اقتباس
التساؤل عند أهل اليقين يحررهم من أسر الخرافات والأساطير التي سيطرت على عقول الكثير من البشر الذين استمتعوا بالتنازل عن عقولهم وانمحت عندهم الفوارق بين الممكن والمستحيل، ويظهر هذا الأثر بكثرة في كتاب الله - عز وجل - الذين حمل أكثر من ستين آية جاءت بصيغة التساؤل، مثال تساؤل الأنبياء لأقوامهم الذين عبدوا الأصنام وصدقوا الأساطير والخرافات عن مدى صحة هذه المعبودات الباطلة، كما جاء
لقد خلق - الله عز وجل - الإنسان في أحسن تقويم، وجعله على أفضل هيئة، وأكرمه ونعّمه، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلا، وميّزه عن سائر مخلوقاته بالعقل الفاعل الذي جاء مختلفا عن عقول سائر مخلوقاته، فقد اختص الله - عز وجل - العقل البشري بالعديد من الخصائص والملكات الهامة منها؛ ملكة الإدراك وهي التي يناط بها الفهم والتصور، وملكة التأمل فيما يدركه، واستخراج أسراره ومعانيه وبواطنه، ومنها ملكة الرشد وهي من أهم وأعلى خصائص العقل البشري، لأنها ملكة استيفاء كل الخصائص والوظائف العقلية.
هذه الخصائص والملكات جعلت العقل البشري مؤهلا لئن يكون مناطا للتكليف الشرعي، وموصولا بكل حجة من حجج الشريعة، أمرا ونهيا، والعقل الذي يخاطبه الإسلام والوحي هو العقل السوي الذي يعصم الضمير، ويدرك الحقائق، ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد، ويتبصر ويتدبر ويحسن الإدراك والرؤية، لذلك امتلأ القرآن الكريم بعشرات الآيات المختومة بالدعوة لإعمال العقل، مثل " أفلا يعقلون " " أفلا يتذكرون " " أفلا تتفكرون " " أفلا ينظرون " " أفلا يتدبرون " " أليس منكم رجل رشيد " " أفلا يبصرون".
فالتفكير إذا من أعظم فيوضات العقول الراشدة، وقد يتبادر إلى الذهن أن التفكير يقصد به ما يتعلق بالقضايا العلمية من فيزياء وكيمياء وغيرهما فحسب؛ ولكن الصواب أن التفكير هو منهج قائم بذاته يشمل كل مجالات الحياة، يصل به الإنسان إذا ما التزم بضوابطه المعرفية إلى الطريق المستقيم الخالي من العيوب والآفات الموجودة في المناهج الأخرى.
ومن هنا لابد أن نعي أن مفهوم التفكير ليس قاصرا على أن يكون الذهن محتشدا بالمعلومات العلمية أو الفنية أو مدربا على البحث المؤدي إلى حل المشكلات، ولكن هذا النوع من النشاط الذي يجب أن نمارسه جميعا في حياتنا اليومية، وسائر علاقاتنا مع الناس والكون من حولنا.
وهكذا ظل العقل بوظائفه الراقية من تفكير راشد، وتدبر واع، وفقه ناضج، عاملا فاعلا من أهم عوامل بناء الأمة ورقيها حينا من الدهر، ارتقت به الأمة لسلم المجد، وحازت قصب السبق، وصارت في مقدمة الركب، وظهرت أجيال متعاقبة من العلماء والعظماء والأفذاذ الذين أناروا مسيرة البشرية بمشاعل الفكر والعلم والثقافة والفنون، تبوء بهم الفكر الإسلامي القمة السامقة في الانجاز والحضارة، وحقق المسلمون في هذه الحقبة ما لم تحققه أي أمة من الأمم، حتى قال علماء الفكر والاجتماع الغربيون: " إن ملكة الفنون لم يتم تكوينها في أمة من الأمم الناهضة إلا في ثلاثة أجيال: جيل التقليد، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال والاجتهاد، إلا العرب وحدهم ، فقد تمت لهم ملكة الفنون في الجيل الأول الذي بدأوا فيه بمزاولتها".
حتى جرت السنن، وخلفت خلوف لهؤلاء العظام رضوا بمآثر الآباء والأجداد، وقصرت هممهم عن مواصلة السيرة والمسيرة، فرضوا بالتقليد والإتباع الذي كان ناضجا راشدا في بداياته، ثم ما لبث أن أصبح دينا يتوارث عبر الأجيال، وأغلق باب الاجتهاد، وعدّ جريمة من الجرائم يستحق مقترفها الويل والثبور والتشهير كما حدث مع ابن حزم وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم ممن تجرأ وحاول الاجتهاد بعد أن أستكمل آلياته وأدواته.
ووقف الفكر الإسلامي عند فترات التراجع الحضاري يجتر من ذكريات ومآثر التراث، والأدهى من ذلك أن هذا التراجع والجمود في الفكر الإسلامي واكب فترة خروج الغرب من عصور الظلام والجهالة، بعد أن استفاد من تراث المسلمين وبنا عليه وجعله خميرة لأعماله ومشاريعه الفكرية، فكان انحطاط المسلمين الفكري في قبالة نهضة فكرية غربية، فكانت نكبة مركبة ونازلة مضاعفة على العالم الإسلامي.
ومع تطور الحياة وتعقد سبلها واتساع دوائرها ومجالاتها ظهرت مشكلات ثقافية ومنهجية جديدة على العالم الإسلامي، خاصة تلك التي تتعرض بتداعيات الغزو الثقافي والفكري للعالم الغربي ضد العالم الإسلامي. ومن أبرز هذه المشكلات؛ تلك المشكلة المتعلقة بطبيعة التفكير عند شبابنا في هذه الأيام، بسبب التغير المستمر والانفتاح الواسع واللا محدود علي النتاج الثقافي والفكري لدول العالم بأسره، فقد أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع النت على شبكة المعلومات بمثابة النوافذ المشرعة التي ينفذ منها كل يوم عشرات الأنماط الثقافية والأطروحات الفكرية والتجارب العقلية المستوردة، وفي جملتها هي عبارة فيوضات فكرية من أشخاص حائرين منقطعين الصلة بنور السماء المعصوم، وأغلبهم من خريجي مدرسة الشك والتساؤل الذي يصفوه بالعقلي، وهي المدرسة التي أرساها الفيلسوف الفرنسي " ديكارت " الذي جعل الشك والارتياب في كل شيء هو الخطوة الأولى للوصول للمعرفة اليقينية، وديكارت بخلفيته الثقافية المنفصلة عن الدين الصحيح، يخضع كل الأمور بما في ذلك الغيبيات أو السمعيات العقائدية للشك والارتياب، وقد حدث انبهار ثقافي جارف بالنتاج الفكري للمدرسة الديكارتية في بلادنا نتيجة المد الثقافي والغزو الفكري والعولمة التي اكتسحت عالمنا العربي والإسلامي في مطلع القرن الماضي، ووقع الكثير ممن يطلق عليهم النخبة المثقفة وصفوة الأدب والفكر في مذهب الشك حتى قادهم للشك في أصل المعرفة وهو ما يستلزم وقوع صاحب الشك للإلحاد والعياذ بالله، وكان العماد الفكري للمدرسة الديكارتية ومن سار في فلكها وانبهر بأصولها هو " التساؤل الدائم ".
المشكلة أن البعض يحاول أن يجعل هذا المذهب الارتيابي بما يحمله من شكوك وظنون وأوهام وتقديس للعقل، يحاول أن يجعله صنيعة إسلامية ومن إرث الأمة الإسلامية، بدعوى أن الفلاسفة المسلمين من أتباع بعض المذاهب الضالة مثل المعتزلة والقدرية وغيرهم كانوا أول من تكلم عن الشك وجعله أول درجات اليقين أو واجب على المكلف أن يشك، ويستحضرون أسماء من العيار الثقيل في التراث الإسلامي؛ مثل الغزالي والجاحظ والمعري وغيرهم، ممن تأثر بالفلسفة اليونانية القديمة ومزجوها بالفكر الإسلامي وأدخلوا آلياتها وأصولها في العقائد وطرق الاستدلال، يستخدمون ذلك للتدليل على وجود الشك في ثقافة وعلوم المسلمين السابقين، وهو استدلال ناقص يعتوره الكثير من النقائض التي جاءت أساسا من أصحاب هذا الفكر الذي تراجع الكثيرون عنه في أواخر حياتهم، ونتيجة لهذه النتائج المعوجة للتطبيق العملي لمصطلح التساؤل أسيء كثيرا لهذا الأساس الفكري العظيم والذي يضطلع بدور كبير في إنضاج العقلية وصقل التجربة وترشيد التفكير.
فلو أردنا أن نضع تعريفا إجرائيا للعقلية فنقول: أنها مجموعة الطرق والأساليب والمفاهيم المترابطة والراسخة التي نستخدمها في استيعاب الواقع وفهمه ومن ثم تحدد على ضوء هذا الفهم مواقفنا العلمية والعملية من الأحداث والأشياء، أي أن للعقلية شكلا ومضمونا، فشكلها هو طرق التفكير وأساليبه، ومضمونها مجموعة المفاهيم والمعايير التي تشكل الوعي والتقييم، وهذا يعني أن عقولنا دائما قابلة للتطور والنضوج، ومن هنا تبرز أهمية التساؤل في منظومة التفكير لدى العقلية الناضجة، فطبيعة التساؤل ومستواه يكشفان وبدقة كبيرة عن المستوى العقلي والمعرفي لصاحبه، وهذا يذكرنا بالواقعة الشهيرة التي ذكرت في كتب التاريخ والتراجم وطبقات الأحناف عن الإمام أبي حنيفة النعمان حيث كان يلقي درسا على طلابه وهو ماد رجليه لألم في ركبتيه فدخل عليهم رجل يظهر عليه الوقار و حسن المظهر، فتحامل الشيخ وثنى قدميه احتراما لهذا الرجل بعد مدة من جلوس الرجل مع الشيخ وطلابه ، سأل الرجل الإمام أبا حنيفة: متى يفطر الصائم ؟ قال الإمام: إذا غربت الشمس قال الرجل: ماذا لو لم تغرب ؟ فقال الإمام: " آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه "، وذلك أن سذاجة السؤال قد كشفت عن حقيقة الرجل.
والحقيقة وإن كانت واحدة إلا أنها طبقات بعضها فوق بعض، وكلما نضجت العقلية ورسخ العلم كلما ارتقى المرء في سلم الفهم وتوسعت قاعدته، وهذا يفسر لنا وجود درجات وطبقات للعلماء، فمنهم طلاب العلم ومنهم العلماء ومنهم العلماء المحققون ومنهم كبار العلماء ومنهم الفحول والفطاحل، ومنهم الأئمة العظام المتبوعين الذين أسسوا مذاهب ما زال لها أتباع ومناهج ومدراس قائمة حتى اليوم.
التساؤل عند أهل اليقين مطية الفهم واكتشاف ما خفي عليهم، وهم لا يتصورون أن التساؤل سيثير خلافا أو نزاعا أو يقصد به عنتا وعناءً، بقدر ما يفتح آفاقا جديدة للبحث والحفر المعرفي، وتبني أطرا وأسسا متينة للفهم يتحرك فيها ومن خلالها الباحثون والعلماء والفقهاء والمتحاورون للوصول للحقيقة المجردة، فالتساؤل يقفز بصاحبه على حواجز الأوهام الموروثة الذي يجعل من التساؤل جريمة تدل على الاعتراض أو الشك، أو إمارة تدل الجهل وعدم الدراية، لذلك كان عائشة - رضي الله عنها - تقول " رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين " وذلك تعقيبا على سؤال إحدى نساء الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مسألة في الطهارة وإلحاحها في استيفاء الإجابة منه صلى الله عليه وسلم.
التساؤل عند أهل اليقين يخرجهم من أسر الظنون والأوهام والتخرصات في فهم الظواهر المحيطة وطبيعة الأشياء، بل والتساؤل عن مآلات الأمور، وهذا ظاهر من سؤال الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة وإماراتها وعلاماتها وأصناف الناس يومها، ودروب الفتن وأزمنة الغربة، وعن أمور دينهم ودنياهم وما أشكل عليهم فهمه من ألفاظ قد تكون غريبة علي مسامعهم ،كما ورد في حديث الرويبضة، وحديث الوهن ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يستخدم هذا الأسلوب ويفعّله دائما مع الصحابة، فيبادر هو بطرح التساؤلات عليهم ليستخرج ما عندهم من طاقات ومواهب وقدرات، وهذا ظاهر ومشاهد في كثير من أحاديثه صلى الله عليه وسلم.
التساؤل عند أهل اليقين يحررهم من أسر الخرافات والأساطير التي سيطرت على عقول الكثير من البشر الذين استمتعوا بالتنازل عن عقولهم وانمحت عندهم الفوارق بين الممكن والمستحيل، ويظهر هذا الأثر بكثرة في كتاب الله - عز وجل - الذين حمل أكثر من ستين آية جاءت بصيغة التساؤل، مثال تساؤل الأنبياء لأقوامهم الذين عبدوا الأصنام وصدقوا الأساطير والخرافات عن مدى صحة هذه المعبودات الباطلة، كما جاء في قصة إبراهيم - عليه السلام - عند سأل قومه كما جاء في سورة الشعراء: ( هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) (5) فلم يكن لهم إجابة معقولة على تساؤلات إبراهيم عليه السلام سوى أنها موروثات الآباء والأجداد.
التساؤل عند أهل اليقين يكسر جدار العجز والإحباط الذي تعاني منه الأمة التي ظلت لقرون لا تجرؤ على طرح أسئلة جريئة عن سبب التأخر والتخلف الذي ضرب الأمة ورجع بها من سلم الريادة إلى ذيل الركب، فالمتسائل مثله كمثل من يلقي حجرا في بركة راكدة، أسن ماؤها من طول الركود، فيثير العديد من الدوائر المتتابعة، مما جعل دائرة المفاهيم تتسع وتتعمق وهذا يقود بدوره إلى ريادة فكرية وتقدم معرفي وكلاهما جناحي طائر التقدم والرقي.
وخلاصة القول أن التساؤل ليس كله شر كما يظن كثير من الناس، بل هو جزءا حيويا من نظم التفكير لدى العقلية الناضجة، وأحد أهم وسائل اكتشاف الخلل والمشاكل في الأمة، وإلباس هذا المفهوم الراقي للفكر والمعرفة ثوب الاعتراض والشك والارتياب من الخطأ البين، والاقتصار على الجانب السلبي من التساؤل، وجعل كل تساؤل هو تساؤل المرتابين والمعاندين أو المعجّزين من الأمور التي تهدر هذه الفضيلة الفكرية، وإن ترك الملاحدة وأتباع ديكارت وتلاميذه وأتباع المذاهب الضالة، إن ترك كل هؤلاء يستولون على مصطلح التساؤل ويسطون عليه ويحتكرونه لمذهبهم الضال من الخطأ البين الذين يقع فيه أهل اليقين، وربما يكون قد تسرب في العقل الجمعي للمسلمين كراهية التساؤل بسبب إعراض أهل اليقين عن إعمال عقولهم وإنضاج فكرهم كما فعل السابقون، فكانت كل هذه التداعيات السلبية التي نراها بين الأوساط الفكرية والحياة الثقافية لشبابنا.
التعليقات