عناصر الخطبة
1/ اهتمام الإسلام بالنبات والتحذير من إهلاكه 2/ النبات في القرآن: آيات وعبر وعظات 3/ أبرز معاني ودلائل خلق النبات وعلاقته بالكون وسائر المخلوقات 4/ مشاهد القدرة الإلهية في خلق النبات 5/ أوجه الشبه بين المؤمن والنخلةاقتباس
ما من مخلوق إلا وتتجلى فيه القدرة الإلهية والمعجزات الربانية، ولكن من مخلوقات الله -عز وجل- ما تجلت فيه القدرة الربانية أكثر من غيره، وعلى رأس هذه المخلوقات التي جعلها الله -تعالى- آية للعالمين النبات والزرع، ففيه من الآيات والمعجزات التي يتعين على كل مسلم صادق أن يقف عندها مشدوها متأملا معترفا ومقرا ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيز الغفار، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل, يعلم غيب السماوات والأرض, لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله المختار، الذي نصح الأمة بسنته وأنار، ومحا عنها لوثة الجاهلية والشنار، وأرشدها لطريق الجنة والبعد عن النار، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ما أدبر ليل وأقبل نهار.
عباد الله: الوصية المبذولة لي ولكم من رب العالمين، والتي قد أودعها كتابه الكريم، وحثنا عليها رسوله الأمين؛ هي تقوى السميع العليم؛ في السر والعلن، والسراء والضراء، والصحة والسقم، والحضر والسفر، فاتقوا الله أينما كنتم، وكيفما كنتم، يأتيكم الخير والفرج ما دمتم.
عباد الله: كم لله -عز وجل- من حكمة بالغة وقدرة شاملة في خلقه وفي كونه، وكم له من آيات باهرات ومعجزات ظاهرات في أدنى مخلوق في أرضه وسمائه، فلقد أقام المولى -جل وعلا- الكون على نظام دقيق محكم، خلق فيه كل شيء بإحكام وبديع صناعة، بحيث يستحيل أن تجد شيئا ناقصا أو به خلل أو يحتاج إلى تعديل أو تغيير للأفضل.
هذا الإبداع والإتقان الإلهي في الخلق والكون دفع كثيرا من علماء الغرب لإعلان إيمانهم بقدرة الله وربوبيته، وكثير منهم دخل الإسلام وآمن بالله ورسوله.
هذه الآيات الباهرات قد تجلت في خلق الله جميعا، ودعانا الله -عز وجل- للسير في الأرض، والنظر في الكون، والتأمل في الخلق؛ للتدبر والاتعاظ، والتصديق والإيمان بقدرة العزيز الحكيم.
وما من مخلوق إلا وتتجلى فيه القدرة الإلهية والمعجزات الربانية، ولكن من مخلوقات الله -عز وجل- ما تجلت فيه القدرة الربانية أكثر من غيره، وعلى رأس هذه المخلوقات التي جعلها الله -تعالى- آية للعالمين النبات والزرع، ففيه من الآيات والمعجزات التي يتعين على كل مسلم صادق أن يقف عندها مشدوها متأملا معترفا ومقرا بعظمة وقدرة الواحد الأحد.
عباد الله: لقد اهتم الإسلام بالنبات، وعرف قيمته ورفع قدره، فذُكر في القرآن بمشتقاته ومنتجاته المختلفة في أكثر من سبعين موضعا من كتاب الله، ختمها الله -عز وجل- كلها بالدعوة للاعتبار والتفكر، وإعمال العقل والتذكر.
ولقد حث الإسلام على استصلاح الأرض وزرعها، جاء من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ" رواه البخاري.
وبلغ من عناية الإسلام بالنبات والزرع أنه وصف من يقطع الزرع والنبات دون فائدة، وصفه بالفساد في الأرض، قال تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة:205].
وتوعد من يقطع النبات دون فائدة بدخول النار؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ" رواه أبو داود، وصححه الألباني.
وقد ذكر الإمام أبو داود أن ذلك يعني: من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم؛ عبثاً وظلماً بغير حق يصوّب الله رأسه في النار، وفي هذا حماية للأشجار البرية من القطع الظالم، وحماية لأشجار الغابات من القطع الجائر.
وقد أَذِنَ الله -عز وجل- للإنسان بالاستفادة من ثمار النبات ومنتجاتها، حيث يقول تعالى: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ * وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا * كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) [ق:10-11].
وقال: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) [يس:33-35].
والله -عز وجل- قد أعطانا العبرة والعظة من خلق النبات، وذلك في آيات كثيرة من كتابه الحكيم، فحديث القرآن عن النبات حديثٌ واسعٌ وكبيرٌ، زاخرٌ بالدلائل والإشارات لأولي النهى والأبصار، فالقرآن يتحدث عن النبات ورحلته العمرية من العدم إلى الوجود إلى العدم، وعلاقته بالكون وسائر المخلوقات من إنسان وحيوان؛ ليعطينا الكثير من المعاني والدلالات والعظات عن خلق النبات، مع ربط هذه المعاني بباقي منظومة الكون والخلق بكل مفرداته من إنسان وحيوان وجامد.
ومن هذه المعاني والعظات والدلائل:
أولا: حياة النبات: فليست الحياة قاصرة على شكلها المعهود عند البشر؛ بل حتى النبات والحيوان أمم وقبائل، وأشكال وألوان لا يحصيها إلا الله.
فالنبات منه ما هو معمر، ومنه ما هو حولي، ومنه ما هو فصلي، ومنه الأبيض والأسود، ومنه الأخضر والأزرق، ومنه زهر بلون، وزهر بلونين، وزهر بألوان، ومنه حلو، ومنه مر، ومنه حار، ومنه بارد، ومنه مالح، ومنه حامض، ومنه ثمر بنوى، وثمر بدون نوى، ومنه ثمر ظاهر على الأرض، ومنه ثمر على رأس الشجر، ومنه ثمر في باطن الأرض، ومنه ما يتكاثر بالنواة، ومنه ما يتكاثر بالعروق، ومنه ما يتكاثر بالأغصان، ومنه ما هو في البر، ومنه ما هو في البحر، ومنه ما هو رطب، ومنه ما هو يابس، ومنه ما هو مجموع كالرمان، ومنه ما هو مفرود كالتمر، ومنه الكبير، ومنه الصغير، ومنه الكروي، ومنه المستطيل، ومنه القائم، ومنه النائم، ومنه المعلق.
فسبحان الخلاق العليم الذي خلق هذه المواليد المختلفة من أم واحدة! (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) [يس:36].
وقد خلق الله -سبحانه- أصناف الأشجار والنبات، وزينها بالأوراق والأزهار والثمار، وجعل الأوراق زينة للأشجار، وستراً ولباساً للثمار، ووقاية لها من الآفات التي تمنع كمالها، ولهذا إذا جردت الشجرة من الورق، ماتت الشجرة، وفسدت الثمرة ولم ينتفع بها، ويكسو الله -عز وجل- الأشجار كل سنة لباساً جديداً من الأوراق.
فتبارك الله رب العالمين الذي يعلم مساقط تلك الأوراق ومنابتها، فلا تخرج منها ورقة إلا بإذنه، ولا تسقط إلا بعلمه: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59].
فما أشبه النبات بالإنسان في النشأة والخلق! فإنّ تكوّن حمل الشجر، وتقلبه من حال إلى حال كتنقل أحوال الجنين في بطن أمه؛ فبينما ترى الشجرة عارية، إذ كساها ربها بالزهر والورق أحسن كسوة، ثم أطلع فيها حملها ضعيفاً صغيراً، ثم ساق إليه غذاءه في تلك العروق، فتتغذى به كما يتغذى الطفل من لبن أمه، ثم رباه ونماه حتى استوى وكمل.
فسبحان العليم القدير الذي أخرج ذلك الجنى اللذيذ اللين الحلو من تلك الحطبة الصماء، في تلك الأرض الغبراء؛ إن الذي أحياها لمحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت:39].
ومن عجائب النبات أنه يشعر ويتألم؛ بل ويخاطب النباتات من حوله! وحادثة حنين جذع النخلة للنبي -صلى الله عليه وسلم- دليل على ذلك الذي انتقده المشككون والملحدون، حيث قالوا: هل يعقل أن النبات يشعر ويحن ويتألم؟ ولكن جاء الجواب من باحثين أمريكيين غير مسلمين فأكدوا أن النبات لديه إحساس بالألم، بل ويفرز مادة مسكنة لألمه، بل ويحذر بقية النباتات من الأخطار بواسطة مادة يفرزها.
وأمام هذه الحقيقة لا نملك إلا أن نقول: سبحان الله! فمن الذي علم النبات إفراز هذه المادة المسكنة أثناء تعرضه للألم؟ ومَن الذي زوَّده بهذه الأجهزة الدقيقة لإفراز المواد الكيميائية لتحذير الآخرين أثناء الإحساس بالخطر؟ إن الذي خلق النبات وزوده بهذه العجائب، قادر على جعل الجذع يحنّ ويئن إلى فراق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!.
ثانيا: تسبيح النبات؛ فمن كمال الخلق وتمام المشابه بين الإنسان والنبات وسائر المخلوقات أن النبات هذا الخلق البديع يذكر الله -عز وجل- ويسبحه، فمع هذا الجمال والزينة، وهذه الثمار المتنوعة، هناك جمال آخر، فلو شاهدها الناس وهي تسبح بحمد ربها، أغصانها وأوراقها، وأزهارها وثمارها لشاهدوا أمراً آخرا، ولرأوا خلقها بعين أخرى، ولعلموا أنها لشأن عظيم، فهي ساجدة لربها، مطيعة لخالقها الذي: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورً) [الإسراء:44].
فسبحان العزيز الجبار! الذي يسبح ويسجد ويصلي له جميع ما في السموات وما في الأرض من الكائنات، وسبحان من تؤوب له الجبال بالتسبيح، وتهبط من خشيته الأحجار، وتتفجر بالماء من خشيته الصخور الصماء!.
ثالثا: الإنسان والنبات: ومن تمام نعمة الله أنْ نشر النبات على سطح الأرض ونوّعه وزوّده بالقدرة على العيش في بيئات الأرض المختلفة؛ ليكون متاعاً للناس ولأنعامهم في تلك البيئات، وبهذا لا يعدم إنسان أو حيوان رزقه أينما كان، قال -عز وجل-: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وفَاكِهَةً وأَبَّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ * فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ) [عبس:24-32].
وبذلك ربط القرآن في ذهن المسلمين بين الطعام والحساب في الآخرة، فيتحرى المسلم الطعام الحلال؛ ثم ربط أيضاً بين الطعام والبعث؛ لأن الطعام يتفكك في المعدة لجزيئات تزوّد الخلايا الحية بالطاقة، وهذه صورة مصغرة لإحياء من في القبور.
فالله -تبارك وتعالى- خلق الأرض، وزينها بما على ظهرها من المياه والنباتات والأشجار، وفرشها بأنواع النبات، وجملها بالزهور، وحملها بالثمار من أجل الإنسان، الذي كرمه الله على سائر المخلوقات، قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء:7- 8].
ووضع المولى الكريم مائدة نِعَمِهِ عليها، مِن حُلْوٍ وحامض، ورطْبٍ ويابس، وثمر وحبوب، وزرع ونخيل، وعنب وزيتون، وفواكه مختلفة، وأعشاب متنوعة: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [عبس:24-32].
يا عبد الله: إنك إذا تأملت في غذائك في كل أطوارك، وغذاء جميع الكائنات من حيوان ونبات في كل أطوارها وجدتَّ أن أصل الغذاء للإنسان والحيوان هو النبات، ومصنع الغذاء في النبات هو ذلك المصنع الأخضر التي توجد في أوراق النباتات، وتُنتِج غذاء الكائنات كلها دون ضجيج أو مخلفات تفسد البيئة، قال -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام:99].
فأين تتجهون أيها المعاندون؟ وبأي آيات الله تجحدون؟ أليس الله هو القائل: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) [الملك: 21].
إن جميع الحيوانات والطيور والحشرات وسائر البشر، كلهم يأكلون من هذه المائدة التي خلقها الله، ووضعها لهم على هذه الأرض، وقد خلق الله -سبحانه- كل دابة ورزقها، فلا تموت حتى تستوفيَه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6].
فما أجهل البشر بخالقهم! وما أشدّ جرأة أكثرهم على معصيته! حيث جهلوا الكثير من آياته، وغفلوا عن العجيب من خلقه: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء:7-8].
رابعا: النبات وشفاء الأسقام: من آيات رحمة الله أن جعل لنا من النبات رزقاً تقوم به الحياة، وشفاء ورحمة ودواءً لكثير من الأمراض، ويتجه الطب اليوم إلى العلاج بالأعشاب بدلاً من المواد المصنعة.
ولقد ذكر القرآن الكريم العسل الذي تجمع النحل مادته من ثمار النباتات ورحيق أزهارها، فقال تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:68-69].
لقد بينت الآية أن في العسل شفاء للناس، كما بينت أن النباتات هي مصدر ذلك العسل، ولقد أثبتت الأبحاث الطبية الحديثة القدرة الشفائية الواسعة للعسل، وأشارت أحاديث الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى بعض النباتات ذات الفائدة الطبية.
خامسا: النبات والبعث والنشور: مثَل هذه الحياة الدنيا كَمَثَل المطر، ينزل على الأرض، فيختلط نباتها به، فتنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين، وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب.
كذلك هذه الدنيا! بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذة أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام، وفارق شبابَه وقوته وماله، وانفرد بصالحِ أو سيئِ أعماله.
هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلة والسكرات، بالتوبة والأعمال الصالحات.
فسبحان من غير بالماء الأرض المغبرة، حتى صارت مخضرة، وزينها بالنبات والأزهار، كما زين الإنسان بالثياب والأخلاق، وأنجب منها وأظهر ملايين المواليد من النباتات، ذلك هو الله الحق الذي لا ينبغي العبادة إلا له، فهو خالق كل شيء، كما ابتدأ الخلق، وكما أحيا الأرض بعد موتها، يحيي الموتى، ثم يجازيهم، وهو على كل شيء قدير.
وقال تعالى: (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات...) [الأعراف:57]، فأراد الحق -سبحانه- وتعالى أن يلفتنا وينبهنا إلى القضية اليومية التي نراها دائما في صور شتى، وهي أن الأرض تكون في بعض الأحيان جدباً، ثم يهبط عليها بعض المطر، وبمجرد أن ينزل المطر على الجبل، وبعد يومين من نزول المطر نجد الجبل في اليوم الثالث وهو مخضر، فمن الذي بذر البذرة للنبات ذلك اليوم؟ إذن؛ فالنبات كان ينتظر هذه المياه، وبمجرد أن تنزل المياه يخرج النبات دون أن يبذر أحد بذوراً.
ولقد شبه -سبحانه- الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض؛ لأن ماء السماء -وهو المطر- لا تأثير لكسب العبد فيه بزيادة أو نقص بخلاف ماء الأرض، فكان تشبيه الحياة به أنسب.
وقوله: (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ)، فهذا النبات الذي نما وازدهر بسبب نزول المطر من السماء، بعضه مما يأكله الناس؛ كالبقول والفواكه؛ وبعضه مما تأكله الأنعام كالحشائش والأعشاب المختلفة...
(حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ): تصوير بديع لما صارت عليه الأرض بعد نزول الماء عليها، وبعد أن أنبتت من كل زوج بهيج، حتى إذا استوفت الأرض حسنها وبهاءها وجمالها، وازينت بمختلف أنواع النباتات ذات المناظر البديعة، والألوان المتعددة.
قال صاحب الكشاف: "وهو كلام فصيح، جعلت الأرض آخذة زخرفها وزينتها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها، وتزينت بغيرها من ألوان الزينة".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وتابعيه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: لقد تجلت القدرة الإلهية في خلق النبات، وظهرت آثارها وأماراتها في حياة النبات، تجلت في مشاهدَ عديدةٍ في هذه الزروع التي تنبت، والأشجار التي تثمر، آية من آيات الله الباهرة، الذي خلقها ونمّاها، وأخرج منها الثمار والحبوب؛ فلكل نبتة، ولكل شجرة، ولكل ورقة، ولكل ثمرة، أمر من الله بالخلق، وأمر بالبقاء، وأمر بالنفع والضر.
ويقتصر دور البشر في أنهم يحرثون، ويُلقُون الحَبَّ الذي خلقه الله في الأرض التي خلقها الله، ويسقونه بالماء الذي خلقه الله، ثم ينتهي دورهم: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [الواقعة:63-67].
إن الحبة أو البذرة تأخذ طريقها إلى الحياة بأمر الله -عز وجل-، وتسير فيه سيرة العاقل العارف الخبير بمراحل الطريق، الذي لا يخطئ مرة كما يخطئ الإنسان في عمله، ولا ينحرف عن طريقه، ولا يضل الهدف المرسوم، فسبحان من خلقها! وسبحان من دبرها! وسبحان من كبّرها! وسبحان من صوّرها!.
ومن مشاهد القدرة الربانية في النبات ما يلي:
أولا: الخلق من العدم: إن يد القدرة الإلهية هي التي تتولى خطا النبات على طول الطريق في هذه الرحلة العجيبة التي ما كان العقل ليصدقها لولا أنه أبصرها ورآها؛ فأي عقل يصدق، وأي خيال يتصور أن حبة القمح مثلاً يكمن فيها هذا العود، وهذا الورق، وهذه السنبلة، وهذا الحب الكثير؟ أو أن هذه النواة تكمن فيها نخلة كاملة سامقة بكل ما تحتويه من جذور وأوراق وثمار وأولاد؟ العقل لا يصدق هذا لولا أنه يراه..
إن كل حبة، وكل نبتة، وكل بذرة تنبت وتنمو وترتفع بأمر خالقها، ولو شاء -سبحانه- لم تبدأ رحلتها، ولو شاء لم تُتم قصتها، ولو شاء لجعلها حطاماً قبل أن تؤتي ثمارها، وهي بمشيئة الله تقطع رحلتها من البدء إلى الختام، وتقدم نفسها طعاماً للإنسان، وهو يعصي ربه، ويخالف أمره، بل قد يستعملها في معصيته.
لكن الله غفور حليم يمنحهم الثمر، ويسمح للنبتة أن تتم دورتها، وتكمل رحلتها: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [البقرة:243].
ثانيا: تنوع النباتِ والماءُ واحد: إن الله -عز وجل- أنزل من السماء ماء، فمازج الأرض، فأوجد الله بينهما بسبب هذه الممازجة والمخالطة أنواعاً مختلفة من الثمار والفواكه والحبوب، والزروع والأشجار، وسائر الأغذية والأقوات المختلفة الألوان والأشكال، والأحجام والطعوم، كما قال -سبحانه-: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحج:5-6].
وفي آية أخرى يقول: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد:4].
ولذلك؛ من يتأمل في هذا التنوع الكبير في خلق الله للنباتات، وفي كلٍّ منها طعم مختلف وفوائد صحية متنوعة، يرى أنها تتكامل لتشكل الغذاء الضروري والمفيد واللذيذ والمتنوع لجسم الإنسان.
ثالثا: غذاء النبات وتكاثره: خلق الله -تبارك وتعالى- النبات وهو أكمل وجوداً من الحجر والمدر والحديد والنحاس وسائر الجواهر التي لا تُنمى ولا تُغذى؛ فإن النبات خلق الله فيه قوة بها يجتذب الغذاء إلى نفسه من جهة أصله وعروقه التي في الأرض، وهي له آلات، فبها يجتذب الغذاء، وهي العروق الدقيقة التي تراها في كل ورقة، ثم تغلظ أصولها، ثم تتشعب، ولا تزال تستدق وتتشعب إلى عروق شعرية تنبسط في أجزاء الورقة حتى تغيب عن البصر.
إلا أن النبات -مع هذا الكمال- ناقص؛ فإنه إذا أعوزه غذاء يساق إليه ويماس أصله جف ويبس، ولم يمكنه طلب الغذاء من موضع آخر، فإن الطلب إنما يكون بمعرفة المطلوب وبالانتقال إليه، والنبات عاجز عن ذلك. هذا عن غذائه.
أما عن تكاثره وانتشاره، فلما قضى الله أن يكون النبات ثابتاً في مكانه، تكفَّل -سبحانه- بإيصال حبوب اللقاح من الزهرة المذكرة إلى الزهرة المؤنثة أو من عضو التذكير إلى عضو التأنيث في نفس الزهرة ثنائية الجنس لإنجاز عملية الإخصاب، وخلق لها -سبحانه- من الوسائل ما ييسر لها تزاوجها، وجند لها مخلوقاته من إنسانٍ وحيوانٍ وريحٍ وماءٍ، والكل يؤدي دوره كما قدر له ربه -سبحانه-.
عجائبُ لا تنتهي في النباتِ *** تَدُلُّ على الخالِقِ الْمُقْتَدِرْ
عجائبُ في أصْلِ تَكْوِينِهِ *** عجائبُ فِي نَجْمِهِ والشَّجَرْ
عجائبُ لا تنقضي في الجذورِ ***وفي السُّوقِ ثم بفَيْضِ الثَّمَرْ
عجائب تَبْدو بأوراقهِ *** وما جمعت في ثُغور كُثُرْ
نسيجٌ به يَدْهَشُ الناظرون ***وتحتار فيما حواه الفِكَرْ
ومختلفات به لا تُعَدْ ***فتحلو صنوفٌ وأخرى تَمرّْ
وكُلٌّ لَهُ مَيْزَةٌ في الحياةِ *** يعرِفُ قيمتها من خَبرْ
عباد الله: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربط بين المؤمن والنبات ربطا هو الأروع والأفصح في تاريخ ضرب الأمثال النبوية، وهو مثل النخلة؛ فعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمن كمثل شجرةٍ خضراءَ، لا يسقط ورقها ولا يتحاتّ". فقال القوم: هي شجرة كذا، هي شجرة كذا، فأردت أن أقول: هي النخلة، وأنا غلامٌ شاب، فاستحييت، فقال: "هي النخلة" رواه البخاري والنسائي وغيرهما.
والنخلة إنما حازت هذه الفضيلة العظيمة بأَنْ جُعلت مثلاً لعبد الله المؤمن؛ لأنَّها أفضلُ الشجر وأحسنُه، وأكثرُه عائدةً، قال البغوي -رحمه الله-: "والحكمة في تمثيل الإيمان بالشجرة هي أنَّ الشجرةَ لا تكون شجرةً إلاَّ بثلاثة أشياء: عِرق راسخ، وأصلٌ قائم، وفرع عالٍ؛ وكذلك الإيمان لا يتمّ إلا بثلاثة أشياء: تصديقٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعمل بالأبدان".
كن كالنَّخِيلِ عن الأحقادِ مُرْتَفِعَاً *** يُرمَى بحجر فيُلقِي أطيبَ الثمَرِ
ولابن القيم -رحمه الله- كلام رائع في حكمة وجه الشبه بين المؤمن والنخلة، وذلك في سِفره الحافل: "مفتاح دار السعادة"، جاء فيه: "تأمل هذه النخلة التي هي إحدى آيات الله، تجد فيها من الآيات والعجائب ما يبهرك. وهي تشبه المؤمن من وجوه كثيرة.
أحدها: ثبات أصلها في الأرض، واستقراره فيها، وليست بمنزلة الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار.
الثاني: طيب ثمرتها وحلاوتها وعموم المنفعة بها؛ كذلك المؤمن: طيب الكلام، طيب العمل، فيه المنفعة لنفسه ولغيره.
الثالث: دوام لباسها وزينتها، فلا يسقط عنها صيفا، ولا شتاء؛ كذلك المؤمن، لا يزول عنه لباس التقوى وزينتها حتى يوافي ربه تعالى.
الرابع: سهولة تناول ثمرتها، وتيسُّرهُ؛ أمَّا قصيرُها، فلا يُحْوِجُ المتناولَ أن يرقاها، وأما باسِقُها فصعوده سهل بالنسبة إلى صعود الشجر الطوال، وغيرها، فتراها كأنها قد هيئت منها المراقي والدرَج إلى أعلاها. وكذلك المؤمن، خيره سهل قريب لمن رام تناوله لا بالغرِّ، ولا باللئيم.
الخامس: أن ثمرتها من أنفع ثمار العالم، فإنه يؤكل رطبه فاكهة وحلاوة، ويابسه يكون قُوْتًا وأُدُمًا وفاكهة، ويتخذ منه الخل والحلوى، ويدخل في الأدوية، والأشربة، وعموم المنفعة به وبالعنب فوق كل الثمار.
الوجه السادس: أن النخلة أصبر الشجر على الرياح والجهد وغيرها من الدوح العظام؛ تميلها الريح تارة، وتقلعها تارة، وتقصف أفنانها، ولا صبر لكثير منها على العطش كصبر النخلة. فكذلك المؤمن صبور على البلاء لا تزعزعه الرياح.
السابع: أن النخلة كلها منفعة، لا يسقط منها شيء بغير منفعة؛ فثمرها منفعة، وجذعها فيه من المنافع ما لا يجهل للأبنية والسقوف، وغير ذلك؛ وسعفها تسقف به البيوت مكان القصب، ويستر به الفُرج والخلل، وخُوصُها يتخذ منه المكاتل، والزَّنابِيل، وأنواع الآنية، والحُصُر، وغيرها؛ وليفها وكربها فيه من المنافع ما هو معلوم عند الناس.
وقد طابق بعض الناس هذه المنافع، وصفات المسلم وجعل لكل منفعة منها صفة في المسلم تقابلها.
فلما جاء إلى الشوك الذي في النخلة جعل بإزائه من المسلم صفة الحِدِّة على أعداء الله، وأهل الفجور، فيكون عليهم في الشدة والغلظة بمنزلة الشوك، وللمؤمنين والمتقين بمنزلة الرُّطَب حَلاوة ولِينا: أشداء على الكفار رحماء بينهم.
الثامن: أنها كلما أطال عمرها ازداد خيرها، وجاد ثمرها، وكذلك المؤمن، إذا طال عمره ازداد خيره، وحسن عمله.
التاسع: أن قلبها من أطيب القلوب، وأحلاه؛ وهذا أمر خُصَّت به دون سائر الشجر، وكذلك قلب المؤمن من أطيب القلوب.
العاشر: أنها لا يتعطل نفعها بالكلية أبدا؛ بل إن تعطلت منها منفعة، ففيها منافع أُخَر، حتى لو تعطلت ثمارها سنة، لكان للناس في سعفها وخوصها وليفها وكربها منافع.
وهكذا المؤمن، لا يخلو عن شيء من خصال الخير قط، إن أجدب منه جانب من الخير أخصب منه جانب، فلا يزال خيره مأمولا، وشره مأمونا.
ورد في الترمذي مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-:" خيركم من يرجى خيره، ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره". انتهى كلامه رحمه الله.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا آتِي، وَخَيْرَ مَا أَفْعَلُ، وَخَيرَ مَا أَعْمَلُ، وَخَيْرَ مَا بَطَنَ، وَخَيْرَ مَا ظَهَرَ، وَالدَّرَجَاتِ العُلَى مِنَ الجَنَّةِ. آمِينَ.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَرْفَعَ ذِكْرِي، وَتَضَعَ وِزْرِيَ، وَتُصْلِحَ أَمْرِيَ، وَتُطَهِّرَ قَلبِيَ، وَتُحَصِّنَ فَرْجِيَ، وَتُنَوِّرَ قَلْبِيَ، وَتَغْفِرَ لِي ذَنْبِيَ، وَأَسْأَلُكَ الدَّرَجَاتِ العُلَى مِنَ الجَنَّةِ. آمِينَ.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُبَارِكَ فِي نَفْسِي، وَفِي سَمْعِي، وَفِي بَصَرِي، وَفِي رُوحِي، وَفِي خَلْقِي، وَفِي خُلُقِي، وَفِي أَهْلِي، وَفِي مَحْيَاي، وَفِي مَمَاتِي، وَفِي عَمَلِي؛ فَتَقَبَّلْ حَسَنَاتِي، وَأَسْأَلُكَ الدَّرَجَاتِ العُلَى مِنَ الجَنَّةِ. آمِينَ.
التعليقات