عناصر الخطبة
1/ الإنسان مخيّرٌ في أفعاله وتفكيره 2/ دلالة كل شيء في الأرض على خالقه 3/ رُقِيُّ عبادة التفكُّر 4/ معرفة الله من آياته الكونية والتكوينية والقرآنية 5/ الانضباط بمنهج الله من لوازم الإيمان به 6/ مفهوم السعادة 7/ الآيات الكونية في القرآن رؤوس موضوعات للتفكر 8/ خَلْقُ البعوضة نموذجاًاهداف الخطبة
اقتباس
التفكر عبادة من أرقى العبادات، إنها عبادة معرفة الله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190-191]. هذه الآية أصل في التفكر.
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله سيد الخلق والبشر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام: في قوله -تعالى-: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) [الليل:1-3]، مجموعة أقسام: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى)، (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى)، (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى). جواب القسم: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى).
الإنسان مخير: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29]، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان:3].
بمجرد أن تتوهم أن الإنسان مجبر على أعماله ولا خيار له في أعماله ألغي الدين، ألغي التكليف، ألغيت الأمانة، ألغي الأمر، ألغي النهي، الإنسان مخير فيما كلف، ليس مخيراً في أمه وأبيه ولا في بلدته وعصره؛ لكنه مخير فيما كلف، ولولا أنه مخير فلا معنى للحساب ولا معنى للعذاب، ولا معنى للجنة ولا معنى للنار، لذلك: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان:3]، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29]، (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148].
لكن الله -سبحانه وتعالى- وضع بين أيدينا ثلاثة أنواع من الآيات، وضع بين أيدينا آيات كونية، هذا الكون بكل ما فيه؛ بأرضه، بسماواته، بمجراته، بمذنباته، الأرض بما فيها من أنواع النبات، من أنواع الحيوان، من أنواع الأسماك، من أنواع الأطيار: (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [الذاريات:20]، ما من شيء في الأرض إلا ويدلك على الله؛ بل إن النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما نظر إلى الهلال قال: "هِلالٌ خَيْرٍ وَرُشْدٍ" رواه أبو داود.
فأي شيء في الكون له وظيفتان: وظيفة نفعية، ووظيفة إرشادية.
العالم الغربي حقق الوظيفة النفعية في أعلى مستوى، لكن المسلم ينبغي أن يحقق الوظيفة الإرشادية والوظيفة النفعية، لذلك أنت إذا قرأت آية فيها أمر هذه الآية تقتضي أن تأتمر، وإذا قرأت آية في القرآن فيها نهي تقتضي أن تنتهي عما نهاك الله، وإذا قرأت آية فيها قصة عن أمة سابقة فينبغي أن تتعظ، وإذا قرأت آية فيها حكم شرعي هذا الحكم ينبغي أن تطبقه، أي: ما من آية في كتاب الله إلا وينبغي أن يكون لك موقف منها، هذا معنى التدبر.
أما إذا وجدت في القرآن ألفاً وثلاثمائة آية تتحدث عن الكون؛ ما موقفك منها؟ أيعقل أن تكون هناك آيات ليس لك منها موقف؟ إذا وجدت في القرآن ألفاً وثلاثمائة آية تتحدث عن الكون: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) [الشمس:1-6]، هذه الآيات الكونية في القرآن ما هي؟ هي في الحقيقة رؤوس موضوعات للتفكر.
التفكر عبادة من أرقى العبادات، إنها عبادة معرفة الله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190-191]. هذه الآية أصل في التفكر.
أنت بالتفكر تزداد معرفة بالله، والإنسان إذا ازدادت معرفته بالله كان أشد انضباطاً وأشد استقامة، إذا عرفت الله ثم عرفت أمره تفانيت في طاعته، أما إذا عرفت أمره ولم تعرفه تفننت في التفلت من أمره، هذا واقع مؤلم جداً، الأمر بين أيدينا، الحلال بيّن والحرام بين؛ لكن ضعف معرفتنا بالله يجعلنا نبحث عن حيل شرعية لتلافي التكليف، فإذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر، وهذا مرض من أمراض المسلمين.
لذلك؛ أنا أدعوكم إلى معرفة الله، وسيدنا علي -رضي الله عنه- يقول: "أصل الدين معرفة الله"، كيف نعرفه؟ من آيات ثلاث؛ من آيات كونية: خَلقه، ومن آيات تكوينية: أفعالهُ، ومن آيات قرآنية: كلامه، هذه الطرق السالكة إلى الله؛ آياته الكونية التفكر، آيات تكوينية نظر، آيات قرآنية تدبر.
أنت بين آيات كونية عليك أن تتفكر بها، وبين آيات تكوينية عليك أن تنظر لها: (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام:11]، وبين آيات قرآنية: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران:190-191].
آيات الكون موقفك منها التفكر، وآيات التكوين أفعاله وموقفك منها النظر، وآيات القرآن كلامه وموقفك منها التدبر: تفكُّر، نظر، تدبر.
الآن؛ التقسيمات الأرضية لبني البشر لا تعد ولا تحصى؛ الشعب السكسوني، الشعب السامي، الشعب المتخلف، المتقدم، الصناعي التجاري، أي: تقسيمات لا تعد ولا تحصى هذه التقسيمات كلها باطلة عند الله.
هناك قسمان من بني البشر وردا في هذه السورة: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) [الليل:5-6]، هذا أول صنف، صدق بالحسنى، الحسنى هي الجنة، صدق أنه مخلوق للجنة، مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الذي صدق بالحسنى أول نتيجة لهذا التصديق ينضبط، أما من أعطى واتقى، فاتقى أن يعصي الله، وبنى حياته على العطاء.
لذلك قرأت كتاباً في سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤلف الكتاب قدم له بهذه المقدمة خاطب النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: "يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدست الوجود كله، ورعيت قضية الإنسان، يا من زكيت سيادة العقل، ونهنهت غريزة القطيع، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع، يا من كانت الرحمة مهجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسمو حرفتك".
الزمرة الأولى: صدق بالحسنى، الحسنى هي الجنة، صدق أنه مخلوق للجنة، الجنة كم سنة؟
إخوتنا الكرام: بعض الإخوة الكرام ممن درس الرياضيات يعرف هذه الحقيقة، عندي رقم واحد وأصفار ثلاثة ألف، أصفار ثلاثة أخرى مليون، أصفار ثلاثة ثالثة ألف مليون، أصفار ثلاثة رابعة مليون مليون، أصفار ثلاثة رابعة، أصفار لآخر المسجد، كم هذا الرقم؟ أصفار للبحر، أصفار إلى القطب، أصفار إلى الشمس، تصور الواحد في الأرض والأصفار للشمس، مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر، وكل مليمتر صفر، كم هذا الرقم؟ هذا الرقم إذا نسب إلى اللانهاية كان صفراً، أكبر رقم تتصوره إذا نسب إلى اللانهاية فهو صفر.
فالدنيا بأموالها، بمباهجها، بقصورها، ببساتينها، بمناصبها، بنسائها، عند الله صفر، لذلك أكبر خسارة يخسرها الإنسان أن يخسر الآخرة: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر:15].
إذاً: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) [الليل:5-6]، صدق أنه مخلوق للجنة، مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت.
ضع صورة لكسر عشري والمخرج لا نهاية فقيمته صفر، أي الدنيا بأكملها مهما عاش الإنسان فيها، لو عاش ألف عام، مهما جمع من ثروات، مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الذي صدق بالحسنى أول نتيجة هذا النبي العظيم أعطى ولم يأخذ، والبشر قسمان، المؤمنون أتباع للأنبياء، يتخلقون بأخلاقهم، فالأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الآن: (فَأَما) المعطي محبوب، المعطي برئ من شح نفسه، والمعطي جعل من حوله يبرؤون من الحقد عليه، والمعطي جعل الناس يلهجون بحمده وثنائه؛ لأنه صدق أنه مخلوق للجنة، من لوازم هذا التصديق أنه يقف عند الأمر والنهي، اتقى أن يعصي الله، بنى حياته على العطاء.
لذلك هناك إنسان أجرى موازنة بين زمرتين من البشر يقعون على رأس الهرم البشري، زمرة الأنبياء وزمرة الأقوياء، الأقوياء ملكوا الرقاب، والأنبياء ملكوا القلوب، وشتان بين أن تملك رقبة الإنسان وبين أن تملك قلبه، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، والأقوياء أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء عاشوا للناس، الأقوياء عاش الناس لهم، وجميع الناس -ولا أستثني واحداً منهم- تبع لقوي أو لنبي، فالبطولة أن تكون من أتباع النبي.
أيها الإخوة الكرام: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل:1-4].
أول زمرة: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) [الليل:5-6]، صدق أنه مخلوق للجنة، انضبط، اتقى أن يعصي الله، وقف عند الأمر والنهي، وبنى حياته على العطاء.
مع الأسف الشديد الإنسان يقيّم بما أخذ، بما عنده من ثروات، من بيوت، من أملاك منقولة وغير منقولة، لكن التقييم الحقيقي تقييم أهل السماوات والأرض بما أعطيت لا بما أخذت: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) [الليل:5-6]، صدق أنه مخلوق للجنة، بنى حياته على العطاء، اتقى أن يعصي الله، الرد الإلهي -هذا كلام لكل واحد منا-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
الرد الإلهي: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، زواجه ميسر، عمله ميسر، صحته طيبة، علاقته بأهله طيبة، بأولاده طيبة، فيمن حوله طيبة، سعيد، متفائل، الله -عز وجل- يكرمه.
الرد الإلهي: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، مطلقة، أموره ميسرة، ألا تحب أن تكون من هؤلاء؟ إن الله -سبحانه وتعالى- في عليائه يتولاك بالحفظ، بالرعاية، يدافع عنك، (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، هذا الصنف الأول.
الصنف الثاني: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) [الليل: 8-9]، كذب أنه مخلوق للجنة، آمن بالدنيا، هذه الدنيا ولا شيء غير الدنيا، لما كذب بالجنة استغنى عن طاعة الله، وبنى حياته على الأخذ.
الآية واضحة؛ البشر على اختلاف أعراقهم، وأنسابهم، وأجناسهم، وطوائفهم، ومذاهبهم، وطوائفهم، تكلم ما شئت، هؤلاء البشر هم عند الله نوعان فقط: الأول: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى). الثاني: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى).
الرد الإلهي للصنف الثاني: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل:10]؛ زواجه غير ناجح، بعمله غير ناجح، عنده ضيق، قال الله -عز وجل-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124].
سأل سائل: ما بال الأقوياء والأغنياء؟ فقال المجيب - أعتقد الحسن البصري-: ضيق القلب، لا يوجد سعادة.
والله -أيها الإخوة- قد تدخل إلى بيت بسيط جداً، هذا البيت يشع سعادة، قد تجد بيتاً فخماً جداً لا يوجد فيه سرور، هذه السكينة أحد أكبر مزايا المؤمن، أحد أكبر عطاءات الله للمؤمن، هذه السكينة سعد بها أهل الكهف وهم مطاردون، سعد بها إبراهيم -عليه السلام- في النار، سعد بها النبي -عليه الصلاة والسلام- في غار ثور، تسعد بها ولو فقدت كل شيء وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء.
(فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى*وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى*وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) [الليل: 1-12].
لذلك؛ أندم الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً، أندم الناس رجل دخل أولاده بماله الجنة، ودخل هو بماله النار، التوريث حلال فهذا المال من حرام هو شقي به.
أيها الإخوة الكرام: مرة ثانية: هذه الموضوعات مصيرية، سلامتك وسعادتك في الدنيا والآخرة: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى*وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى*وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى*إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى* وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى* فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل:1-16].
أيها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام: ذكرت لكم في الخطبة الأولى أن في القرآن الكريم آيات كونية تزيد عن ألف وثلاثمائة آية، أضع بين أيديكم آية واحدة هي قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يستحي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [البقرة:26].
البعوضة من أهون المخلوقات على الإنسان، أي: إذا إنسان قتل بعوضة هل يحس أنه مجرم قاتل؟ بعوضة! هذه البعوضة ذكرها الله -عز وجل- في القرآن الكريم!.
حينما صنع المجهر الإلكتروني، المجهر القديم التقليدي يكبر ثماني مرات أما هذا المجهر فيكبر خمسمائة ألف مرة، وضعت البعوضة تحت هذا المجهر، وزنها واحد على ألف من الغرام، في فمها ثمانية وأربعون سناً، في صدرها ثلاثة قلوب، قلب مركزي وقلب لكل جناح، لكل قلب أذينان، وبطينان، ودسامان.
وللبعوضة جهاز لا تملكه الطائرات، تملك جهاز استقبال حراري، هي ترى الأشياء لا بألوانها، ولا بأشكالها، ولا بأحجامها، ولكنها ترى الأشياء بالحرارة.
هذه البعوضة معها جهاز تحليل للدم، تغرس خرطومها في يد الطفل وتأخذ عينة من دمه فتفحصها لأنه ما كل دم يناسبها، وقد ينام أخوان على سرير واحد يستيقظ الأول وقد ملئ بلسع البعوض والثاني لم يصب بشيء، معها جهاز تحليل دم، تحلل، فإذا كان هذا الدم يناسبها، الآن تمتص من دمه.
ولئلا تقتل وقت مصّ الدم معها جهاز تخدير، تخدر ثم تمص الدم، فإذا انتهى مفعول التخدير يشعر الإنسان بوخز، فيضرب البعوضة، لكنها في جو الغرفة تضحك عليه.
معها جهاز تحليل، ومعها جهاز تمييع، لأن دم الإنسان سمج لا يسري بخرطومها، معها جهاز رادار، تخدير، وتمييع، وتحليل، وفي أرجلها مخالب إذا وقفت على سطح خشن ومحاجم إن وقفت على بلور أو سطح أملس.
فإذا قال الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يستحي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [البقرة:26]، هذه الآيات الكونية في القرآن الكريم رؤوس موضوعات للتفكر.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا.
اللهم وفق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى.
والحمد لله رب العالمين.
التعليقات