اقتباس
وكان الربيع بطئ الفهم، فكرر عليه الشافعي مسألة أربعين مرة فلم يفهم، وقام من المجلس حياء، فدعاه الشافعي في خلوة، وكرر عليه حتى فهم !. طبقات الشافعية (2 / 134).
• وقد اقتصّ الإمام الربيع هذا الخلق وامتثله، فكان مما كتبه الربيع إلى البويطي: "اصبر نفسك للغرباء، وحسّن خلقك لأهل حلقتك". طبقات الشافعية (2 / 165)..
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. .
أما بعد:
فإن الحديث عن قَرابةِ العلم ونسبِه ربما يدفعه ويتعجب منه من حُرِم رابطة العلم وقرابته ورَحِمه ولم يتصل له به نسب إلى أهله.
فأما من خالطت قلبه أنسَة الطلب، ولذة التتلمذ، وشامّ أهل العلم وتأدّب في حلقهم وتحنّك بحِناكهم؛ فليس يُنكر مما يجده في هذه السطور؛ إلا ما يرى من قصور عبارتي عن درْك هذا الأمر والإحاطة به.
• وأبوة العلم والتعليم شعبة من الهدي النبوي، فقد ثبت في سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال ?: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم". سنن أبي داود (8).
وفي مصنف عبد الرزاق عن بجالة التميمي في قصة عمر مع أبي بن كعب وفيها أن في مصحف أُبي: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم ". (18748)
فهذه أبوة رعاية وتعليم، وهي من جهة أمته بنوة إجلال وتوقير وحرمة، والعلماء ورثة الأنبياء، فلهم من تحقيق الأبوة ورعاية صفتها بحسب ما لهم من اتباع هدي النبي -?-.
• وقد بلغ من تعظيم ذِمام العلم وحفظ لِبانه عند أهله؛ أن تراهم يَنْحلون هذه الصِّلة المعنوية والقرابة الأدبية كلّ مَن تعلق بهم باستفادة ودراسة، ولذا كان الشيخ أبو إسحاق الشيرازي - فقيه الشافعية - يقول: "من قرأ عليّ مسألة فهو ولدي". طبقات الشافعية (4 / 226).
• بل قد تبلغ منزلة الطالب الصالح أعظم عند الشيخ من منزلة الولد وأحب !
قال مالك بن دينار: أتينا أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنا وثابت البناني ويزيد الرقاشي، فنظر إلينا فقال: "ما أشبهكم بأصحاب محمد -?-، لأنتم أحب إلي من عدة ولدي إلا أن يكونوا في الفضل مثلكم، إني لأدعو لكم في الأسحار". تاريخ دمشق (56 / 398).
• وكما قام ذلك المعنى بقلوب الأشياخ والعلماء، فقد كان حاضرا في نفوس التلاميذ والأصحاب يرعونه رعايته ويَرْبُونه، ومما اشتهر في بابه؛ ما قاله الإمام النووي في المجموع، حين تحدث عن عثمان بن سعيد الأنماطي قال: "وهو أحد أجدادنا في سلسلة الفقه" المجموع (1 / 156).
وقد كرّر الإمام النووي هذا المعنى في مواضع، فذكر ذلك عن ابن سريج. المجموع (1 / 159)
وسفيان بن عيينة. (3 / 38) والماسرجسي. (3 / 386) وغيرهم.
• وإن من بركة العلم أن يعتقد صاحبه هذه الرتبة في تبليغ العلم، وأن يلتزم بلازمها، فيصطنع لطلابه ما يصطنعه الوالد مع أبنائه من الإكرام والعطاء والحياطة والتربية.
ومن لازم ذلك بذل العلم لطلابه بسخاوة خاطر، طيّبة به نفسُه، دون عنت وشمَز، وقد كان أحمد بن سليمان الصواف المالكي - وهو من رجال سحنون وأصحابه - يقول: " أنا حبس وكتبي حبس ! ". الديباج المذهب (95).
فانظر هذا المنزل الرقيق الذي أنزله نفسه، حتى شبّهها بالأحباس الموقوفة المبذولة لمن مدّ يده من أصحابها.
• والأبوة العلمية داعية لذلك مقتضية له، فإن خاصّتها من الأخلاق؛ احتمال الطلاب في طلبهم، وعدم التحامي عنهم، وقد جاء في ترجمة الحافظ أبي نعيم الأصبهاني: " أنه كان يقرِئ إلى قريب من الظهر، فإذا قام إلى داره كان يُقرَأ عليه في الطريق، وكان لا يضجر من ذلك ". تاريخ الإسلام (9 / 468).
• ومن الأخبار العظيمة التي تدل على برهم بطلابهم والتحنن عليهم، أن أسد بن الفرات حين قدم على ابن القاسم ليأخذ عنه، قال ابن القاسم: "كنت أختم في اليوم والليلة ختمتين، فقد نزلت لك عن واحدة !. . رغبة في إحياء العلم" سير أعلام النبلاء (7 / 547)
• وقد ذكر ابن اللباد اللغوي الطبيب أنه أخذ على الوجيه الواسطي في اللغة وهو صبي قال: " فكان يأخذني بكلتا يديه ويعلمني بوجوه كثيرة من التلطف، فإذا خرجنا من المسجد ذاكرني في الطريق.. ". عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة (684).
• وهذا ليس مما يتعجب منه عند أولئك الأطهار، لكن انظر هنا خبر سعيد بن المسيب في بذله للعلم وتبليغه وهو على مشفر الموت، وكان سعيد قد أُخذ بأمر عبد الملك بن مروان، وأُقيم في الشمس، وظنوا أنه سيقتل فدنا منه قتادة قال: "وجعلت أسأله خوفا من أن يفوتني، وهو يجيبني حسبة ! والناس يتعجبون". السير (4 / 232)
• ثم ألم تسمع كلمة البر من الشافعي للربيع بن سليمان يوما: "لو أمكنني أن أطعمك العلم لأطعمتك".
وكان الربيع بطئ الفهم، فكرر عليه الشافعي مسألة أربعين مرة فلم يفهم، وقام من المجلس حياء، فدعاه الشافعي في خلوة، وكرر عليه حتى فهم !. طبقات الشافعية (2 / 134)
• وقد اقتصّ الإمام الربيع هذا الخلق وامتثله، فكان مما كتبه الربيع إلى البويطي: "اصبر نفسك للغرباء، وحسّن خلقك لأهل حلقتك". طبقات الشافعية (2 / 165)
• وأبلغ من ذلك أنه - رحمه الله - كان ينوّه باستفادته من طلابه وأصحابه فجاء عنه: "استفدنا من ابن خزيمة أكثر مما استفاد منا". طبقات الشافعية (3 / 112)
• وهذا الاعتراف الأبوي بالتعلم من الأصحاب والطلاب؛ منك - على طرف الثمام - في كتب تراجم العلماء كثيرا، قال ابن عيينة: "يلومونني على حب ابن المديني، والله لما أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني". تاريخ بغداد (13 / 421)
• وقال المازني: " قرأ عليَّ الرياشيُ كتاب سيبويه فاستفدت منه أكثر مما استفاد مني ". معجم الأدباء (4 / 1483).
• وأطول من ذلك وأفخم ما اشتهر في تراجم أهل الرواية - من حفاظ الحديث - في أخذهم عن طلابهم والرواية عنهم، مع طلبهم العلو في الإسناد وحرصهم عليه، بما تجده في علم (رواية الأكابر عن الأصاغر) من علوم الحديث.
مع أن الإقرار بتلقي الإفادة ربما بخسه القرين مع قرينه، فيأبى الإقرار له باستفادة أو تعلم - فضلا عن الشيخ مع تلميذه - لكن من تحققت فيه صفة أبوة العلم خلا فؤاده من مثل هذه الضِّنة، وخفّ لسانه ببذل الثناء لمن أفاده من طلابه.
• وقد تجده مع ارتفاع كعبه في العلم، لا يأنف أن يسأل أحدا من طلابه، كما كان ابن مسعود يسأل زراً عن العربية، وكان زرٌ من أعرب الناس.
الثقات (4 / 269)
• بل عساه أن ينْفَحه هدية وَصِلة، جزاء إفادته مكافأة له، فعن عكرمة قال: قرأ ابن عباس هذه الآية: (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا) قال ابن عباس: لم أدر أنجا القوم أم هلكوا ؟
قال عكرمة: فما زلت أبين له حتى عرف أنهم قد نجوا !
قال: فكساني حلة " تفسير الطبري (13 / 187).
• هذا. . ولقد كان العهد أن تذكر أحاديث تعظيم الطلاب لشيوخهم وأخبار إجلالهم وتفخيم حرمتهم، ولئن كان ذلك كذلك؛ فقد كان صالحو العلماء يفخمون شأن النجباء من الطلاب، ويرفعون أمرهم، ومن ذلك أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم كان إذا رأى الحافظ أبا عثمان الصابوني قام له، وكان يعتد بكونه من أصحابه، هذا وهو يكبره بأكثر من أربعين سنة. طبقات الشافعية (4 / 276)
• ونقل السخاوي عن شيخه ابن حجر في - الجواهر والدرر - قال: "لم يكن يذكر أحدا من طلبته ولو صغر إلا بصاحبنا فلان، وما كنت أظنه يقصد مع التواضع بذلك إلا التنويه بذكرهم" (3 / 1025).
• وربما بلغ هذا الترفق والحنو مبلغا يتعجب منه القارئ، ومنه ما جاء في ترجمة محمد بن عبد الله التجيبي: "أنه كان آية في التواضع، إذا فرغ من الإقراء نهض مسرعا فقدم لطلابه نعالهم !" بغية الوعاة (1 / 142).
ولا ريب أنك ستجد من ينكر على صاحب هذا الصنيع صنيعه، لكن الذي لا ينبغي أن يُختلف فيه أن تعليم العلم وتبليغ الدين وتدريسه لا يجوز أن يكون مثابة تجبر وعُتو وارتفاع على الطلاب.
• وكما أن الأب لا يضم نفسه عن ابنه، ولا يكنز عنه مالًا ولا جهدًا ولا جاهًا، فكذا العالم ينبغي أن لا يكنز عن طلابه ما يقدر على بذله لهم، ومن حلو ما يذكر هنا؛ ما جاء عن الفقيه الصالح أبي عبدالله الكشفلي الطبري الشافعي، وكان معروفا بإكرام الطلبة والقيام بهم، وحصل أن اشتكى بعضهم إليه حاجة وفاقة، وأنه تأخرت عنه نفقته التي ترد إليه من أبيه، فأخذه بيده وذهب لبعض التجار فاستقرض له منه خمسين دينارا.
فقال التاجر: حتى تأكل شيئا فمد السماط فأكلوا.
وقال: يا جارية هاتي المال فأحضرت شيئا من المال فوزن ودفعها للشيخ.
فلما قاما إذا بوجه ذلك الطالب قد تغير، فقال له الكشفلي: مالك ؟
قال: قد سكن قلبي حب هذه الجارية !
فرجع به إلى التاجر
فقال: قد وقعنا في فتنة أخرى !
قال: ما هي ؟
قال: إن الفقيه ! قد هوي الجارية
فأمر التاجر بأن تخرج، وسلمها إليه، وقال: ربما تكون قد وقع في قلبها منه مثل الذي وقع في قلبه منها ! ". طبقات الشافعية (4 / 373)
• ومما وجدته فآنقني ولذّ لي، ما جاء عن شيخ الحنابلة منصور بن يونس البهوتي الإمام الفقيه المشهور فقد" كان له مكارم دارّة، وكان في كل ليلة جمعة يجعل ضيافة ويدعو جماعته من المقادسة، وإذا مرض منهم أحد عاده وأخذه إلى بيته، ومرضه إلى أن يشفى". خلاصة الأثر (4 / 426).
• ومن ذلك ما ذكره السخاوي عن عناية شيخه ابن حجر بطلابه قال: "منهم من يتفقده كل قليل، ومنهم من يقرر له شيئا ينفقه كل يوم، ومنهم من يتفقده عند قدومه وعند سفره، ومنهم من يعلم عدم حاجته لكنه يحب إكرامه". الجواهر والدرر (3 / 1013)
• لكن تمام الأبوة العلمية أن يبذل العالم من نفسه لأبنائه من أهل الدراسة والاستفادة، كما كان من ابن تيمية، فقد كان ذا نصرة وفزعة للناس خاصة طلابه ومن اتصل به، فحين وقعت على الجمال المزي تلك القضية، لما قرأ تحت قبة النسر - في الجامع الأموي - كتاب (خلق أفعال العباد)، فاعتقل المزي، فبلغ ابن تيمية ذلك، فقام حافيا ومعه أصحابه فأخرجه من الحبس !. نهاية الأرب (32 / 112).
وهكذا فلتكن المشيخة، وهكذا فلتكن أبوة العلم ورحمه، أما أن يشح الشيخ بنفسه عن طلابه لا يقرب منهم ولا ينفق ولا ينصر فهذا قعود عن منزلة الإمامة وتقصير دونها.
• ولا تزال هذه الأمة المباركة يخلف صالحَ سلفها صالحٌ من خلفها، يتقفر الشأن الأول ويعيد جميل الفضائل.
ومن شجي ما وجدتُ في ذلك خبرا عن العلامة: عبد الله بن عقيل، - وهو أحد والدينا في سلسلة الفقه - ذكره أحد أخص طلابه الدكتور: هيثم الحداد، - وكان قد لازمه سنين طويلة - فذكر: أنه كان إذا سافر؛ تعاهده الشيخ بالاتصال والسؤال. . يقول: " وربما مكثت زوجتي في بيت أهلها، فيتصل بهم سائلا عنها، وعن أحوالها وأولادها، طالبا الحديث معها متفقدا أحوالها مصرا أن لا تلجأ لأحد بعد الله إلا إليه. . وهو على كبر سنه وكثرة انشغاله ومقامه وفضله بين الناس لم يأنف أو يستكثر الاتصال الدائم بزوجتي مع أنها في عمر حفيداته. . ولما انتقلتُ مع عائلتي للحياة في بريطانيا ما انفك عن عنايته، وحتى لا يفوته الاتصال الدائم بي اتخذ من موعده الشهري الذي يصوم فيه الأيام البيض بمكة موعدا للاتصال بي في بريطانيا، وإذا حصل وسبقته بالاتصال يفرح بذلك فرحة عظيمة ممزوجة بعتاب نفسه لا أظن أحدا يتخيل سببه لمَ لمْ يسبق هو بالاتصال !. . وقد اعتاد الشيخ منذ سنوات طويلة قضاء الأيام البيض في مكة كل شهر يسافر بالطائرة " مجموعة الشيخ ابن عقيل 4 / 304.
رحم الله الشيخ ابن عقيل وجميع علمائنا ووالدينا في النسب والعلم. . آمين.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
التعليقات