اقتباس
عدم تصيد الأخطاء والتماس الهفوات؛ فلا ينبغي للعاقل أن يقف مع الهفوات أو يتصيد الأخطاء ويقيم الدنيا ولا يقعدها بسبب ذلك، وربما يكون عنده من الأخطاء والهفوات أضعاف أضعاف ما ينكره على غيره، ولا يسلم أحد من الخطأ والزلل إلا...
أولا: آداب الناصح
هناك بعض الآداب التي ينبغي للناصح أن يتحلى بها حتى يقبل نصحه ويسلم له أجره منها:
1- الإخلاص في النصيحة؛ على الناصح أن يرجو بنصيحته وجه الله -تبارك وتعالى-؛ فلا يقصد بنصيحته الأغراض الدنيوية من رياء، وسمعة، وحب شهرة وغيرها؛ قال تعالى: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)[الزمر: 3]، وقال سبحانه: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[البينة: 5]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".(1)
وعليه كذلك أن يخلص في نصحه لأخيه فلا يغشه ولا يخدعه، لأنها أمانة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ"؛ (2) أي أمين على ما استشير فيه؛ فمن أفضى إلى أخيه بسره وأمنه على نفسه فقد جعله بمحلها فيجب عليه أن لا يشير عليه إلا بما يراه صوابا (3)
قال ابن عباس: لا يزال الرجل يزداد في صحة رأيه ما نصح لمستشيره، فإذا غشه سلبه اللَّه نصحه ورأيه.(4)
وعن إبراهيم بن المنذر قال: استشار زياد بن عبيد الله الحارثي عبيد الله بن عمر في أخيه أبي بكر أن يوليه القضاء، فأشار عليه به، فبعث إلى أبي بكر فامتنع عليه، فبعث زياد إلى عبيد الله يستعين به على أبي بكر، فقال أبو بكر لعبيد الله: أنشدك بالله أترى لي أن أَلِيَ القضاء؟ قال: اللهم لا.قال زياد: سبحان الله! استشرتك فأشرت عليّ به ثم أسمعك تنهاه! قال: أيها الأمير استشرتني فاجتهدت لك رأيي ونصحتك، واستشارني فاجتهدت له رأيي ونصحته.(5)
2- التثبت قبل النصح والإنكار؛ قال رجل للأحنف بن قيس: أخبرني الثقة عنك بسوء.قال: الثقة لا ينمّ.(6)
فلا تبادر إلى تصديق كل ما يقال عن أخيك المسلم من جار أو صديق، ولا تصدق كل ما يُقال ولو سمعته من ألف فم، بل يجب عليك عدم إساءة الظن بالآخرين؛ قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)[الحجرات: 12].
وقال تعالى: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)[يونس: 36]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ".(7)
قال المناوي: أي احذروا اتباع الظن واحذروا سوء الظن بمن لا يساء الظن به من العدول، والظن تهمة تقع في القلب بلا دليل؛ قال الغزالي: وهو حرام كسوء القول.(8)
وإذا رأيت أمراً أو بلغك عن صديقك كلامٌ يحتمل وجهين، فاحمله محملاً حسناً، وأنزله منزلة الخير، فذلك ألصق بالأخوة، وأجدر بمكارم الأخلاق.
قالت بنت عبد الله بن مطيع لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف وكان أجود قريش في زمانه: ما رأيت قوماً ألأمَ من إخوانك! فقال لها: مه! ولمَ ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال لها: هذا والله من كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بحقهم!.
قال الماوردي معلقا: فانظر كيف تأول بكرمه هذا التأويل حتى جعل قبيح فعلهم حسنا، وظاهر غدرهم وفاء.وهذا محض الكرم ولُباب الفضل، وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأولوا الهفوات من إخوانهم.(9)
قال مَعْمَر بن راشد: أَنْصَحُ النَّاسِ إِلَيْكَ مَنْ خَافَ اللَّهَ فِيكَ.(10)
3- العلم بما ينصح به؛ الذي يقوم بالنصيحة لا ينصح في أمر يجهله، بل لا بد أن يكون عالماً بما ينصح به، ولديه علم شرعي وأدلة من الكتاب والسنة في الجانب الذي يتكلم فيه، قال تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)[الإسراء: 36].
قال المناوي: الناصح يحتاج إلى علم كبير وكثير، فإنه يحتاج أولا إلى علم الشريعة وهو العلم العام المتضمن لأحوال الناس، وعلم الزمان، وعلم المكان، وعلم الترجيح إذا تقابلت الأمور فيفعل بحسب الأرجح عنده، وهذا يسمى علم السياسة، فإنه يسوس بذلك النفوس الجموحة الشاردة عن طريق مصالحها، فلذلك قالوا: يحتاج الناصح إلى علم وعقل وفكر صحيح ورؤية حسنة واعتدال مزاج وتؤدة وتأنٍّ، فإن لم تجمع هذه الخصال فخطؤه أسرع من إصابته فلا ينصح.(11)
قال أبو بكر الآجرى: ولا يكون ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم إلا من بدأ بالنصيحة لنفسه، واجتهد في طلب العلم والفقه، ليعرف به ما يجب عليه، ويعلم عداوة الشيطان له وكيف الحذر منه، ويعلم قبيح ما تميل إليه النفس حتى يخالفها بعلم.(12)
4- العمل بما ينصح به؛ بمعنى أن يكون قدوة في نفسه داعيا بمظهره وجوهره؛ قال تعالى منكرا على أهل الكتاب الذين يأمرون الناس بالبر ولا يأتمرون به: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[البقرة: 44].
وعن جُنْدُب بن عبد الله قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ ويَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ ويَحْرِقُ نَفْسَهُ"(13)
قال الراغب الأصفهاني: أول النصح أن ينصح الإنسان نفسه؛ فمن غشها فقلما ينصح غيره.(14)
وكتب رجل إلى صديق له: أما بعد فعظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك، واستح من الله بقدر قربه منك، وخفه بقدر قدرته عليك، والسلام.(15)
يقول ابن قدامة: فكن أحد رجلين: إمَّا مشغولاً بنفسك، وإما متفرغًا لغيرك بعد الفراغ من نفسك، وإياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك.(16)
وقال وهب بن منبه: إذا أردت أن تعمل بطاعة الله عز وجل فاجتهد في نصحك وعلمك لله، فإن العمل لا يقبل ممن ليس بناصح، وإن النصح لله -عز وجل- لا يكمل إلا بطاعة الله، كمثل الثمرة الطيبة، ريحها طيب وطعمها طيب، كذلك مثل طاعة الله، النصح ريحها، والعمل طعمها.(17)
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ *** هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى *** كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا *** فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى *** بِالْقَوْلِ مِنْك وَيُقْبَلُ التَّعْلِيمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ(18)
ومع ذلك لا يمتنع من النصح لما يرى من تقصير في نفسه، وإلا ما دعى إلى الله أحد بعد الأنبياء؛ قال عمر بن عبد العزيز: لو أن المرء، لا يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويكمل الذي خلق له من عبادة ربه، إذن لتواكل الناس الخير، وإذن يرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقل الواعظون والساعون لله عز وجل بالنصيحة في الأرض.(19)
5- أن تكون النصيحة سرا؛ وهذا من أهم آداب النصح، فالأصل في النصيحة الإسرار: ومن بليغ الحكمة قولهم: النصيحةُ أمنُ الفضيحة.(20)
قال أبو حاتم البستي: لا تكون النصيحة إلا سرّاً؛ لأن من وعظ أخاه علانية فقد شانه، ومن وعظه سرّاً فقد زانه، فإبلاغ المجهود للمسلم فيما يزين أخاه أحرى من القصد فيما يشينه.... وعلامة الناصح الذي أراد زينة المنصوح له: أن ينصحه سرّاً، وعلامة من أراد شينه: أن ينصحه علانية، فليحذر العاقل نصحه الأعداء في السر والعلانية.(21)
قال الله -تعالى- لسيد الناصحين -صلى الله عليه وسلم-: (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)[النساء: 63]؛ أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم، فإن ذلك أقرب إلى ترقيقهم.(22)
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن ينصح أحد الحاضرين يقول: "ما بال أقوام" يفعلون كذا وكذا، ما بال أحدكم يفعل كذا، وقد قيل: النصح ثقيل فلا تجعله جبلا، ولا ترسله جدلا.(23)
وقال الشافعي: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه.(24)
وعن ابن المبارك قال: كان الرجل إذا رأى من أخيه ما يكره، أمره في ستر، ونهاه في ستر، فيؤجر في ستره، ويؤجر في نهيه، فأما اليوم فإذا رأى أحد من أحدٍ ما يكره استغضب أخاه، وهتك ستره.(25)
6- أن يراعى الوقت والمكان المناسب؛ فعلى النَّاصح أن يكون فَطِنًا لبيبًا في اختيار الأحوال والأزمنة المُناسبة، وعليه أن يقتنص الفُرَص السَّانحة، فاختيار الحال والزَّمان المناسب من أكبر الأسباب لقبول النَّصيحة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.(26)
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان: فابتغوا لها طرائف الحكمة.(27)
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: إن للقلوب شهوة وإقبالا، وفترة وإدبارا فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها.(28)
7- أن يراعي دائما اللين والرفق في النصيحة؛ أن تكون النصيحة بالرفق واللين والأسلوب الحسن، مع انتقاء الألفاظ المحببة، وعدم استخدام الأساليب المنفرة، قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 125].
وقال سبحانه: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ)[الإسراء: 53].
وقال حماد بن سلمة إن صلة بن أشيم مرَّ عليه رجل قد أسبل إزاره فَهَمَّ أصحابه أن يأخذوه بشدة. فقال: دعوني أنا أكفيكم. فقال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة. قال: وما حاجتك يا عم؟ قال: أحب أن ترفع من إزارك، فقال: نعم وكرامة، فرفع إزاره. فقال لأصحابه: لو أخذتموه بشدة لقال لا ولا كرامة وشتمكم.(29)
قال رجل لمسعر بن كدام: تحب أن تنصح؟ قال: أما من ناصح فنعم، وأما من شامت فلا.(30)
8- أن لا تكون النصيحة على شرط القبول؛ قال الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)[الشورى: 48]، وقال تعالى: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[يونس: 99].
قال ابن حزم: ولا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذا، فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة لا مؤدي حق ديانة وأخوة، وليس هذا حكم العقل ولا حكم الصداقة، ولكن حكم الأمير مع رعيته والسيد مع عبيده.(31)
9- عدم تصيد الأخطاء والتماس الهفوات؛ فلا ينبغي للعاقل أن يقف مع الهفوات أو يتصيد الأخطاء ويقيم الدنيا ولا يقعدها بسبب ذلك، وربما يكون عنده من الأخطاء والهفوات أضعاف أضعاف ما ينكره على غيره، ولا يسلم أحد من الخطأ والزلل إلا من عصمه الله -تعالى-؛ قال الله -تعالى- في وصف النفس الإنسانية على حقيقتها: (إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي)[يوسف: 53].
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ".(32)
قال المناوي: كأن الإنسان لنقصه وحب نفسه يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه فيدركه مع خفائه فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به، وهذا مثل ضرب لمن يرى الصغير من عيوب الناس ويعيرهم به وفيه من العيوب ما نسبته إليه كنسبة الجذع إلى القذاة وذلك من أقبح القبائح وأفضح الفضائح فرحم الله من حفظ قلبه ولسانه ولزم شأنه وكف عن عرض أخيه وأعرض عما لا يعنيه فمن حفظ هذه الوصية دامت سلامته وقلت ندامته فتسليم الأحوال لأهلها أسلم والله أعلى وأعلم ولله در القائل:
أرى كل إنسان يرى عيب غيره *** ويعمى عن العيب الذي هو فيه
فلا خير فيمن لا يرى عيب نفسه *** ويعمى عن العيب الذي بأخيه(33)
ثانيا: آداب المنصوح
ينبغي للمنصوح أن يتحلى ببعض الآداب كي ينتفع بالنصيحة ومن ذلك:
1- تقبل النصيحة بصدر رحب دون ضجر أو تكبر وعد الإصرار على الباطل؛ وقد قيل: تقبل النصيحة على أي وجه، وقدمها على أحسن وجه.(34)
فمن لا يقبل نصح الناصح فهو كالمريض، الذي يترك ما يصف له الطبيب، ويعمد لما يشتهيه فيهلك، قال الله -تعالى- حكاية عن نبيِّه صالح -عليه السلام-: (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)[الأعراف: 79].
قال تعالى في معرض الذم لمن يتعالى عن قبول النصح: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)[البقرة: 206]؛ أي: إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتق الله، وانزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحق -امتنع وأبى، وأخذته الحمية والغضب بالإثم، أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام.(35)
وقال ابن مسعود: كفى بالرجل إثما إذا قيل له: اتق الله.قال: عليك نفسك.(36)
قال ابن الأعرابي: اثنان ظالمان: رجل أهديت له النصيحة فاتخذها ذنباً، ورجل وُسِّع له في مكان ضيق فجلس متربعاً.(37)
وقال أبو حاتم البستي: النصيحة محاطة بالتهمة، وليست النصيحة إلا لمن قبلها، كما أن الدنيا ليست إلا لمن تركها، ولا الآخرة إلا لمن طلبها.(38)
وَلاَ يَرْفُضُ نَصِيحَةَ الْعَاقِل؛ إِلاَّ امْرُؤٌ جَاهِل، عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَال: "أَبْغَضُ الْكَلاَمِ إِلىَ اللهِ عَزَّ وَجَلّ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ اتَّقِ الله؛ فَيَقُول: عَلَيْكَ بِنَفْسِك).(39)
وعَن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- عَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَال: "إِذَا ذُكِّرْتُمْ بِاللهِ فَانْتَهُواْ".(40)
وَعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- عَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَال: "وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون".(41)
فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَقَبَّلَ نُصْحَ النَّاصِحِينَ بِقَبُولٍ حَسَن، وَلاَ يَقُولَ بِقَوْلِ أَبي نُوَاسٍ في فَتْرَةِ مجُونِه:
مَا لي وَلِلنَّاسِ كَمْ يَلْحَوْنَني سَفَهَاً *** دِيني لِنَفْسِي وَدِينُ النَّاسِ لِلنَّاسِ
ومن جميل ما يذكر هنا ما جاء عن عبد الرحمن بن مهدي أنه روى عن شيخه عبيد الله بن الحسن العنبري أحد سادات البصرة وعلمائها، قال: كنا في جنازة، فسألته عن مسألة، فغلِط فيها، فقلت له: أصلحك الله، القولُ فيها كذا وكذا "، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: " إذًا أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذَنَبًا في الحق أحب إلى من أن أكون رأسًا في الباطل.(42)
2- شكر الناصح؛ ينبغي للمنصوح أن يقدم الشكر لمن نصحه، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أحب الناس إلي من أهدى إليَّ عيبا.(43)
ثالثا: آثار وثمار النصيحة؛ تتحصل من النصيحة الثمار الطيبة، والآثار الخيرة، ويمكن إجمال ثمار النصيحة في الأمور التالية:
1- تنقية المنصوح من الشوائب؛ فإن الناصح عندما يرى من منصوحه غفلة عن خير، أو وقوعاً في شر، فيعمد إلى تقوية وتنقية نفسه من الشوائب سيراً بها إلى التقليل من القصور في حق الله أولاً، ثم في حق عباده ثانياً، وهذا مكسب كبير للإنسان لو تمعن فيه.
2- دوام المحبة والألفة؛ فإن المنصوح إذا نصحه الناصح بما يسدد خطأه، ويكمل نقصه، كان ذلك طريقاً لدوام الألفة بين الاثنين، ذلك لأن الناصح محب لمنصوحه، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولابد أن يقابله صاحبه بمثل ذلك إن كان عاقلاً.
3- أداء حق الأخوة؛ إن الناصح حين ينصح غيره إنما يؤدي ما لأخيه من حق عليه، وهذا الحق يتعلق بحب المرء لغيره مثل ما يحبه لنفسه، وهذا الأمر يؤدى بطرق منها النصيحة.
قال عمر بن عبد العزيز: من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه.(44)
4- حصول الأجر؛ الناصح إذا أسدى لغيره نصحاً استحق عليه الأجر العظيم من الله -سبحانه وتعالى-، على حرصه على إخوانه، وحبه لهم.(45)
---
(1) متفق عليه من حديث عمر -رضي الله عنه-
(2) رواه أبو داود (5128) والترمذي (2822) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1136)
(3) فيض القدير (6/ 268)
(4) الذريعة الى مكارم الشريعة (ص: 211)
(5) عيون الأخبار ( 1/ 71 ).
(6) ربيع الأبرار للزمخشري (4/ 151)
(7) رواه البخاري (6066) ومسلم (2563)
(8) فيض القدير (3/ 122)
(9) أدب الدنيا والدين (ص: 180)
(10) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن أبي الدنيا (ص: 98)
(11) فيض القدير (6/ 268)
(12) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 130)
(13) رواه الطبراني (1681) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1015)
(14) الذريعة الى مكارم الشريعة (ص: 211)
(15) المستطرف في كل فن مستطرف لأبي الفتح الأبشيهي(ص: 89)
(16) مختصر منهاج القاصدين (ص: 20)
(17) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 36)
(18) أدب الدنيا والدين (ص: 34)
(19) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن أبي الدنيا (ص: 139)
(20) محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني (1/ 165)
(21) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 196 - 197)
(22) تفسير ابن كثير (2/ 347) ونظم الدرر لابن جزي (5/ 315)
(23) تفسير الشعراوي (3/ 1838)
(24) إحياء علوم الدين (2/ 182)
(25) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 197)
(26) رواه البخاري (68) ومسلم (2821)
(27) الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 100)
(28) أدب الدنيا والدين (ص: 66)
(29) إحياء علوم الدين (2/ 335)
(30) الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 290)
(31) الأخلاق والسير في مداواة النفوس (ص: 45)
(32) رواه ابن حبان (5761) والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 356) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1328)
والقذاة: هي ما يقع في العين والماء والشراب من نحو تراب وتبن ووسخ (الجذع) واحد جذوع النخل
(33) فيض القدير (6/ 456)
(34) موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق (2/ 25)
(35) تفسير ابن كثير (1/ 564)
(36) إحياء علوم الدين (3/ 347)
(37) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 196)
(38) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 196)
(39) رواه النسائي (10619) والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 142) وصححه الألباني في الصحيحة (6/ 189)
(40) رواه البزار (8541) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 155)
(41) رواه أحمد (2/ 165) وعبد بن حميد في المنتخب (320) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 216)
(42) تاريخ بغداد ت بشار (12/ 7)
(43) صيد الخاطر (ص: 69)
(44) تاريخ الطبري (6/ 571)
(45) فقه النصيحة لأبي مهند النجدي (ص: 13).
التعليقات