نقد القول.. وتقدير القائل

خالد بن منصور الدريس

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

لن أفتر عن تذكير نفسي دائماً: إن مهمة الطبيب أن يقضي على "المرض" لا على" المريض". فهدفي أن أعالج جزئية المرض فقط لأنقذ الشخص ككل، فإن لم أميز بين المريض ومرضه، فسأقتل المريض نفسه وسأقضي على...

من الأقوال المأثورة والمؤثرة، تلك الحكمة القائلة: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تُناقش الأحداث، والعقول التافهة تُناقش الأشخاص"(جواهر العقول د. وصال حمقة (ص182).

 

سأجعل منها منطلقاً لفكرتي التي أريد أن أتحدث عنها في هذا المقال، ومحورها: إن المفكر الناصح أو المصلح الصادق مثل الطبيب يهتم بمحاربة "المرض" لا محاربة "المريض" لأنه يحاول إنقاذه وعلاجه لا أن يقتله، لهذا أرى أن هناك فرقاً بين نقدنا للفكرة واحترامنا للمفكر، أو بمعنى آخر يجب أن نفصل بين نقدنا للقول ورفضنا له، وبين تقديرنا لشخص القائل من إخواننا وأصدقائنا وأقاربنا.

 

لا تقل لطفلك: إني أكرهك! ولكي تتضح فكرة الفصل، أورد هذا المثال من بعض كتب التربية التي تؤكد على حقيقة وهي: عندما يقع طفلك في خطأ، فلا تقل له: "إني أكرهك" فهذه عبارة مدمرة للطفل تسلبه أهم شيء وهو الأمن النفسي المتمثل في حب الوالدين، ولكن خاطبه بقولك: "إني أكره تصرفك الفلاني" فيكون حديثك وتوجيهك محدداً مقيداً منصباً على قوله الخاطئ أو فعله وليس على شخصية الطفل نفسه، وهذا قريب الشبه جدا من الفكرة التي أطرحها هنا من ضرورة الفصل والتمييز بين رفضنا للقول، مع تقديرنا للقائل.

 

لماذا نفصل بين القول والقائل؟

لأن الأفكار ليست هي المفكر بالضرورة، والقول ليس هو القائل حتماً فكثيراً ما تكون الأفكار السيئة والأقوال الخاطئة هي مجرد آراء قابلة للتغيير والتفنيد، فالشخص قد يقول فكرة ثم يتراجع أو يتخلى عنها في قادم الأيام لاعتبارات موضوعية، أو لأن التجربة الواقعية أمدته بخبرة أكبر ورؤية أوضح، فأصبح رفضه لها ضرورياً، ثم لننظر إلى أنفسنا وتاريخنا مع الأفكار.

ألم نندفع في ماضينا البعيد أو القريب نحو بعض الأفكار التي ظهر لنا فيما بعد عدم جدواها أو استبان لنا ضعفها؟

عندما كنا نحمل تلك الأفكار الخاطئة، ألم نكن نحب أن يتعامل معنا المخالفون لنا بعزل أفكارنا السلبية عن أشخاصنا التي تتوق إلى الاحترام والتقدير والاهتمام بها؟

 

ألسنا نحمل وقتها الكثير من الأفكار الجيدة والصحيحة؟

 

هل من العدل والإنصاف أن نُبغض أو يُقلل من ذكائنا وصدقنا بسبب فكرة أو أفكار محدودة ويتجاهل المخالفون إيجابياتنا الأخرى؟

 

ألا يجب أن نعامل الناس الذي نختلف معهم كما نحب أن يعاملوننا به لو كنا نمر بالظروف نفسها التي يمرون بها الآن؟

لا تلعنوه..!

 

ولعل مما يصلح شاهداً على تأصيل فكرة الفصل بين "المرض" و "المريض"، ما ورد في السنة النبوية من لعن المعصية مطلقاً ومنعه عليه الصلاة والسلام للعن مرتكبها بشخصه وعينه؛ ففي الحديث الثابت عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ، وَلَعَنَ شَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا"؛ فهنا لعن عليه الصلاة والسلام شارب الخمر مطلقاً، وهذا بلا شك ذم وتجريم لهذا الفعل، ولكنه عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح آخر لما أوتي برجل شرب الخمر فأمر بجلده الحد، قال أحد الصحابة -رضوان الله عليهم-: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"، فنهى عن لعن الشخص بعينه مع كونه ارتكب كبيرة ملعون مقترفها.

 

وقد أدرك ابن تيمية -رحمه الله- هذا الفرق القائم على الفصل والتمييز بين مشروعية لعن الفعل بصورة عامة، والنهي عن لعن الفاعل المعين، فقال في منهاج السنة (5/101): "فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر، وشهد له بأنه يحب الله ورسوله، مع لعنه شارب الخمر عموماً، فعُلم الفرق بين العام المطلق، والخاص المعين".

 

اكرهوا المعصية وارحموا العاصي!

وفي تقديري أن الحكمة من عدم توجيه عبارات جارحة للشخص بعينه مع اقترافه لكبيرة من الكبائر يظهر لنا في حديث أبي هريرة عند البخاري (6781) لما أتي بسكران، فأقيم عليه الحد، فقَالَ رَجُلٌ مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ".

 

وهنا تتجلى رحمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع العصاة والمخطئين، وإن شئنا أن نتحدث بلغة العصر فيمكن أن نقول: حافظَ عليه الصلاة والسلام على كرامة الإنسان المخطئ واحترم فيه جوانب إيجابية مهمة كحبه لله ورسوله، ولم يُهمل ذلك عند نظرته له مع كون الشخص قد ارتكب كبيرة توجب اللعن، وقد نبه عليه الصلاة والسلام أن إهانة العاصي لفظياً قد تفتح أبواباً من الشر تتسرب إلى وجدانه فيتعمق الانحراف في نفسه أكثر وأكثر، وخوفاً من ذلك جاء التوجيه النبوي بألا نكون عوناً للشيطان على إخواننا.

 

لا يلزم من تكفير القول أن يُكفر القائل!

 

وكشاهد تأصيلي آخر على تبني فكرة "الفصل" بين حكم القول وحكم القائل؛ يذهب المحققون من أهل العلم إلى أنه: لا ينبغي يُطلق على قول بأنه كفر، أن يُحكم على كل من قال به من المسلمين بأنه كافر، إلا إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع في حقه، وفي تقرير ذلك يقول أبو العباس ابن تيمية: "حقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال: كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذى قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها"(مجموع فتاوى ابن تيمية (23/345).

 

ويقول أيضاً: "المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين"(مجموع فتاواه (23/348): يقصد بالنوع أي القول، ويقصد بالعين أي الشخص القائل بعينه.

 

ولهذا ذهب علماء السلف إلى أن قول: القرآن مخلوق يعد كفراً، ولكنهم لم يكفروا كل من نطق به وتبناه بعينه وشخصه، فالإمام أحمد بن حنبل يحكم بأن مقولة: القرآن مخلوق تعد كفراً، ولكنه لم يكفر الخليفة المأمون وولاة الأمر من بعده ممن أظهروا القول بتلك المقولات، مع أنهم قد سجنوه وعذبوه وجلدوه، فهل هذا يعد تناقضاً منه -رحمه الله- كما قد يتوهم البعض؟

الجواب: لا؛ لأن الإمام -رحمه الله- يرى أن تكفير الشخص المعين المحدد كالمأمون يتطلب تحقق شروط وانتفاء موانع، وقد تتخلف بعض الشروط فلا يصبح تكفير الشخص المعين وجيهاً، وعندما تتوفر كل شروط تكفير المعين، ينظر العلماء في موانع التكفير أي أشياء مثل الإكراه أو الجهل أو التأويل الخاطئ، فيعذرون المعين بذلك مع تفصيلات ليس هذا محلها.

 

وفي ذلك قال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن ذكر مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: "ما كان -يعني أحمد بن حنبل- يُكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذى يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذى يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك ويدعون الناس إلى ذلك.. فالإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ترحم عليهم واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك"(مجموع فتاواه (23/348-349).

 

هل يوجد سمين بلا مرض؟

ولكي أقرب المسألة أكثر لغير المتخصصين أقول: كلنا نعلم الآن مقولة الأطباء: البدانة وزيادة الوزن سبب رئيس لأمراض القلب الخطيرة المميتة، ولكن هل بالضرورة كل شخص "سمين" يكون مصاباً بتلك الأمراض، هناك أشخاص كثر من البدناء لم يصابوا بتلك الأمراض القاتلة، وذلك يعود لعدم وجود أسباب تحقق المرض صحياً، أو لوجود موانع صحية كثيرة قائمة لدى أولئك الأشخاص تجعل أمراض القلب لا تؤثر فيهم.

 

وبهذا تكون المقولة: البدانة قاتلة تشبه -نوعاً ما- مقولة خلق القرآن كفر.. ولكن لا يلزم أن كل بدين هو بالضرورة الحتمية مريض بمرض مميت لعدم توفر بعض الأسباب أو لوجود موانع تحول دون ذلك، وهذا ليس ببعيد من قول العلماء: لا يكفر المعين إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع.

 

إذن هناك فصل بين القول والقائل، وتفريق بين إطلاق الحكم نظرياً وتطبيقه على شخص بعينه تحديداً.

 

نناقش أفكاراً لا أشخاصاً!

 

وبالنظر إلى ما تقدم أقول: إني عندما أناقش أي قول فإن طريقتي في ذلك أن أنخرط بصورة كاملة في تصوره والقيام بفحصه نقدياً ؛ لأعرف مزاياه وعيوبه، وأسبر أغواره مكتشفاً محاسنة ومساوئه، وأعرضه على واقع الحياة العملية لأشاهده يتحرك صعوداً ونزولاً وفي كل الاتجاهات، فإن توصلت إلى قناعة كافية بصلاحيته سأقبله مستنداً على الحجج والبراهين، وإن رفضته لمصادمته للمبادئ الفكرية المنسجمة مع القيم، أو لقصور في أدلته أو غلبة جانب السلبيات فيه، فعلي أن أحدد طبيعة رفضي، فإن كان القول ينهض على أساس واه فهو كالمرض المميت للفكر أو كالعدو المحارب لسلامة تصورات العقل وأحكامه، وهنا سأقاتله بكل ضراوة وبلا أدنى هوادة، وهذا ما أفعله حين أناقش بعض الأفكار كمبدأ النسبية المطلقة الداعي إلى نزع القداسة عن كل شيء مقدس.

 

لكن المحرج حقاً هو أن بعض الأصدقاء أو المقربين ممن صرحوا بذلك القول أو كتبوه قد يسبق إليهم سوء الفهم، فيظنون أن هجومي على القول وبنائه الفكري، كان يستهدف الانتقاص من أشخاصهم، مع أن مناقشتي للفكرة ليست في حضورهم ولم أتعرض لأسمائهم من قريب أو بعيد، والفكرة نفسها شائعة وتتردد بكثرة، ثم هم يعلمون أني أحتفظ لهم بتقدير شخصي بسبب ما يتصفون به من خصال مميزة ولأنهم يحملون العديد من القيم الإيجابية التي تجبرني على احترامهم ومودتهم.

 

كل ما في الأمر أني أناقش الأفكار على فرضية: أني قد أقبلها بعد الفحص والمناقشة، لهذا فواقع الحال: هذه الحماسة التي تشعرون بها في مقالاتي أحيانا لا تفسير لها إلا لأني أناقش نفسي، وأحاور عقلي، وأتجادل مع عالم أفكاري لا أشخاص أصدقائي.

 

والطريف في الأمر أن أولئك الأصدقاء كتبوا أشياء أو قالوها ضد أفكار أنافح عنها، ومع ذلك لم أغضب منهم أبداً، فلا يتطرق إلى نفسي أني المقصود لذاتي، ولا أقوم بعمليات إسقاط نفسي، وأقول: هذه إهانة موجهة لي!

 

قليلاً من الإنصاف أيها الأصدقاء..! قليلاً من العقلانية أيها الأصفياء..! الحرب على المرض لا المريض!

 

لذلك أقول لنفسي دائماً يا أيها الفقير إلى رحمة خالقك:

اكره الخطأ ولكن لا تكره المخطئ.

أبغض بكل قلبك المعصية ولكن ارحم العاصي.

انتقد القول ولكن احترم القائل.

أرفض الفكرة ولا ترفض كل ما عند المفكر.

 

لن أفتر عن تذكير نفسي دائماً: إن مهمة الطبيب أن يقضي على "المرض" لا على" المريض". فهدفي أن أعالج جزئية المرض فقط لأنقذ الشخص ككل، فإن لم أميز بين المريض ومرضه، فسأقتل المريض نفسه وسأقضي على كل شيء جهلاً وبغياً، وبهذا تتحول المصلحة الخاصة إلى مفسدة عامة، وينقلب النفع الجزئي الذي أردته إلى ضرر كلي لطالما تحاشيته، وهذا ما لا أريده بكل تأكيد.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات