خطبة الجمعة.. وسيلة إعلام مهمة

حفيظ الرحمن الأعظمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: تأصيل الوعي

اقتباس

فعلى الخطيب عند وضع منهجه أن يراعي اشتماله على الفهم والأخلاق والتربية والإدارة ومحاربة الفساد وما شابه ذلك، فإن هذا سيمهد له الطريق تمهيداً جيداً عند حديثه مع المخاطبين عن...

يسوء المسلم الذي يحمل في نفسه حرقة للمسلمين وغيرة عليهم وعلى كرامتهم أن يجد منابر الجمعة منطلقاً للتشهير والتنفيس وتصفية الحسابات أو اللعب بعواطف الناس ضد الأنظمة والخروج عليها لكي يسود البلاد الإسلامية الآمنة الاضطراب والفساد، كما يسوؤه أيضاً أن تكون خطبة الجمعة بلا روح أو معنى، تتجلى هذه الحقيقة من خلال توجّه الناس إلى المساجد قبل موعد إقامة الصلاة بقليل؛ لأنهم لا يجدون في خطبة الجمعة إلا كلاماً إنشائياً ملّت منه الأسماع!

 

يقال: إن اليهود يتحكمون في العالم من خلال استغلالهم لبعض المجالات، من أبرزها وأجلاها الإعلام، وأجدني أصبت كبد الحق إن قلت: إن لدى المسلمين ما هو أجدى وأنفع وأخطر مما لدى اليهود، وهي خطبة الجمعة، التي إن وظفت توظيفاً صحيحاً سيكون لها أثر كبير. لذلك أحببت أن أشير إشارة سريعة إلى المواصفات التي يجب أن تتحلى بها خطبة الجمعة المنشودة، وأود التنويه إلى بعض الحقائق المهمة، وهي:

إن الجمعة يحضرها عامة الناس على اختلاف عقولهم وظروفهم وبيئاتهم، كما أن وقتها محدود، فلا بد أن يكون الخطاب فيها بسيطاً واضحاً مختصراً مفيداً، لا مُعَقَّداً غامضاً مطولاً مشتتاً.

 

إن السياسة في الإسلام لا تعني فقط الحديث عن تصرفات المسؤولين والحكام ومواقفهم، وإنما معناها أشمل من ذلك؛ إنها تعني أن تسوس الناس وتدير كل شؤون حياتهم بنظام الإسلام، لتأخذ بأيديهم إلى حسن إعمار الدنيا، كما طلب منهم ذلك ربهم، فيسعدون فيها ثم يسعدون بالثواب العظيم الذي ينتظرهم في الآخرة.

 

وبناء على هذا الفهم الأوسع للسياسة، فإن تفهيم الناس نظم الإسلام الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والعلمية والتجارية والصحية والرياضية والفنية وغيرها، هو من السياسة؛ لأنه لا يمكن إدارة أفراد وسياستهم بنظام لا يفهمونه أو لا يحبونه، وإلا انقلبوا عليه يوماً ما، فيتعسون في الدنيا ثم في الآخرة.

 

وتربيتهم على التمسك بأخلاق الإسلام كالصدق والأمانة والعدل والتعاون وغيرها من السياسة؛ لأنه لا يمكن إحسان إدارة أفراد بينهم غش وخداع وأنانية وحقد وظلم وغيره، إنهم بهذه الصفات ستصعب أو ستستحيل قيادتهم.

 

وحثهم على التخصص في مجالات الحياة المختلفة، وتدربيهم على كيفية إدارة مؤسساتها بأسلوب الإسلام، أيضاً من السياسة؛ لأن كل مسؤول في موقعه ما هو إلا جزء من نظام الحكم.

 

وإرشادهم لأساليب الفساد ليجتنبوها هو جزء مهم من السياسة، من أجل حفظ حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم، الأمر الذي سيؤدي إلى دولة إسلامية آمنة مستقرة.. وهكذا.

 

فعلى الخطيب عند وضع منهجه أن يراعي اشتماله على الفهم والأخلاق والتربية والإدارة ومحاربة الفساد وما شابه ذلك، فإن هذا سيمهد له الطريق تمهيداً جيداً عند حديثه مع المخاطبين عن أية قضية سياسية بعينها ستحيط بهم.

 

إن منبر الجمعة رغم أهميته ومكانته لم يعد هو المنبر الأساسي لتوصيل دعوة الإسلام للناس، وزيادة وعيهم بحقوقهم وواجباتهم، كما كان في السابق أيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه وصحابته الكرام؛ بل من فضل الله على الإسلام والمسلمين أن لديهم الآن وسائل يومية أسرع وأقوى تأثيراً في الدعوة إلى الله، والدعوة إلى أن يكون نظام إسلامه هو الأعلى الذي يرجع إليه الناس، ليسعدوا به، كالإنترنت والفضائيات، وما يستجد.

 

فعلى خطيب الجمعة أن يراعي وعي الناس وتفتُّحهم الذي تطور سريعاً في السنوات الأخيرة، وأن يراعي -أيضاً- أنه في بعض الأماكن وفي بعض الأوقات، قد تشتد القيود على خطبة الجمعة؛ لأهميتها في توجيه الرأي العام، فليقل فيها ما استطاع حسب ظروفه وإمكاناته، وليتق الله فيها ما استطاع، وليعلم أن الله –سبحانه- يعلمها، ويعلم السر وما يخفى، وسيحاسبه عليها يوم القيامة.

 

أما ما لا يمكنه قوله في خطبة الجمعة، فأمامه عدد كثير من الفرص، وعليه أن يستغل ما استطاع من وسائل الاتصال الحديثة الأخرى.

 

الأهداف والوسائل:

 

خطيب الجمعة عند وضع منهجه عليه أولاً أن يحدد تحديداً دقيقاً هدفه العام منه، حتى لا ينحرف عنه مع الوقت دون أن يشعر، ثم يحدد تحديداً دقيقاً -أيضاً- أهدافه الجزئية المرحلية، وفي أية مدة زمنية يمكن تحقيقها، ثم وسائل تحقيقها، حسبما يتفق مع واقع الناس الذين يخاطبهم، وظروفهم العقلية والثقافية والمالية والاجتماعية وغيرها، ثم يضع الدلائل والمقاييس التي تبين أنها قد تحققت، ثم التقييم بعد انتهاء الفترة الزمنية المحددة، ومعرفة الإيجابيات لتنميتها، والسلبيات لعلاجها وتلافيها.

 

فمثلاً: هدفه العام من المنهج تغيير الناس نحو الإسلام ومواظبتهم عليه دون انحراف، وأن يظلل دولتهم وكل أرضهم نظام الإسلام وحكمه، وأهدافه الجزئية هي تربية فرد مسلم، ثم تكوين أسرة مسلمة والتي بمجموعها سيتكون المجتمع المسلم، ثم إعداد كوادر إسلامية متخصصة لتدير كل مؤسسات الدولة بالإسلام، والتي منها ستخرج الحكومة الإسلامية، والتي بتجمعها مع غيرها من الحكومات الإسلامية حولها سيتكون وطن إسلامي له إدارته الممثلة في الخلافة والخليفة.

 

ولذا، فيمكنه إما أن يجعل مثلاً خطب الشهر الأول من الخطة للأخلاق، والشهر الثاني لأنظمة الإسلام، والشهر الثالث للإدارة، والرابع لمحاربة الفساد.. وهكذا، ثم تدور الدورة، مع الاهتمام بالمستجدات من الأحداث وعدم إغفالها.

 

وحبذا لو أمكن إنشاء جمعية خيرية، أو مدرسة، أو دار للأيتام، أو لجنة لجمع الزكاة وتوزيعها، أو نحو ذلك من الأنشطة العامة النافعة، لتكون نماذج يتربى فيها الناس عمليّاً على أخلاق الإسلام، ويقتدون بها في كل حياتهم.

 

علاوة على ذلك يحتاج خطيب الجمعة إلى بعض المراجع المبسطة في الأخلاق، وفي وسائل التربية، وفي العلاقات الأسرية، وفي التعامل بين الرجال والنساء عموماً، وفي تربية الأبناء، وفي نظم الإسلام وفكره، وفي الإدارة، وفي تاريخ الخلفاء الراشدين الذين أداروا دولتهم بنظام الإسلام ليقتدي بهم كل مسؤول في قوتهم ورحمتهم وعدلهم.

 

دور مهم:

 

وأخيراً: أود أن أشير إلى أن دور الخطيب الفاهم الواعي بقضايا أمته مهم جداً ومحوري، في الإصلاح عامةً، والإصلاح السياسي خاصةً، وأن كثيراً من حركات الإصلاح السياسي والاجتماعي والتحرر الوطني، قد انطلقت من فوق منابر المساجد، مدفوعة بخطب مؤثرة استطاعت تحريك العقول وامتلاك القلوب، فأدت إلى إيقاظ الوعي المخدر لدى الحاكم والمحكوم على السواء، ذلك لأن من ألقوا هذه الخطب علموا ما يقال وما لا يقال، والوقت والمكان المناسبَيْن للقول، وكذلك مَن هم مؤهلين لسماع أقوالهم، ومن ليسوا بمؤهَّلين، اتباعاً للحكمة القائلة: "ليس كل ما يُعرف يُقَال، وليس كل ما يُقَال حضر وقته، وليس كل ما يقال حضر أهله". فأنت يا أخي الخطيب، على ثغر مهم من ثغور الإسلام، فليرَ الله منك خيراً.

 

نصيحة وهمسة:

 

وقبل أن نفترق لدي نصيحة وهمسة أهمس بها في أذني الخطيب:

 

أما النصيحة: أن يجعل من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرة صحابته الكرام، وخلفائه، وكذلك أحداث التاريخ القديم والحديث، زاداً له يعينه على منهج الإسقاط السياسي الذي يريده، فذلك يكسب حديثه صدقاً وموضوعية وواقعية، ويجنبه الاتهام بالسفسطة والادعاء وتجاوز الحدود.

 

وأما الهمسة: التي أحب أن أهمس له بها، فهي: أنه من الأهمية بمكان أن ينتقي ألفاظه وتعبيراته عند الحديث في أمور السياسة والحكم، فلا يغمز ولا يلمز، ولا يسُب ولا يشهِّر ولا يفحُش، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:" ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحش ولا البذيء"( رواه أحمد وغيره بسند صحيح).

 

بل يجعل نقده موضوعيّاً بعيداً عن الذوات والأشخاص، حتى يكسب احترام الناس وتعاطفهم مع ما يقول، ولا تجرّه حماسة الجماهير التي تستمع إليه إلى أن يتخطى حدود الأدب والشرع، وقد كان هذا منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما كان يرى في أحد شيئاً أو أمراً يكرهه يقول ما معناه: "ما بال أقوام... "، من دون تحديد المقصود بالتحذير، وغالباً ما يحب الناس سماع ألفاظ التعدي والتشهير، رغبة في التنفيس عن بعض الكبت الذي يشعرون به، فيجدون من خلال هذا متنفساً لمشاعرهم المكبوتة، ولكن ما كان الإسلام دين غوغائية وتفلت وتعدٍّ، بل هو دين الأدب والأخلاق والموضوعية.

 

فليحذر الخطيب من الانسياق وراء شهوة اللسان، بحثاً عن بطولة زائفة، بل يجعل نيته لله عز وجل، حتى يكون لكلامه الأثر الذي يريده في الإصلاح.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات