أركان خطبة الجمعة (3- 5)

عبد العزيز بن محمد بن عبد الله الحجيلان

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: أحكام الخطبة

اقتباس

اختلف الفقهاء في اشتمال خطبة الجمعة على الموعظة هل هو ركن من أركانها، أم لا؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنها ركن، فلا بد من اشتمالها على الموعظة، ولا يتعين لفظ الوصية بتقوى الله -تعالى- بل...

الركن الثالث من أركان الخطبة: الموعظة:

اختلف الفقهاء في اشتمال خطبة الجمعة على الموعظة هل هو ركن من أركانها، أم لا؟ على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنها ركن، فلا بد من اشتمالها على الموعظة، ولا يتعين لفظ الوصية بتقوى الله -تعالى- بل يقوم مقامه أي وعظ كان، ولا يكفي ذم الدنيا والتحذير من الاغترار بها، وبهذا قال الإمام الشافعي وجمهور أصحابه(1)، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الميل إلى ذلك، حيث جاء في الاختيارات: "ولا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت، بل لا بد من مسمى الخطبة عرفا... وأما الأمر بتقوى الله فالواجب إما معنى ذلك، وهو الأشبه من أن يقال الواجب لفظ التقوى"(2)، كما اختاره ابن سعدي كما تقدم(3).

 

القول الثاني: أنها ركن فلا بد من اشتمالها على الموعظة، وتحين في ذلك لفظ الوصية بتقوى الله -تعالى-، وبهذا قال الشافعية في وجه عندهم(4) لكن قال عنه النووي: "وهذا ضعيف أو باطل"(5)، وهو المذهب عند الحنابلة، وعليه أكثرهم، وقطع به كثير منهم(6).

 

القول الثالث: أنها سنة، وبهذا قال الحنفية(7) والمالكية (8).

 

الأدلة:

أدلة أصحاب القول الأول:

أولا: استدلوا على الركنية بأدلة من السنة، والمعقول:

فمن السنة: ما جاء في حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- خطبتان، يجلس بينهما، يقرأ القرآن، ويذكِّر الناس"(9) (10).

فالشاهد من الحديث قوله: "ويذكِّر الناس".

قال النووي: "فيه دليل للشافعي في أنه يشترط في الخطبة الوعظ والقرآن"(11).

 

مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن هذا مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، بل على الاستحباب، وأن لفظ: (كان...) لا يدل على المداومة، وإن دل عليها فإنها لا تدل على الوجوب كما تقدم(12).

ومن المعقول: أن المقصود من خطبة الجمعة الموعظة، فلا يجوز الإخلال بها(13).

 

ثانيا: واستدلوا على عدم تعين لفظ الوصية بتقوى الله -تعالى- بما يلي:

أن الغرض هو الوعظ والحمل على طاعة الله -تعالى- فيكفي ما دل على الموعظة طويلا كان أو قصيرا، كأطيعوا الله وراقبوه، ولا يتعين لفظ التقوى(14).

 

ثالثا: واستدلوا على أنه لا يكفي في الوعظ ذم الدنيا والتحذير من الاغترار بها بما يلي:

أن ذلك قد يتواصى به منكرو الشرائع والبعث، فلا بد من الحمل على طاعة الله، والمنع من معصيته(15).

أدلة أصحاب القول الثاني:

أولا: استدلوا على الركنية بما استدل به أصحاب القول الأول.

ثانيا: استدلوا على تعين الوصية بتقوى الله -تعالى- بأدلة من الكتاب، والمعقول.

 

فمن الكتاب:

قول الله -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)الآية(16).

وجه الدلالة: أن الموعظة جاءت في هذه الآية بلفظ التقوى، فيتعين هذا اللفظ في خطبة الجمعة(17).

 

مناقشة هذا الدليل:

يناقش بأنه غير ظاهر الدلالة، فلا ارتباط بين لفظ التقوى في هذه الآية وبين تعينه في خطبة الجمعة -والله أعلم-.

 

ومن المعقول: أن لفظ التقوى يتعين في خطبة الجمعة كلفظ الحمد، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(18).

 

مناقشة هذا الدليل:

يناقش من وجهين:

الوجه الأول: أن تعين لفظ الحمد والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة محل خلاف، فمن الفقهاء من يقول: لا يتعين(19).

الوجه الثاني: على القول بتعين لفظ الحمد والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد نوقش بأن لفظ الحمد والصلاة تعبدنا به في مواضع، وأما لفظ الوصية فلم يرد نص بالأمر به ولا بتعينه(20).

دليل أصحاب القول الثالث: أن المطلوب للجمعة هو الخطبة، واسم الخطبة يقع على الكلام المجتمع أو الوصف وإن لم يشتمل على الموعظة، فلا تكون ركنا يجب الإتيان به(21).

مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه وإن كان ذلك خطبة إلا أن لها مقصدا، لا بد أن تحققه، وهو هنا الوعظ، فإذا لم تحقق مقصدها لم تكن الخطبة المطلوبة.

 

الترجيح:

الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة -والله أعلم بالصواب- هو القول الأول القائل بأن الوعظ ركن في خطبة الجمعة يجب الإتيان به، ولكن لا يتعين لفظ الوصية بتقوى الله -تعالى- بل يتحقق بما يفيد الموعظة بحسب الحال وحاجة المخاطبين ومصلحتهم، وهذا باب واسع، لما استدل به أصحاب هذا القول، ولأن هذا هو منهج النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان مدار خطبته على حمد الله، والثناء عليه بآلائه، وأوصاف كماله ومحامده، وتعليم قواعد الإسلام، وذكر الجنة والنار والمعاد، والأمر بتقوى الله، وتبيين موارد غضبه ومواقع رضاه، فعلى هذا كان مدار خطبه... وكان يخطب كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم"(22).

وكلام ابن القيم هذا يدل على أن الضابط في الوعظ هو كل ما يدعو إلى رضوان الله وجنته من الاستقامة على دينه والتمسك بشريعته في العبادات والمعاملات والقضايا الاجتماعية ونحوها، ويحذر من موارد سخطه وعقابه، في كل وقت بما يناسبه ويناسب حال السامعين -والله أعلم-.

__________________________

(1) ينظر: الحاوي 3/57 - 58، والوجيز 1/64، والمجموع 4/519، وروضة الطالبين 2/25، ومغني المحتاج 1/285.

(2) الاختيارات ص (79 - 80).

(3) ص (109).

(4) ينظر: المجموع 4/519 - 520، وروضة الطالبين 2/25، ومغني المحتاج 1/285.

(5) ينظر: المجموع 4/520.

(6) ينظر: الهداية لأبي الخطاب 1/52، وشرح الزركشي 2/177 - 178، والفروع 2/109 - 110، والمحرر 1/147، والإنصاف 2/388، والمبدع 2/158.

(7) ينظر: الفتاوى الهندية 1/147، ومراقي الفلاح ص (103).

(8) ينظر: الإشراف 1/132.

(9) مسلم الجمعة (862)، النسائي الجمعة (1417)، أبو داود الصلاة (1093)، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1106)، أحمد (5/100)، الدارمي الصلاة (1559).

(10) تقدم تخريجه ص (32).

(11) ينظر: شرح صحيح مسلم 6/150، وقد استدل به على ذلك أيضا الشيرازي في المهذب 4/516، والزركشي في شرح الخرقي 2/177.

(12) ص (114 - 115).

(13) ينظر: المهذب مع المجموع 4/516، ومغني المحتاج 1/285، وشرح الزركشي 2/177، والمبدع 2/158، وكشاف القناع 2/32.

(14) ينظر: مغني المحتاج 1/285.

(15) ينظر المرجع السابق، والمجموع 4/520.

(16) سورة النساء، جزء من الآية رقم (131).

(17) هكذا جاء في الاختيارات الاستدلال بهذه الآية ص (80).

(18) ينظر: المجموع 4/520، ومغني المحتاج 1/285.

(19) ينظر: المجموع 4/519.

(20) ينظر المرجع السابق 4/520.

(21) ينظر: الإشراف 1/132.

(22) ينظر: زاد المعاد 1/188.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات