجالسه عشرات الآلاف من الكبار والصغار والرجال والنساء، وحضرها الخليفة العباسي نفسه والسلطان السلجوقي، والوزراء والأمراء والكبراء والأغنياء والفقراء، وحتى كان يحضرها الشيعة الروافض الذين بهرهم رائع بيانه، خاصة وابن الجوزي كان ممن يداري ويهادن ولا يخوض في الخلافيات، بالجملة أصبح ابن الجوزي حديث الناس وأشهر علماء بغداد والعراق، وقد أدى ذلك لارتفاع مكانة الحنابلة وإقبال الناس على شيوخ المذهب، وذلك الأمر أغاظ أتباع باقي المذاهب عامة والشافعية خاصة.
وفي سنة 550هـ استوزر الخليفة العباسي المقتفي بالله الوزير عون الدين بن هبيرة وكان من خيار الوزراء وأفاضل العلماء، وكان حنبليًا سلفيًا، وقد اجتهد ذلك الوزير الصالح في إقامة الدولة العباسية واستعادة هيبة الخلافة، وحسم مادة ملوك السلاجقة، وكان ذلك الوزير مصاحبًا لابن الجوزي قبل ذلك، فلما صار في الوزارة، قرَّب ابن الجوزي واصطفاه لمجالسه ومشورته، وارتفعت مكانة ابن الجوزي أكثر مما قبل، وكذلك الحنابلة، وقد استمر ذلك الوزير في منصبه خلافة المقتفي ثم ولده المستنجد، وكان له كثير من الخصوم لصلاحه وكفاءته في الإدارة والإخلاص للدولة العباسية، ومن كان خصمًا لابن هبيرة كان خصمًا لابن الجوزي معه للصداقة التي بينهما، وقد قتل ذلك الوزير الصالح بالسم سنة 560هـ ولم يعلم قاتله، وبموته أخذ أعداء ابن الجوزي في التربص به والكيد له.
هذا الشق كان فيما يتعلق بالأمر الأول والمتعلق بأحوال الخلافة والأجواء السائدة في بغداد، أما فيما يتعلق بالأمر الثاني وهو طبيعة شخصية ابن الجوزي نفسه، فإن ابن الجوزي كان مفخرة العراق في وقته ودرة بغداد في زمانه، شهرته طغت على علماء الوقت، فحسدوه وغاروا من إقبال الناس عليه، وقابل ذلك هو بمزيد من الاعتداد بالنفس والاعتزاز بالقدر حتى داخله نوع من العجب والغرور، كما أنه كان شديدًا في نقده، حادًا في ملاحظاته، لاذعًا في تعليقاته، خاصة على الوعاظ والعلماء من الشافعية والأحناف، لا يبالي بمكانة وقدر من ينتقد ويجرح، حتى خرج بنقده إلى نوع من التحامل والتعصب، وهي أمور كلها قد أورثته عداوة وخصومة الكثيرين حتى من أصحابه الحنابلة الذين غضبوا من انتقاده للشيخ الرباني عبد القادر الجيلاني وكان رأس الوعاظ في العراق قبل ظهور ابن الجوزي وفي نفس الوقت شيخ الحنابلة بالعراق.
محنة آخر العمر:
ظل ابن الجوزي على مكانته ومنزلته حتى تولى الخلافة الناصر لدين الله العباسي سنة 575هـ، وكان يخالف سيرة آبائه وأجداده، فقد كان أول وآخر خليفة عباسي يتشيع ويتظاهر بذلك ويجهر به، وقد عمل على تقريب الشيعة، فاستخدمهم في أعماله وشئونه وبالطبع أخذت الأضواء تنحسر عن رجال أهل السنة وعلمائهم، ومنهم ابن الجوزي، فاستغل خصوم الرجل ذلك الأمر، وخططوا للإيقاع به.
كان من ألد أعداء الشيخ ابن الجوزي، رجل اسمه الركن عبد السلام بن عبد الوهاب وهو حفيد الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكان أبناء الشيخ عبد القادر وأحفاده يبغضون ابن الجوزي بشدة بسبب رأيه في الشيخ عبد القادر وانتقاده الدائم له، وكان الركن عبد السلام ذلك أشدهم كراهية لابن الجوزي، ولكن لسبب آخر وهو أنه كان رجلاً رديء المعتقد على مذهب الفلاسفة، شروبًا للخمر، فأفتى ابن الجوزي بحرق كتبه فأحرقت ومنعت، ثم أخذت منه مدرسة جده الشيخ عبد القادر الجيلاني وأعطيت لابن الجوزي، فانسم الركن لذلك وقرر الإيقاع بالشيخ ابن الجوزي.
العجيب أن الذي تآمر مع الركن عبد السلام في مؤامرته ضد ابن الجوزي هو أقرب الناس لابن الجوزي، ولده الكبير أبو القاسم علي، وكان ماجنًا فاسقًا نديم الركن في مجالس الخمر والفجور، وكان عاقًا لأبيه، وقد هجره أبوه وإخوته لسوء أخلاقه وأفعاله، فتآمر أبو القاسم علي مع الركن عبد السلام للنيل من الشيخ ابن الجوزي.
تولى الوزارة في تلك الفترة رجل شيعي اسمه ابن القصاب وكان صديقًا للركن عبد السلام للموافقة في الاعتقاد، فسعى عنده للإيقاع بالشيخ عند الخليفة الناصر العباسي، فقال الوزير الرافضي للخليفة العباسي: (أين أنت من ابن الجوزي الناصبي؟ وهو أيضًا من أولاد أبي بكر الصديق) ثم ما زال بالخليفة حتى غير قلبه عن ابن الجوزي، وفوض الأمر إليه في التصرف معه، وذلك سنة 590هـ، وكان ابن الجوزي وقتها في الثمانين من العمر، ففوض الوزير ابن القصاب الركن عبد السلام في التصرف مع الشيخ ابن الجوزي، فذهب إلى داره بنفسه ومعه الكثير من الحراس وأبناء الشيخ عبد القادر، فشتموه وأهانوه وجذبوه بشدة من بين عياله، وكان عليه ملابس خفيفة بلا سراويل وختموا على داره، ووضعوه في سفينة صغيرة، ونفوه إلى مدينة واسط، وهناك حبسوه في بيت ضيق بلا أحد يخدمه وكان شيخًا مسنًا قد جاوز الثمانين، فبقي وحده يطبخ لنفسه ويغسل ثيابه لنفسه، ممنوع عليه الاجتماع مع الناس أو الجلوس للوعظ كما هي عادته، ولاقى ضروبًا من المحن والهم والتعب طيلة خمس سنوات في النفي.
لم يكتف الركن عبد السلام بما فعله مع الشيخ ابن الجوزي من الإهانة والنفي والتشريد والسجن الانفرادي، بل حاول التوصل إلى والي مدينة واسط وكان شيعيًا أيضًا ليقتل ابن الجوزي، فقال الوالي للركن: (يا زنديق، أفعل هذا بمجرد قولك؟ هات خط أمير المؤمنين، والله لو كان على مذهبي، لبذلت روحي في خدمته) فخاب سعي الركن وفشلت خطته، ولكن لم يمنع ذلك من التضييق على ابن الجوزي وحبسه.
تلك المحنة الكبيرة التي نزلت بالشيخ ابن الجوزي وهو في أواخر عمره، وبعد أن جاوز الثمانين قد زاد من ألمها جناية ولده أبي القاسم علي على تراث أبيه العلمي ونتاجه التأليفي، إذ تسلط ذلك الولد العاق الفاسق على كتب أبيه وكانت مئات المجلدات في شتى الفنون، وباعها بالأحمال وشرب بثمنها الخمر، وتجاهر بذلك الفحش والخسة، والأب يعاني في غربته ووحدته مرارة ذلك الجحود والنكران.
ظل الشيخ ابن الجوزي في محنته بين النفس والسجن والإهمال والإهانة خمس سنوات كاملة كانت كفيلة بتحطيم عزيمة أي رجل قوي وليس بشيخ مسن طاعن في السن، ولكن الشيخ العلامة ابن الجوزي الذي طالما وعظ الناس وذكرهم وصبَّرهم ورغبَّهم ورهبَّهم، حول محنته إلى منحة عظيمة، وروض تلك المحنة الأليمة، فاستغل تلك السنوات الخمس في قراءة كتب الحديث والتلاوة بالعشر قراءات للقرآن على يد الشيخ ابن الباقلاني، وأبدى همة عالية في ذلك، حتى أتم حفظ القراءات العشر وهو في الرابعة والثمانين من العمر.
وفي سنة 595هـ أذن الله - عز وجل - في رفع المحنة وفك الكربة، وذلك بشفاعة أم الخليفة الناصر العباسي، وعاد ابن الجوزي من منفاه في واسط إلى بغداد، وأذن له في الوعظ كما كان، وعاد إلى مكانته وعزه وسؤدده، وحضر الخليفة العباسي بنفسه أول مجالس وعظه، وكانت كلمات ابن الجوزي مؤثرة، ملهبة، وقد خرجت من قلب احترق بالمحن حتى خرج نقيًا.
وفاته:
مرض ابن الجوزي خمسة أيام, وتوفي ليلة الجمعة, بين المغرب والعشاء, في الثالث عشر من رمضان المبارك سنة سبع وتسعين وخمسمائة, وله من العمر سبع وثمانون سنة, وارتجت قلوب الناس لنبأ وفاته رجا, وغلقت الأسواق, وحضر لجنازته خلق عظيم, وحملت جنازته على رؤوس الناس, ثم ذهبوا به إلى جامع المنصور للصلاة عليه, فصلى عليه ابنه القاسم علي, إذ لم يتمكن العلماء والأعيان من الوصول إليه, وضاق الجامع على سعته بالناس, وكان يوما ً مشهودا ً, فلم يصل إلى حفرته بباب حرب بمقبرة الإمام أحمد إلا وقت صلاة الجمعة, وصادف ذلك شهر تموز, وقيظ الصيف والناس صيام, ودفن عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد – رحمهم الله -.
المراجع والمصادر:
سير أعلام النبلاء
البداية والنهاية
وفيات الأعيان
تذكرة الحفاظ
طبقات الحفاظ
طبقات الحنابلة
المقصد الأرشد
شذرات الذهب
مرآة الزمان
سيرة ابن الجوزي للدكتور الصباغ
من أعلام السلف
ترويض المحن
التعليقات