اللغة العربية أبرز مقومات الفكر التربوي الإسلامي

صالح بن علي أبو عرّاد

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

لقد عرف العالـم الإسلامي قمَّة ازدهاره ومـجده عندما كانت اللُّغة العربية أساس هذه الوحدة الفكرية، وكانت اللُّغة الراقية للعالـم والجنس البشري طيلة أربعة قرونٍ من الزمان، منذ القرن الثامن (الـميلادي) حتى القرن الثاني عشر (الـميلادي)، وتَعَلَّمَها كثيرٌ من غير أبنائها باعتبارها...

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، أما بعد:

فتحظى لُغتنا العربية - ولله الحمد والشكر- بـمكانةٍ رفيعةٍ، ومنزلةٍ ساميةٍ؛ لا سيَّما أنها اللغة التي اختارَها اللهُ عزَّ وجلَّ من بين جـميع لغات العالم، وشـرَّفها بأن أنزلَ آيات القرآن الكريم بها، إضافةً إلى وصفه جلَّ جلالُه للقرآن الكريم بأنه عربيٌّ في قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف: 2]، وقوله سبحانه: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[فصلت: 3].

 

والـمعنى أن الله -تعالى- اختار اللغة العربية؛ لتكون لغة الإسلام وتعاليمه وتشريعاته وهديه الديني والدنيوي؛ الأمر الذي أسهم في ثرائها وخلودها والحفاظ عليها من الاندثار، يُضاف إلى ذلك أن ارتباطها بالإسلام قد أسهم في جعلها لُغةً حيَّةً واسعةَ الانتشار؛ فحيثما كان الإسلام كانت اللغة العربية وكان الاهتمام والعناية بها، ولعلَّ مـمَّا يُـميِّز اللغة العربية أنها تشتمل على الكثير من الـمفردات التي تُشير بعض الـمصادر إلى أن عدد كلمات اللُّغة العربية يبلغ أكثر من (12مليونًا و300 ألف) كلمة؛ الأمر الذي يترتَّب عليه أن تكون أوسع اللُّغات انتشارًا، وأكثرها ثروةً لفظيةً تؤهِّلها بكل جدارةٍ لاستيعاب مُـختلف الحاجات والـمُتطلبات الـمادية والـمعنوية في مـختلف مـجالات الحياة وميادينها، ويجعلها صالحةً لكل زمانٍ وأي مكان.

 

وليس هذا فحسب؛ فقد وهبها الله -تعالى- من الـمعاني الفيَّاضة، والألفاظ الـمتطوِّرة، والاشتقاقات الـمُتنوِّعة، والتراكيب الجديدة، والأساليب العالية الرفيعة، ما جعلها تتمتَّع بثراءٍ عزَّ نظيرُه في معظم لغات العالم القديـمة والحديثة، فأصبحت بذلك مـحطَّ الأنظار، لـما لها من دورٍ فاعلٍ، وأثرٍ بارزٍ، وإسهامٍ كبيرٍ في تربية الأفراد، وتنمية الـمجتمعات، وبناء الحضارات، وتحقيق الآمال والطموحات؛ الأمر الذي يترتَّب عليه أن تكون اللُّغة العربية واحدةً من أبرز العوامل التي تجعل منها هُوِيةً مُستقلةً ومُتميزةً للأُمَّة التي تتكلم بـها وتتعامل بـموجبها.

 

اللغة العربية أحد أبرز مقومات الفكر التربوي الإسلامي:

للفكر التربوي الإسلامي عددٌ من الـمقومات الرئيسة التي تُـمثِّل في مـجموعها نتاج التفاعُل الـمُثمر والإيجابي بين مـختلف العوامل العقائدية، والتشريعية، والتاريخية، والثقافية، واللُّغوية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها، وسيكون حديثنا في الأسطر التالية منحصرًا في اللُّغة العربية كأحد أبرز مقومات الفكر الإسلامي، انطلاقًا من كونها أحد متطلَّبات الهُوية الإسلامية الرئيسة التي يعتمد عليها الفكر الإسلامي اعتمادًا كبيرًا في طروحاته، ورؤاه، ومعطياته، وتطبيقاته.

 

فاللغة العربية تُعدُّ مقومًا مُهمًّا لحركة الفكر الإسلامي بعامة، وهذا يعني أن الوحدة الإسلامية الحقيقية لا يُـمكن أن تتمَّ في أروع صورها إلَّا بالوحدة الفكرية التي لا سبيل إليها بغير وحدة اللُّغة العربية، وهو ما أكَّده قول أحد الباحثين: "لقد عرف العالـم الإسلامي قمَّة ازدهاره ومـجده عندما كانت اللُّغة العربية أساس هذه الوحدة الفكرية، وكانت اللُّغة الراقية للعالـم والجنس البشري طيلة أربعة قرونٍ من الزمان، منذ القرن الثامن (الـميلادي) حتى القرن الثاني عشر (الـميلادي)، وتَعَلَّمَها كثيرٌ من غير أبنائها باعتبارها لغة الثقافة والعلم، وقد كتبوا وألَّفُوا بها"؛ (مـحمد منير مرسي، 1421هـ، ص 259).

 

كما أن أهـمية اللُّغة العربية كمقومٍ رئيسٍ من مقومات الفكر الإسلامي بعامة تنطلق في الأساس من ارتباطها القوي بالقرآن الكريم، وهو ما تُلمحُ إليه كثيرٌ من الأبحاث الـمعنية بهذا الشأن؛ إذ إن الـمُفكِّر الـمُسلـم لا يُـمكن أن يستغني في أي مـجالٍ من مـجالات الفكر عن اللُّغة العربية لكونها أداةً رئيسةً من أدوات التفكير، وهذا يعني أنه لا يُـمكن للمُفكِّر الـمُسلم أن يستغني في الأصل عن القرآن الكريم الذي لا يُـمكن فهم معانيه ومقاصده ودلالاته بدون فهم ومعرفة اللغة العربية.

 

ولو استعرضنا مراحل العناية باللغة العربية في تاريخ الـمسلمين لوجدنا أن ذلك الأمر كان قد بدأ منذ بداية ظهور الدين الإسلامي، ولكنه برز بشكلٍ واضحٍ في عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-؛ حيث بدأ الاهتمام بوضع قواعد اللُّغة العربية؛ الأمر الذي أسهم بإيجابيةٍ في الـمحافظة عليها، والعمل على انتشارها في مـختلف البلدان التي دخلها دين الإسلام، وبذلك كان للُّغة العربية أثرٌ فاعلٌ وإيجابيٌّ خلال هذه الفترة في تحديد هوية الفكر التربوي الإسلامي، وصبغه بالصبغةِ العربية الإسلامية التي انتشر بـها في أنحاء العالـم بعد ذلك، والتي شكَّلت في عمومها وحدةً ثقافيةً شـملت مـختلف بلدان ومـجتمعات العالم العربي والإسلامي من خلال تلك الجهود التي بُذلت في وضع قواعد اللُّغة العربية، والعناية بها لغةً رئيسيةً لتحصيل العلم والـمعرفة، وهو ما أكَّده أحد الباحثين بقوله: "كانت اللغة العربية هي لُغة التعليم لجميع الطلاب؛ الأمر الذي ساعد على بناء وحدةٍ ثقافيةٍ مُتكاملةٍ في العالم الإسلامي، ويَسَّر على الطلاب حُرية التنقُّل في مـختلف أنحائه، وأتاح لهم فُرص التلقِّي عن العُلماء، وهذا ما عُرف بالرحلة في طلب العلم"؛ (منير الدين أحـمد، 1401هـ، ص62).

 

وقد استمرَّ الاهتمام باللغة العربية في عهد الدولة الأموية؛ حيث ظهرت العناية بالعلوم الإسلامية وعلوم اللُّغة العربية على الـمستوى العام في الـمجتمعات الإسلامية في مـختلف الأمصار، وزاد انتشار هذه العلوم تبعًا لانتشار الفتوحات الإسلامية في هذا العهد، إضافةً إلى تطوُّر عددٍ من العلوم وتعمُّقها، وهو ما أشار إليه أحد الباحثين بقوله: "وفي هذه الفترة كانت بداية الـمدارس الفقهية نتيجة متطلبات الحياة العملية وتطورها، ولضرورة العودة إلى الأصول (القرآن والحديث) إضافةً إلى الاجتـهاد لاتخاذ الأحكام ومواجهة الـمشاكل، فأدَّى ذلك إلى بدايات الفقه وتطوُّره، ونتيجةً للجهود الـمُشتركة الـمُتكاملة في الـمراكز ظهرت الـمدارس الفقهية، ولـم يكن العرب في عُزلة؛ إذ اختلطوا في الـمُدن القديمة بأهلها، كما أن أعدادًا كبيرةً من الـموالي وأهل الذمَّة جاءوا إلى دُور الهجرة بحثًا عن العمل أو بحثًا عن مـجالاتٍ جديدةٍ؛ فكانت هذه الـمُدن والـمراكز مواضع اتصالٍ وتبادُل ثقافي شفوي في الغالب؛ ولكن الاهتمام تركَّز على الدراسات العربية والإسلامية"؛ (أحـمد عبدالرحمن عبداللطيف، وآخرون، 1987م، ص 24).

 

ولـم يقتصر الاهتمام في هذا الجانب على مـجرد العناية بالـمدارس الفقهية "فإلى جانب مدارس الفقه والحديث ظهرت مدارس لُغوية اشتـهر منها مدرستا البصرة والكوفة في العراق، وكان على رأس مدرسة البصرة عيسى بن عمر الثقفي (ت149هـ)، الذي كان من أشهر تلاميذ أبي الأسود الدؤلي، وعنه أخذ الخليل بن أحـمد الفراهيدي (ت 175هـ)، ومن مشاهير مدرسة البصرة يونس بن حبيب (ت183هـ)، والأصمعي (ت 213هـ)، أما مدرسة الكوفة فقد اشتـهر منها الكسائي الـمتوفَّى عام 197هـ، ويحيى بن زياد الفرَّاء (ت 207هـ)"؛ (ماجد عرسان الكيلاني، 1405هـ، ص86-87)، [بتصرُّفٍ من الـكاتب].

 

ومن هنا، فإنه يُـمكن القول بأن كل ذلك قد أسهم بشكلٍ فاعلٍ في انتشار اللغة العربية بشكلٍ ثقافيٍ وفكريٍ وحضاريٍ واسعٍ في عهد الدولة الأموية، وهو ما يؤكِّده أحد الكُتَّاب في وصفه لذلك العهد بقوله: "وسادت اللغة العربية، وأصبحت لُغة الدين، والدولة، والشعر، والعلم"؛ (مصطفى مـحمد متولي، 1417هـ، ص127).

 

اللافت للنظر في هذا الشأن أن هذا الانتشار الواسع للُّغة العربية خلال تلك الفترة كان قد تجاوز حدود الـمفهوم العرقي الذي يحصر العربية في فئةٍ معينة من الناس داخل الـمجتمع أو الأمة الإسلامية التي أصبحت اللغة العربية لغتها الرئيسة والـمشتركة بين أبنائها في كل مكان على امتداد رقعة الدولة الإسلامية شرقًا وغربًا، وعلى الرغم من دخول ثقافاتٍ أُخرى لا تنطق بالعربية؛ إلَّا أنها تدين بالإسلام وتعتزُّ باللغة العربية، وتعُدُّها لغتها الرئيسة في شتى مناحي الحياة، وهو ما أورده أحد الكُتَّاب بقوله: "وهكذا يتضح أن كلمة عرب بـمعناها الواسع لا يُقصَد بها أساسٌ عرقيٌّ عنصريٌّ؛ وإنـما مفهومٌ ثقافيٌّ يُطلق على الشعوب والأقوام التي دخلت الإسلام وانصهرت في بوتقة الثقافة العربية من خلال الإسلام، واتخذوا اللغة العربية ميراثًا مُشتركًا، وكتبوا بها مؤلفاتهم في مـختلف العلوم والفنون والآداب في عصر ازدهار الإسلام"؛ (مـحمد منير مرسي، 1421هـ، ص 258).

 

وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى الدور الفاعل الذي أضفته عملية تعريب الدواوين في العهد الأموي، والذي أسهمت من خلاله في انتشار اللغة العربية، وهو ما يؤكده باحثٌ آخر بقوله: "وكان تعريب الدواوين الـمالية أيام الأمويين عمليةَ ترجـمةٍ واسعة، استمرَّتْ حوالي نصف قرنٍ، كان لها أثرٌ كبيرٌ في تـمكين العربية من أن تُصبح لُغة الثقافة والإدارة، وفي توجيه العناصر الطموحة من غير العرب إلى أن تتعلَّـم العربية بل وتتعرَّب"؛ (أحمد عبدالرحمن عبداللطيف، وآخرون، 1987م، ص 37).

 

وخلاصة القول في هذا الشأن أنه يُـمكن لنا أن ندرك ملمحًا مهمًّا ورئيسًا في الفكر التربوي الإسلامي، ويتمثَّل في أن الوحدة الإسلامية الحقيقية لا يُـمكن أن تتمَّ إلَّا بالوحدة الفكرية التي لا سبيل إليها بغير وحدة اللُّغة العربية، وقد أكَّد هذا الـمعنى قول أحد الباحثين: "لقد عرف العالـم الإسلامي قمة ازدهاره ومـجده عندما كانت اللُّغة العربية أساس هذه الوحدة الفكرية، وكانت اللُّغة الراقية للعالـم والجنس البشري طيلة أربعة قرونٍ من الزمان، منذ القرن الثامن (الـميلادي) حتى القرن الثاني عشر (الـميلادي)، وتَعَلَّمَها كثيرٌ من غير أبنائها باعتبارها لغة الثقافة والعلم، وقد كتبوا وألَّفُوا بها"؛ (مـحمد منير مرسي، 1421هـ، ص 259).

 

وتتمثل خُلاصة القول في أن اللغة العربية واحدةٌ من أبرز مقومات الفكر التربوي الإسلامي التي تُـمثلُ تلك القواعد أو الأُسس التي يقوم عليـها ويثــــــبُت بـها بناؤه؛ إضافةً إلى كونـها العصب الذي يشدُّ أجزاء ذلك البُنيان إلى بعضها فيقوى ويشتدُّ، وهي الأداة والوسيلة الأكثر ملاءمةً لضمان معرفة وفهم واستيعاب وتطبيق أبعاد هذا الفكر التربوي على النحو الإيجابي الـمأمول.

______________

♦ القرآن الكريم.

♦ أحـمد عبدالرحمن عبداللطيف، وآخرون، (1987م)، كتاب الفكر التربوي العربي الإسلامي (الأصول والـمبادئ)، تونس، الـمُنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.

♦ ماجد عرسان الكيلاني (1405هـ/ 1985م)، تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية، ط(2)، الـمدينة، المنورة مكتبة دار التراث.

♦ مـحمد منير مرسي (1421هـ)، التربية الإسلامية: أصولها وتطورها في البلاد العربية، القاهرة، عالم الكتب.

♦ مصطفى مـحمد متولي، (1417هــ/ 1997م)، مدخل إلى تاريخ التربية الإسلامية، ط(2)، الرياض، دار الخريجـي للنشر والتوزيع.

♦ منير الدين أحمد، (1401هـ/1981م)، تاريخ التعليم عند الـمسلمين والـمكانة الاجتماعية لعُلمائـهم حتى القرن الخامس الهجري، (مُستقاة من تاريخ بغداد للخطيب البغدادي)، قام بالترجـمة والتلخيص والتعليق/ سامي الصقار، الرياض، دار الـمريخ.

 

 

[1] بقلم الأستاذ الدكتور/ صالح بن علي أبو عرَّاد، أستاذ أصول التربية الإسلامية بجامعة الـملك خالد.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات