عناصر الخطبة
1/مكانة الزواج في الشرع 2/الحياة الزوجية بين سبل الحماية ومعاول الهدم 3/آثار الطلاق السيئة 4/كيفية التعامل مع الخلافات الزوجيةاقتباس
وبقاءُ الأسرةِ شامخةً مترابطةً طوالَ هذه السنينَ، في وجهِ تلك المتغيّراتِ والتّقلّباتِ، يحتاجُ من الزّوجينِ إلى فَهمٍ لطبيعةِ الحياةِ، والمسؤوليّةِ العظيمةِ التي تحمّلوها، والميثاقِ الغليظِ الذي أبرموه...
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا من يهده اللهُ فلا مضلَّ له ومن يضللْ فلا هاديَ له وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه صلّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا أمّا بعدُ عبادَ الله
لقد حثَّ الإسلامُ على الزّواجِ ورغّبَ فيه، قالَ تعالى (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)[النور:32]، وقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ".
وحثَّ على المبادرةِ للزّواجِ وعدمِ ردِّ الخاطبِ والعنايةِ بأمرِ الدِّينِ للطّرفينِ، فقالَ عليه الصّلاةُ والسّلام: "إذا أتاكُم من تَرضونَ خُلقَهُ ودينَهُ فزوّجوهُ"، وقال: "تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ".
لقد جعلَ اللهُ الزّواجَ من أعظمِ الآياتِ، قالَ تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم:21]؛ فالزّواجُ نعمةٌ عظيمةٌ، وفيه الكثيرُ من الحِكمِ والمصالحِ، ومنها التّعارفُ والتّواصلُ واستمرارُ الحياةِ، وتلبيةُ الغرائزِ وغضُّ البصرِ وتحصينُ الفرجِ وإعفافُ النّفسِ، وفيه السّكنُ والمحبّةُ والمودّةُ والرّحمةُ، وفيه نعمةُ الأولادِ وما يُرجى من برِّهم ودعائِهم واستغفارِهم في الحياةِ وبعدَ الممات؛ فالحياةُ الزّوجيّةُ رحلةٌ طويلةٌ جميلةٌ، تَمتدُّ من حينِ عقدِ الزّواجِ إلى الدّارِ الآخرةِ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)[الرعد: 23].
ولا بُدَّ في أثناءِ تلك الرّحلةِ من المرورِ بما جُبِلَتْ عليه الحياةُ، من المصاعبِ والمشكلات، ما بينَ فرحٍ وحزنٍ وشدّةٍ ويُسرٍ وغنًى وفقرٍ، وعافيةٍ ومرضٍ وخلافٍ واتّفاق. وبقاءُ الأسرةِ شامخةً مترابطةً طوالَ هذه السنينَ، في وجهِ تلك المتغيّراتِ والتّقلّباتِ، يحتاجُ من الزّوجينِ إلى فَهمٍ لطبيعةِ الحياةِ، والمسؤوليّةِ العظيمةِ التي تحمّلوها، والميثاقِ الغليظِ الذي أبرموه، وأن يواجهوا الحياةَ بصبرٍ ومجاهدةٍ واحتسابٍ للأجر والثّواب، مع التّخلّقِ بالسّماحةِ واللطافةِ والتّغاضي، وتقديمِ التّنازلاتِ من الطّرفينِ، والثّقةِ الكاملةِ والاحترامِ المتبادَلِ بينَ الزّوجين. وإذا قصّرَ الزّوجانِ أو أحدُهما بتلك الأخلاقِ العاليةِ، والخِصالِ السّاميةِ، فإنّهم بذلك يُعطونَ الشّيطانَ الفرصةَ لتحقيقِ أعظمِ أهدافِه، وهو إيقاعُ الطّلاقِ بينَهما، قالَ عليه الصّلاةُ والسّلام: "إنَّ إبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ علَى الماءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَراياهُ، فأدْناهُمْ منه مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: فَعَلْتُ كَذا وكَذا، فيَقولُ: ما صَنَعْتَ شيئًا، قالَ ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: ما تَرَكْتُهُ حتَّى فَرَّقْتُ بيْنَهُ وبيْنَ امْرَأَتِهِ، قالَ: فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنْتَ".
إنّ الطّلاقَ نهايةٌ مؤسفةٌ لقصّةِ حياةٍ زوجيّةٍ كريمة، نهايةٌ تُفرِحُ العدوَّ وتُحزِنُ الصّديقَ، وتَضُرُّ العاقلَ وتَسُرُّ الجاهل، والواقعُ في مُجملِه يدلُّ على عدمِ تقديرِ مغبّةِ ذلك الأمرِ الخطير، والإقدامِ على الطّلاقِ بلا تَعَقّلٍ ولا تفكير، يَشهدُ لذلك ازديادُ نسبةِ الطّلاقِ في المجتمع، والتّساهلُ في إيقاعِه على لسانِ الزّوجِ، والتّساهلُ في طلبِه من الزّوجةِ، في لحظةِ غضبٍ يَعقُبُها نَدَم، وذلك محرّمٌ إن كانَ للإضرارِ بالطّرفِ الآخرِ، وبدونِ سببٍ شرعيّ، فإنّه لا ينبغي للزّوجينِ أن يلجآ إلى الطّلاقِ ولا أن يُفكّرا فيه، إلا إذا تعذّرتْ كلُّ الحلولِ وأُغلقتْ جميعُ الأبواب.
والواجبُ عليهما أن يتفقَّها في المسائلِ الشّرعيّةِ للزّواجِ والحقوقِ والطّلاقِ، والخلافِ والإصلاحِ والوِفاق قال تعالى: (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[التغابن: 14]، وقالَ تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء:19]، وقالَ عليه الصّلاةُ والسّلام: "لَا يَفْرَكْ أي لا يَكْرَهْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ". وكذلك المرأةُ مع الزّوج.
ولو حصلَ خلافٌ أو نزاعٌ فعليهما مواجهتُه بالعقلِ والحكمةِ والإيمانِ، وذكرِ الفضائلِ ونشرِ المناقبِ وسترِ المعايبِ، وعدمِ نسيانِ ما بينَهما من الفضلِ والإحسان، والإعراضِ عن الشّامتينَ والمخبِّبين، وأن لا يُفشوا أسرارَهم، وأن يحاولوا حلَّ خلافاتِهم بينَهم بالتّفاهمِ والحِوار، وإذا استدعى الأمرُ طلبوا المشورةَ والتّوجيهَ من مراكزِ الإصلاحِ الأسريِّ في الأحياء، وعليهما أن يتذكّرَا أنّ الأقربينَ أولى بالمعروفِ، وأنّ خيرَهم خيرُهم لأهلِه، فيجعلُ كلٌّ منهما خيرَ ما عندَه من العفوِ والصّفحِ وحسنِ الخلقِ لزوجِه وزوجتِه وأهلِ بيتِه، وبذلك تستمرُّ الحياةُ، وتُسطَّرُ فيها أعظمُ صورِ الوفاءِ والتّضحياتِ، والتّعاونِ المشتركِ والتّكاملِ البنّاءِ، في بناءِ الأسرةِ المسلمةِ وتربيةِ الأبناءِ، في بيئةٍ هادئةٍ هانئة، ممّا يُرضي الرّحمنَ ويُغيظُ الشّيطانَ وأعداءَ الإسلامِ، ويُوصِدُ البابَ أمامَ التّسرّعِ بالطّلاقِ من الزّوجِ، أو المطالبةِ بالطّلاقِ أو بالخلعِ من الزّوجة، ويَنعكسُ ذلك التّفاهمُ والتّناغمُ على البيتِ والأسرةِ والأولادِ، بالسّكينةِ والطّمأنينةِ والانشراح، والاستقامةِ والصّلاحِ والتّفوقِ والنّجاح.
فاتّقوا اللهَ -رحمَكم اللهُ-، وحافظوا على ميثاقِ الزّواجِ وشُدُّوا عليه الوَثَاق، واحموه من أنْ يَتصدّعَ بالشّقاقِ، أو يَنهدمَ بالطّلاق، وشيّدوا أركانَه بالإيمانِ والحكمةِ وحسنِ الأخلاق، واعلموا أنّ مدارَ التّوفيقِ نابعٌ من قلوبِ الزّوجينِ (إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)[النساء: 35]؛ فليُصلحْ كلٌّ منهما ما في قلبِه، ولْيُحسنِ الظّنَّ برفيقِ دربِه، ولتكنْ نيّتُهم صالحةً طيّبةً بأنْ يتآلفوا بصدقٍ ودعاءٍ وإلحاح، وليَبْشرُوا عندَ ذلك بكلِّ خيرٍ وتوفيقٍ وسعادةٍ وفلاح.
اللهمّ أصلحْ ما بينَ كلِّ زوجينِ، وأَلّفْ بينَ قلوبِهم، واجعلْ بينَهم مودّةً ورحمة، اللهمّ باركْ لهما وباركْ عليهما واجمعْ بينَهما في خير، اللهمّ أعذْهم من الخلافِ والشّقاقِ والطّلاقِ وسوءِ الأخلاق، اللهمّ ارزقْهم الحياةَ السّعيدةَ والذّريّةَ الطّيبة، واجعلْهم بركةً على أمّةِ محمّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين.
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأصلي وأسلمُ على خاتمِ النّبيّين، نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمّا بعدُ:
عبادَ الله: اتّقوا اللهَ حقَّ التّقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
اللَّهُمَّ اغفِرْ لِلْمُؤمنينَ والمُؤْمِناتِ، والمسلِمينَ والمُسْلِماتِ، وألِّفْ بينَ قلوبِهِم، وأصلِحْ ذاتَ بينِهِم، واهدهم سبلَ السّلام، وجنّبْهم الفواحشَ والآثام، وأخرجْهم من الظّلماتِ إلى النّور، اللَّهُمَّ باركْ لهم في أسماعِهم وأبصارِهم وأزواجِهم وذريّاتِهم وأرزاقِهم، واجعلْهم مباركين، اللهمّ اهدهم لأحسنِ الأخلاقِ لا يَهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرفْ عنهم سيّئَها لا يَصرفُ عنهم سيّئَها إلا أنت، اللهمّ زيّنْهم بزينةِ الإيمان، واجعلْهم هداةً مهتدين، برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين.
عبادَ الله: إنّ اللهَ وملائكتَه يصلّونَ على النبيّ، يا أيّها الذينَ آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليمًا، ويقولُ عليه الصلاةُ والسلام: "من صلّى عليّ صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشْرًا". اللهمّ صلِّ وسلمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه أبدًا إلى يومِ الدّين.
وأقمِ الصلاةَ إنّ الصلاةَ تَنهى عن الفحشاءِ والمنكر، ولذكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
التعليقات