عناصر الخطبة
1/ رحلة اختراع الإنسان واكتشافه لأدوات وأجهزة تعينه على سرعة التواصل 2/ اختراع الأجهزة والأدوات الحديثة نعمة عظيمة 3/ قصة خطيرة والعبر المستفادة منها 4/ وجوب تشجيع الأبناء على الاستفادة من الوقت في أنشطة بناءة مفيدة 5/ أخطاء تربوية تقع فيها الأسرة 6/ أهمية بناء روح الأبناء وغرس الأخلاق الكريمة.اهداف الخطبة
اقتباس
وقد أشارت دراسة مسحية لفريق من جامعة الملك سعود على عينة عشوائية إلى أن 21% يقضون أكثر من 6ساعات يوميّاً في استخدام الهاتف الذكي، بينما 27% يقضون من 4 إلى 6 ساعات و32% يقضون من ساعتين إلى 4 ساعات فتخيلوا كم من الأوقات الطويلة التي تضيع من هؤلاء وكيف سيكون حالهم وكيف يجيبون يوم القيامة عندما يسألون عن ذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يُسأل العبد يوم القيامة عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن عمله فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه"...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد: فقد استطاع الإنسان العيش ولآلاف السنين بلا استخدام للأجهزة الحديثة الكهربائية والإلكترونية، وكانت حياته سائرة بلا شك، بل وكان ينعم في أحياناً كثيرة بالسعادة وراحة البال على الرغم من عدم توفر تلك الأجهزة.
ومع هذا فقد يكون الإنسان شعر في وقت من الأوقات بنقص في القدرة على التواصل مع الآخرين، خاصة الذين تفصلهم عنه المسافات الكبيرة والبلدان الشاسعة، مما جعله يفكر في اختراع واكتشاف أدوات وأجهزة تعينه في سرعة التواصل، فاستخدم الحمام الزاجل وركوب الخيل السريع، ومن ثم العربات والقطارات والطائرات لنقل الرسائل والحاجيات المهمة وقد عملت تلك الأدوات بلا ريب على إيجاد حل لجزء كبير من مشكلة التواصل مع الآخرين.
ولكن ولأن الإنسان بطبعه يحب العجلة كما وصفه الله -تعالى- في سورة الإسراء (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) [الإسراء: 11]، فقد شعر أنه بحاجة لما هو أسرع ويقلل الوقت والجهد، فظل يحاول إلى أن اخترع في العصر الحديث القريب الأجهزة الالكترونية ومنها الأجهزة المحمولة والهواتف الذكية، واخترع الشبكة العنكبوتية مما وفرَّ على الإنسان الوقت والجهد وعناء السفر حتى أصبح بالإمكان اليوم إجراء المحادثات بالصوت والصورة مع الآخرين من الأصدقاء والأقارب والأهل الذين يقطنون في أقاصي الأرض وذلك بكل يسر وسهولة، حتى أصبح ممكنًا الوصول لأية معلومة وأحدثها بأسهل وأسرع طريقة دون الحاجة للخوض بين رفوف المكتبات وأصبح ممكنًا طباعة الأوراق والملفات وتخزينها بسهولة والتعديل فيها والعودة لها في أي وقت.
كل هذا من نعم الله -تعالى- على الإنسان والتي تستحق حمد الله، فلولا إرادة الله -تعالى- لما توصل الإنسان إلى اختراع تلك الأجهزة والأدوات، والتي هي نتاج جهد بشري مشترك بتوفيق من الله -تعالى- القائل: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) [لقمان: 20].
أيها الإخوة: ولقد استطاعت تلك الاختراعات والأدوات حل مشكلات كان يعاني منها الإنسان لقرون طويلة، ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هل يمكن أن تتحول هذه النعمة إلى نقمة؟
والجواب أن تلك الأجهزة والأدوات قد تكون سلاحاً ذا حدين إن لم يُحسن الإنسان استغلالها، وخاصة بين أبناء الجيل الناشئ فكثيراً ما نشاهد أبناءنا وهم يصرفون جزءاً كبيراً من وقتهم قد يصل إلى الساعات في كل يوم متنقلين بين الأجهزة المحمولة والذكية، وبين مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت كالفيس بوك والتويتر واليوتيوب من أجل مشاهدة ما يُنشر عليها من فيديوهات وأفلام وأخبار وأحاديث وآراء ونكات، دونما طائل يذكر في كثير من الأحيان، وإنما لمجرد إضاعة الوقت ومتابعة أحدث ما ينشر.
وقد أشارت دراسة مسحية لفريق من جامعة الملك سعود على عينة عشوائية إلى أن 21% يقضون أكثر من 6ساعات يوميّاً في استخدام الهاتف الذكي، بينما 27% يقضون من 4 إلى 6 ساعات و32% يقضون من ساعتين إلى 4 ساعات فتخيلوا كم من الأوقات الطويلة التي تضيع من هؤلاء وكيف سيكون حالهم وكيف يجيبون يوم القيامة عندما يسألون عن ذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يُسأل العبد يوم القيامة عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن عمله فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه".
ساعات طويلة تضيع هباء من عمر الإنسان وقد تصل به إلى العزلة الاجتماعية عن الأسرة وإلى الخمول الجسماني، وإلى الضغط والتوتر النفسي حتى تصل به إلى الولوج إلى المواقع اللاأخلاقية والإباحية، وهو الأمر الذي يحدث للكثير من الكبار والصغار.
وإليكم هذه القصة التي حدثت مع أحد الآباء، والتي تلقيتها من أحد الإخوة الأفاضل؛ يقول أحد الآباء في يوم سمعت ابنتي ذات الثماني سنوات تضحك في غرفتها فاستغربت من ضحكها وهي في غرفتها وحيدة، ولم يكن معها أحد يقول وبعد دقائق من الاستماع دخلت عليها وإذا بيدها الآيبود الخاص بها وما أن رأتني حتى أنزلته وأخفته عني بسرعة.
حاولت أن أعرف سبب ضحكها فبكت وقالت: لا شيء وبعد محاولات معها اعترفت بكلام وقع على مسامعي كالسهام فماذا قالت؟
تقول: كنت أسولف مع ولد عمره 20 سنة، وكانت قد تعرفت عليه ببرنامج kik عن طريق صديقاتها من بنات خالاتها وعماتها وجيرانها، وتقول: كل البنات يسولفون مع شباب مثلي، ويرسلون لنا صورهم ويطلبون منا صورنا، إنهم يرسلون لنا صور أعضائهم التناسلية ويطلبون نفس الشيء منا.
يقول الأب: كل هذه الاعترافات وأكثر جعلتني في حالة ذهول، ثم طلبت منها الآيبود ورجعت للمحادثات وإذا هم أكثر من ذئب بشري.
وفي إحدى محادثاتها يسألها أحد هؤلاء الذئاب عندك أخوات كبار؟ قالت: نعم. فقال: أرسلي صورتها بس لا تدري عنك، أو أرسلي صورة أمك؟ وراح أجيب لك هدية أو أي شيء تريدينه، فكان رد البنت المسكينة: لا عيب، ما يصلح.
واكتشفت أيضا أن ذئباً بشرياً آخر قال لها: أريد أن أراك عند باب بيتكم، مثل صديقي فلان الذي رأى بنت عمتك فلانة، وهذه أيضًا عمرها لم يتجاوز الـ12عاماً وهي من وضعت لابنتي هذا البرنامج في جهازها.
يقول الوالد: دهشت كثيرًا عاقبت نفسي وزوجتي عن غفلتنا عنها، وكيف تركناها دون رقيب أو حسيب.
ويقول: وها أنا أضع قصة ابنتي ذات الثمان سنوات، وكيف دخلت في عالم لا يقبل من الكبار فكيف بالصغار؟ وكيف اشتريت لها من مالي ما كاد أن يضيع أسرتي بأكملها؟!
ويقول أخيرًا: نصيحة إلى كل أم وأب أن يراقبوا هذه الأجهزة، ويمسحوا أي برنامج غير الألعاب مثل برنامج بي ماسنجر أو فابير أو تانقو أو kik أو ... إلى آخره من البرامج المماثلة أو أي برنامج دردشة بغض النظر عن الحاجة له، وتوعيتهم بمخاطر مثل هذه البرامج.
أيها الإخوة: وفي مجلس كنت فيه الأسبوع الماضي مع مجموعة من الفضلاء والذين هم على درجة كبيرة من التعليم والوعي والثقافة قمنا جميعاً بمناقشة أحداث القصة السابقة، وكانت الآراء متباينة، فهناك من أكد أنه على حق في منعه لأبنائه من اقتناء هذه الأجهزة، ومنهم من ذكر أنه من الصعب تطبيق سياسة المنع على الأبناء؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى نتائج عكسية لا تُحمد عقباها.
وهناك من ذكر أنه لابد من المتابعة والمراقبة عند إعطاء الأبناء هذه الأجهزة، واقترح البعض تخصيص أوقات معينة لاستخدام الأجهزة، وأخذها منهم عند النوم، واتفق الجميع على أننا أخطأنا جميعًا بحق أبنائنا عندما تركناهم لوحدهم يواجهون مخاطر استخدام هذه الأجهزة حتى أصبح ذلك على حساب صحة أبدانهم كسمعهم وبصرهم وذاكرتهم ونشاطهم وحركتهم، وعلى حساب أنشطة كثيرة كانوا يمارسونها من قبل كزيارة الأهل والأقرباء، وممارسة الهوايات المفيدة والأنشطة الخلاقة المبدعة والفنون الجميلة، وتلاوة القرآن الكريم وحفظه، وقراءة الكتب المفيدة، ومساعدة الآخرين والجلوس مع العائلة وتبادل الأحاديث معهم، وعلى حساب أوقات دراستهم وأعمالهم.
هذا بالإضافة إلى إضاعة المال للإنفاق على تلك الأجهزة يعني وبكل وضوح -أيها الإخوة- أبناؤنا وبناتنا في خطر، وأسرنا في خطر، بل وأصبحت بعض بيوتنا كالفنادق لا يلتقي فيها أفراد الأسرة إلا عابراً، فلا حوار ولا حديث بينهم، بل كل منكَبّ على جهازه حتى على السفرة أثناء الطعام وحتى في أوقات النوم وتحت الأغطية واللحف، فهل هذا معقول ترى أين نحن من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن لنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجتك عليك حقاً؛ فأعط كل ذي حق حقه".
فهل أعطينا كل ذي حق حقه، في الحقيقة لقد ضيَّعنا هذه الحقوق وأعظمها حق الله علينا إلا من رحم الله منا وهم قليل وصدق الله سبحانه (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة. وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم بترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً".
ويقول الدكتور عبدالكريم بكار: "إننا إذ نربي لا نقدم هديه لأبنائنا ولا نقوم بعمل تطوعي، وإنما نحاول بذلك أن نقوم بجزء مما التزمنا به من واجبات وآداب حين ارتضينا بالإسلام دينًا، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
ووقاية النفس والأهل من النار تكون بمتابعة المسلم نفسه وأهله، فيأمرهم بالخير ويحجزهم عن الشر، ويؤاخذهم بما يؤاخذ به نفسه، وسوف يسأل كل واحد منا عما استرعاه الله وإياه على نحو ما ورد في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ أم ضيَّع حتى يُسأل الرجل عن أهل بيته".
فهلا تابعنا حال أبنائنا وبحثنا عن حلول تعيد إليهم الروح الحقيقية للإنسان من أجل قضاء أوقاتهم فيما هو مفيد دونما حرمان من تلك الأجهزة، ولكن بتنظيم وضبط لاستخدامها، وذلك بمراقبة ومتابعة ما يقتنونه ويشاهدونه حماية لهم، ونقصد المراقبة غير المباشرة التي يسبقها التحصين الداخلي لهم بزرع تقوى الله في قلوبهم؛ الأمر الذي يجعلهم يخشون الله ويتركون محرماته بدلاً من أن يخشوننا في حضورنا، ويرتكبون المحرمات في غيابنا.
ويساعدنا في ذلك أن نذكر لهم القصص القرآنية في فضل العفة كقصة يوسف -عليه السلام-، والأحاديث النبوية كحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، والذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم شاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله".
وكذلك بالنسبة للفتاة ولا بد أن تربى وتذكر دائماً بفضل العفة وأهميتها بالنسبة لها، وأن الفتاة العفيفة هي كالدرة المصونة، محافظة على أخلاقها ودينها وشرفها أيضًا مما يمكن أن يسيء لها أو لأهلها.
وأن العفيفة هي السليمة من العيوب الأخلاقية والمعاكسات والتبرج والسفور، وأنَّ العفيفة قدوتها في الحياة أمهات المؤمنين والصحابيات والنساء الفاضلات من نساء الأمة وليس الراقصات والممثلات والنجمات كما يزعمون.
وأن العفيفة تاج رأسها هو الحياء فإذا فقدت الحياء فقدت دينها وأخلاقها وأنوثتها أيضا لذلك كانت أم المؤمنين عائشة عندما تحلف بالله تقول: "والذي زيّن النساء بحيائها".
كما أنه لا أفضل من الجلوس والحوار مع الأبناء وفي جلسات مستمرة بين وقت وآخر من أجل إقناعهم بأهمية استغلال الوقت بشكل أكثر إنتاجاً وإبداعاً وفائدة لأنفسهم وصحتهم ولمجتمعاتهم، فالوقت كنز ثمين لابد من الحفاظ عليه، وبخاصة أن الله محاسِب لنا على كل لحظة من أعمارنا كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "وعن عمره فيم أفناه"، وقال اغتنم خمساً قبل خمس وذكر منها "وفراغك قبل شغلك".
ومن هنا لا بد من تشجيع الأبناء على الاستفادة من الوقت في أنشطة بناءة مفيدة، إضافة إلى التقليل من الوقت والجهد والمال المصروف على تلك الأجهزة والأدوات تدريجياً وتشجيعهم على استغلال طاقاتهم فيما يحبون ويتميزون به والعودة من جديد للارتباط مع الأسرة في السفر والخروج إلى النزهات وزيارة الأقارب والأرحام، وكذلك الدخول في إنتاجات إبداعية وفنية وثقافية وعلمية ورياضية تعزز الإنتاجية والانتماء للدين والوطن والثقة بالذات.
وختاماً نقول: إن كثيراً من الآباء والأمهات يظن أن حسن التربية يقتصر على الطعام الطيب والشراب الهنيء والكسوة الفاخرة، والأجهزة الالكترونية الحديثة، والسيارات الفارهة والظهور أمام الناس بأحسن الصور وأبهاها ناسين أو متناسين أنَّ بناء الروح وغرس الأخلاق الكريمة أهم من بناء الجسم، فالروح تطلب غذاءً ألا هو طاعة الله، وتطلب زاداً ألا هو تقوى الله، وتطلب وقوداً هو عبادة الله، ولا يتيسر لها ذلك إلا بالتدرب والعمل على غرس القيم فيها، فلا فلاح لأبنائنا إذا اهتممنا ببناء الأجسام وأهملنا بناء الروح قال أبو الفتح البستي:
يا خادم الجسم كم تسعى لراحتـه *** أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
فهل يفعلون؟! نرجو ذلك ونتمناه.
التعليقات