القصة وأغراضها الخطابية

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: بناء الخطبة

اقتباس

القصة في القرآن ليست عملا فنيا مستقلا في موضوعه وطريقة عرضه وإدارة حوادثه (كما هو الشأن في القصة الفنية الحرة التي ترمي إلى أداء غرض فني طليق) إنما هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى أغراضه الدعوية. والقرآن كتاب دعوة وهداية؛ والقصة إحدى وسائله لإبلاغ هذه الدعوة وتثبيتها؛ شأنها في ذلك شأن...

إنَّ من أصول الشريعة الإسلامية: معرفة تاريخ سلفها في التشريع من الأنبياء بشرائعهم، فكان اشتمال القرآن على قصص الأنبياء وأقوامهم تكليلاً لهامة التشريع الإسلامي بذكر تاريخ المشرِّعين، قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 146].

 

لذلك لم يكن مستغرباً أن يكون ثلث القرآن الكريم والذي يعتبر المصدر الأول للتشريع عبارة عن قصص السابقين وأخبارهم، ومشاهد الأنبياء مع أقوامهم، ومصارع المكذبين وعواقب المتقين ونهاية الظالمين، فثلث القرآن (والثلث كثير) خصص لهذا الجانب الهام، مما يبين مكانة ومنزلة القصة في التشريع الإسلامي.

 

والقرآن الكريم في حكاية القصص سلك أسلوب التوصيف والمحاورة، وذلك أسلوب لم يكن معهوداً للعرب فكان مجيئه في القرآن ابتكار أسلوب جديد في البلاغة العربية شديد التأثير في نفوس أهل اللسان، وهو من إعجاز القرآن؛ إذ لا ينكرون أنه أسلوب بديع، لا يستطيعون الإتيان بمثله، إذ لم يعتادوه!

 

فالقصة في القرآن ليست عملا فنيا مستقلا في موضوعه وطريقة عرضه وإدارة حوادثه (كما هو الشأن في القصة الفنية الحرة التي ترمي إلى أداء غرض فني طليق) إنما هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى أغراضه الدعوية.

 

والقرآن كتاب دعوة وهداية؛ والقصة إحدى وسائله لإبلاغ هذه الدعوة وتثبيتها.

شأنها في ذلك شأن الصور التي يرسمها للقيامة وللنعيم والعذاب, وشأن الأدلة التي يسوقها على البعث وعلى قدرة الله, وشأن الشرائع التي يفصلها والأمثال التي يضربها... إلى آخر ما جاء في القرآن من موضوعات.

 

لذلك كانت القصة أحد أهم أدوات ووسائل الخطيب في توصيل رسالته الخطابية، فهي الأكثر تأثيراً في المستمعين، والأكثر التصاقاً بعقولهم، كما إنها الأمتع والأشوق بما تحتويه من عناصر الإمتاع والتشويق والجذب للمستمعين، ولذلك كله يجب على كل خطيب فهم أغراض القصة في التشريع، وفهم أهدافها ومقاصدها حتى يمكن توظيفها خطابياً بما يحقق أعلى استفادة وأعمق تأثير.

 

الأغراض الخطابية للقصة:

قد خضعت القصة في التشريع (قرآن وسنة) في موضوعها, وفي طريقة عرضها, وإدارة حوادثها, لمقتضى الأغراض الدعوية؛ وظهرت آثار هذا الخضوع في سمات معينة سنعرض لها بعد قليل.

ولكن هذا الخضوع الكامل للغرض الديني, ووفاءها بهذا الغرض تمام الوفاء, لم يمنع بروز الخصائص الفنية في عرضها، ولا سيما خصيصة القرآن الكبرى في التعبير وهي: التصوير.

 

فالتعبير القرآني يؤلف بين الغرض الدعوي والغرض الفني, فيما نعرضه من الصور والمشاهد، حيث يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني، فيخاطب القلوب, بلغة الجمال الفنية، وإدراك الجمال الفني وتذوقه دليل استعداد لتلقي التأثير القلبي والنفسي.

وهذا هو سر التفاوت بين الناس في سماع القرآن والتأثر به.

 

ومن أهم الأغراض الخطابية للقصة في التشريع.

 

أولاً: بيان وحدة الدين:

فمن أغراض القصة: بيان أن الدين كله من عند الله من عهد آدم إلى عهد محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة، والله الواحد رب الجميع؛ وكثيرا ما وردت قصص عدد من الأنبياء مجتمعة في سورة واحدة، معروضة بطريقة خاصة، لتؤيد هذه الحقيقة.

 

ولما كان هذا غرضا أساسيا في الدعوة فقد تكرر مجيء هذه القصص على هذا النحو، مع اختلاف في التعبير، لتثبيت هذه الحقيقة وتوكيدها في النفوس، وتكرر ذلك في مواضع كثيرة من القرآن الكريم في سورة الأعراف وهود والأنبياء والشعراء وغيرهم من سور القرآن.

 

ثانياً: إخلاص العبودية:

فمن أغراض القصة الخطابية: بيان أن الرسل جميعا قد أرسلهم الله -تعالى- برسالة واحدة في أصولها ألا وهي: إخلاص العبادة لله الواحد القهار، وأداء التكاليف التي كلف سبحانه خلقه بها.

 

وقد وردت آيات كثيرة تدل على أن أول كلمة قالها كل رسول لقومه هي أمرهم بعبادة الله -تعالى-، ونهيهم عن عبادة أحد سواه؛ فهذا نوح -عليه السلام- يقول لقومه كما حكى القرآن عنه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[الأعراف: 59]، وهذا هود -عليه السلام- يقول لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[الأعراف: 65]، وهذا صالح -عليه السلام- يقول لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[الأعراف: 73]، وهذا شعيب -عليه السلام- يقول لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[الأعراف: 85].

 

فهذه الجملة الكريمة خبر لما وجهه هؤلاء الأنبياء لقومهم من إرشادات وهدايات، أي: قالوا لهم بكل لطف وأدب: اعبدوا الله وحده لا شريك له، فإنه هو المستحق للعبادة، أما سواه فلا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.

 

ويقص القرآن الكريم هذا المعنى على لسان كل نبي فيقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25] أي: وما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول آخر، إلا وأفهمناه عن طريق وحينا، أنه لا إله يستحق العبادة والطاعة إلا أنا، فعليه أن يأمر قومه بذلك، وأن ينهاهم عن عبادة غيري.

 

ثالثاً: وحدة طريق الدعوة:

فمن أغراض القصة الخطابية: التأكيد على أن طريق الأنبياء في الدعوة واحد، وأن استقبال قومهم لهم متشابه، فضلا على أن الدين من عند إله واحد، وأنه قائم على أساس واحد، فإن الابتلاء الواقع عليهم جميعاً واحد، فما من رسول ولا نبي ولا داعية ولا مصلح إلا وتعرض للابتلاء من قومه بالتكذيب أو السخرية والاستهزاء، وتبعا لهذا كانت ترد قصص كثير من الأنبياء مجتمعة أيضا، مكررة فيها طريقة الدعوة، على نحو ما جاء في سورة الأعراف وهود والشعراء، الرسل يأتون بالتوحيد والأقوام تقابلهم بالتكذيب والسخرية والازدراء، ومع الإصرار على السير قدماً في طريق الدعوة يبدأ التهديد والوعيد، ثم المفاصلة، ثم المواجهة، ثم نجاة المؤمنين، وهلاك الكافرين المكذبين.

 

رابعاً: حتمية الانتصار:

من أهم أغراض القصة الخطابية: بيان أن الله ينصر أنبياءه في النهاية، ويهلك المكذبين، وذلك تثبيتا لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وتأثيرا في نفوس من يدعوهم إلى الإيمان؛ كما قال تعالى: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هود: 120].

 

وتبعا لهذا الغرض كانت ترد قصص الأنبياء مجتمعة، مختومة بمصارع من كذبوهم.

 

ويتكرر بهذا عرض القصص كما جاء في سورة "العنكبوت" مثلاً، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 14 - 16].

 

ثم تذكر السورة قصة لوط وعاقبة من كذبوه: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ)[العنكبوت: 28] إلى أن قوله: (إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * لَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[العنكبوت: 34 - 35].

 

وقصة شعيب: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)[العنكبوت: 36 - 37].

 

وقصة عاد وثمود: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)[العنكبوت: 38].

 

ثم قصة َالفراعين: (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ)[العنكبوت: 39].

 

ثم جاءت الآية المرعبة المخوفة لكل طاغية على مر العصور: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت: 40]، وتلك هي النهاية الواحدة للمكذبين.

 

خامساً: التحذير من مكائد الشيطان:

فمن أغراض القصة الخطابية: تنبيه أبناء آدم إلى غواية الشيطان، وإبراز العداوة الخالدة بينه وبينهم منذ أبيهم آدم -عليه السلام-, وإبراز هذه العداوة عن طريق القصة أروع وأقوى, وأدعى إلى الحذر الشديد من كل هاجس في النفس تدعو إلى الشر، وإسنادها إلى هذا العدو الذي لا يريد بالناس الخير، ولما كان هذا موضوعا خالداً، فقد تكرر خبر إغواء الشيطان لآدم -عليه السلام- في مواضع كثيرة من كتاب الله.

 

ثم أفاض القرآن بعد ذلك في ذكر مكائد الشيطان وإغوائه وأساليبه في إضلال بني آدم، تارة بالتخويف: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ)[آل عمران: 175]، وتارة بالتزيين: (لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)[الحجر: 39]، وتارة بالاستدراج: (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)[البقرة: 168]، وتارة بالكذب: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)[الأعراف: 21].

 

سادساً: التثبيت:

فمن أهم أغراض القصة الخطابية: تثبيت المؤمنين والسائرين على درب الهداية وطريق الدعوة، وهم أحوج الناس إلى هذا الثبات لكثرة ما يلاقونه من تكذيب وإعراض وإنكار، وهذا ظاهر من القصص القرآني تحديداً، فمن أهم أهداف القصة في القرآن الكريم: تثبيت فؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وتسليته عما أصابه من قومه وتبشيره صلى الله عليه وسلم بأن العاقبة الطيبة ستكون له ولأصحابه.

 

أما تثبيت فؤاده عن طريق قصص الأنبياء السابقين، فنراه في آيات كثيرة؛ منها: قوله تعالى: (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هود: 120].

 

وقد جاءت هذه الآية الكريمة في أواخر سورة من سور القرآن الكريم الزاخرة بقصص الأنبياء مع أقوامهم وهي سورة هود -عليه السلام-، فقد اشتملت هذه السورة على قصة نوح مع قومه، وقصة هود مع قومه، وقصة صالح ولوط وشعيب مع أقوامهم، وقصة إبراهيم مع الملائكة الذين جاؤوا يبشرونه بابنه إسحاق، كما اشتملت على جانب من قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون وملائه، والمعنى: وكل نبأ من أنباء الرسل الكرام السابقين نقصه عليك أيها الرسول الكريم ونخبرك عنه: المقصود به تثبيت قلبك، وتقوية يقينك، وتسلية نفسك ونفوس أصحابك، عما لحقكم من أذى في سبيل تبليغ دعوة الحق إلى الناس.

 

وأما التسلية عن طريق قصص الأنبياء السابقين، والتسرية عن قلبه صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الاقتداء بهم في صبرهم؛ فكل ذلك نراه في آيات كثيرة؛ منها: قوله سبحانه: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات: 52 - 55].

 

وقد جاءت هذه الآيات بعد حديث مركز عن جانب من قصة إبراهيم وموسى وهود وصالح ونوح -عليهم الصلاة والسلام-. والمعنى نحن نخبرك يا محمد بأنه ما أتى الأقوام الذين قبل قومك من نبي أو رسول، يدعوهم إلى عبادتنا وطاعتنا، إلا وقالوا له كما قال قومك في شأنك هذا الذي يدعي الرسالة أو النبوة ساحر أو مجنون.

والمقصود بالآية الكريمة: تسلية النبي -صلى الله عليه وسلم- عما أصابه من مشركي قريش، إذ بين له سبحانه أن ما أصابه قد أصاب الرسل من قبله، والمصيبة إذا عمت خفت.

ثم أضاف سبحانه إلى هذه التسلية تسلية أخرى فقال: (أَتَوَاصَوْا بِهِ)؟ أي: أوصى السابقون اللاحقين أن يقولوا لكل رسول يأتيهم من ربهم، أنت أيها الرسول ساحر أو مجنون!

ثم تسلية ثالثة نراها في قوله تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ) أي: فأعرض عنهم أيها الرسول الكريم وسر في طريقك دون مبالاة بمكرهم وسفاهتهم، فما أنت بملوم على الإعراض عنهم، وما أنت بمعاقب منا على ترك مجادلتهم.

 

سابعاً: الاعتبار والاتعاظ:

وهو الغرض الخطابي الأبرز من القصص في التشريع، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111]، وهذه الآية الكريمة هي الآية الأخيرة التي ختم الله -تعالى- بها سورة يوسف -عليه السلام- التي اشتملت على أحسن القصص وأحكمه وأصدقه وأشده أثرا في النفوس.

والمعنى: لقد كان في قصص أولئك الأنبياء الكرام، وما جرى لهم من أقوامهم عبرة وعظة لأصحاب العقول السليمة، والأفكار القويمة، بسبب ما اشتمل عليه هذا القصص من حكم وآداب وإرشادات.

وما كان هذا الذي قصصناه حديثا مختلقا أو كاذبا، وإنما هو حديث لحمته وسداه الصدق الذي لا يحوم حوله الكذب، والتأييد لما صح من الكتب السابقة التي امتدت إليها أيدي الفاسقين بالتحريف والتبديل، والتفصيل والتوضيح للشرائع السابقة، والهداية والرحمة لقوم يؤمنون به، ويعملون بما فيه من أمر أو نهي.

 

والعبر والعظات التي نأخذها من قصص القرآن الكريم لها صور شتى؛ منها: بيان حسن عاقبة المؤمنين الذين ثبتوا على الحق، وابتعدوا عن الباطل، وتابوا إلى الله -تعالى- توبة صادقة، وشكروا الله -تعالى- على نعمه، بأن استعملوها فيما يرضيه لا فيما يسخطه.

 

ونرى نماذج لذلك في قصة سليمان -عليه السلام- الذي آتاه الله -تعالى- ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فلم يبطره هذا الملك، ولم يشغله عن ذكر الله -تعالى- بل قال كما حكى القرآن عنه: (هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ)[النمل: 40].

 

ونرى نماذج لذلك في قصة ذي القرنين الذي مكن الله -تعالى- له في الأرض، فاستعمل ما آتاه الله من قوة في الخير لا في الشر، وفي الإصلاح لا في الإفساد.

 

ونرى نماذج لذلك في قصة أصحاب الكهف الذين آمنوا بربهم وزادهم الله -تعالى- إيمانا على إيمانهم، بسبب ثباتهم على الحق.

 

نرى نماذج لذلك في قصة قوم يونس -عليه السلام- الذين استجابوا لدعوة الحق، وصدقوا نبيهم فيما أخبرهم به، وأخلصوا دينهم لله -تعالى-: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[يونس: 98]، والمعنى: فهلا عاد المكذبون إلى رشدهم وصوابهم، فآمنوا بالحق الذي جاءتهم به رسلهم، فنجوا بذلك من العذاب، كما نجا منه قوم يونس -عليه السلام- بسبب ندمهم على ما فرط منهم، وإيمانهم إيمانا صادقا، وتوبتهم توبة نصوحاً، فعاشوا آمنين إلى حين انقضاء آجالهم في هذه الدنيا؟

 

فعلى الخطيب: أن يحسن توظيف القصة في خطبته بحيث تحقق أغراضها الخطابية السالف ذكرها، ولا يجعل مقام القصة في الخطبة كمقام القصاصين والوعاظ قديماً الذين كانوا يقصون القصص على مسامع الناس بلا أدنى هدف سوى انتزاع الآهات، والتمايل يمنة ويسرة من طرب الأخبار، أو الاستكثار من الجمهور.

كما يجب عليهم: اجتناب القصص الواهية، والأخبار المكذوبة، خاصة تلك التي تتحدث عن بني إسرائيل، فأخبارهم لا تصدق ولا تكذب إنما تروى للاعتبار، والإسناد لما صح من قصص وأخبار.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات