معركة الدونونية: عودة الروح إلى الأندلس الجريح

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

وقد غنم المسلمون في هذه المعركة ما يزيد على مائة ألف رأس من البقر وقرابة أربعة عشر ألف رأس من الأحصنة والبغال والحمير وعدداً لا يحصى من الغنم حتى قيل إن الشاة بيعت بالجزيرة الخضراء بدرهم بالإضافة إلى الدروع والسيوف والتروس. وقد أمر المنصور بقطع رؤوس القتلى وتجميعها فكانت كما نقل المؤرخون كالجبل العظيم، وصعد عليها المؤذنون، وأذنوا للصلاة من فوقها، وقطع المنصور رأس دون نونيو وأرسله هدية لابن الأحمر لئلا يبقى في قلبه موضع لهيبة وخوف من القشتاليين.

 

 

 

شهد التاريخ الإسلامي على مر قرونه الخمسة عشر الكثير من المشاهد والوقائع الكبرى التي تصادمت فيها الأمة الإسلامية مع خصومها من الأمم الكافرة من أهل الكتاب والمشركين، مشاهد بلغت حداً فائقاً من الروعة والعظمة تجلت فيها أعلى قيم الإسلام ومعالمه. بعض هذه المشاهد كان أقرب للأساطير المعجزة التي لا يمكن قبولها عقلاً بمقاييس الزمان، كانت فيها جيوش أعداء المسلمين أضعاف أضعاف جيش المسلمين؛ عدة وعتاداً، ومع ذلك كانت الغلبة للمسلمين، وبصورة باهرة جعلت التاريخ يقف عندها مشدوهاً من روعة الانتصار وجسامة الإنجاز. هذه الانتصارات لم تكن فقط في أوقات سيادة المسلمين وعزهم وسلطانهم وسطوع نجم دولتهم، ولكن أيضاً في أوقات التراجع الحضاري والضعف والتفرق، مما جعل أعداء الأمة الإسلامية على يقين باستحالة الانتصار عليها في ميادين القتال المفتوحة والخالية من المكر والخداع والمؤامرات. ومعركة (الدونونية) واحدة من هذا النوع من الانتصارات التي سطرها التاريخ بأحرف من نور، وتاركة ورائها العديد من الدروس والعبر في كيفية الانتصار.

 

 

الأندلس بعد هزيمة (العقاب):  

كانت معركة  (العقاب)  سنة 609 هـ بين الأسبان ودولة الموحدين في الأندلس من المعارك الفاصلة والحاسمة في تاريخ الوجود الإسلامي في الأندلس، فقد انهزم الموحدون فيها هزيمة ساحقة أدت لتفكك دولتهم وانهيارها سريعاً، وانقضت الممالك الإسبانية على الأندلس  تنهش مدنها و حصونها الواحدة تلو الأخرى، وثارت الأحقاد العنصرية بين المسلمين مرة أخرى، فقر قرار أهل الأندلس على ضرورة التخلص نهائياً من حكم الموحدين و محاربتهم، فانتهزت الممالك الإسبانية الفرصة وراحت تصب الزيت على نار الصراع المشتعل بين هؤلاء وأولئك، وقد قاد محمد بن يوسف بن هود حرباً لا هوادة فيها ضد الموحدين ثم كان أن نازعه في زعامة الأندلس بعد أفول نجم الموحدين بها محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر، وتقرب الزعيمان الجديدان للأندلس من الإسبان كل منهما يطلب الحظوة لديهم ويستنصرهم على إخوانه فتهاوت مدن الأندلس نتيجة لخلافهما وسوء صنيعهما، و سقطت قرطبة عام 1236 و إشبيلية عام 1248 و عدد كبير من الحصون، وانكمشت رقعة الأندلس المسلمة فانحاز المسلمون إلى الجنوب واتخذوا من غرناطة عاصمة لدولتهم.

 

هذا الأمر يكشف عاقبة الخذلان والتفرق بين المسلمين في وقت الشدة الذي يحتاجون فيه إلى التناصر والتعاضد والتضافر ورص الصفوف، كما قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) [الأنفال:46]، كما يكشف أيضاً عن استغلال أعداء الأمة لهذا الاختلاف ومحاولتهم الدائمة والدءوبة على بث الفرقة بين المسلمين واستغلال ذلك في إيقاع الفتن والاضطرابات لتحقيق مآربهم الخبيثة بتقويض دولة الإسلام بالكلية، كما يكشف عن عاقبة الاستعانة بالكافرين على المؤمنين، وخطورة التكالب على المناصب والزعامات الفارغة في وقت تغرق السفينة بالجميع.

  

غرناطة دولة الإسلام في الأندلس:

فاسأل بلنسيةً ما شأنُ مُرسية***وأينَ شاطبةٌ أمْ أينَ جَيَّانُ ؟!

 

وأين قُرطبة دارُ العلوم فكم***من عالمٍ قد سما فيها له شانُ

 

وأين حْمص وما تحويه من نزهٍ***ونهرهُا العَذبُ فياضٌ وملآنُ

هكذا فقدت الأندلس قواعدها تباعاً كما وصفها الشاعر الأندلسي (أبو البقاء الرندي) في مرثيته الخالدة. فلم يتبق للمسلمين من دولة الإسلام في الأندلس سوى غرناطة وأحوازها فقط.

 

لم يتبق في الأندلس في سنة 646 هـ - 1248م بلاداً إسلامية غير غرناطة وما حولها فقط من القرى والمدن، والتي لا تمثل أكثر من 15 % وهي تضم ثلاث ولايات متحدة هي: ولاية غرناطة، وولاية ملقة، وولاية ألمرية، ثلاث ولايات تقع تحت حكم ابن الأحمر الذي كان يحكمها باسم ملك قشتالة (إسبانيا القديمة) تبعاً لمعاهدة بينهما، بعد أن ساعده في التخلص من خصمه محمد بن هود، وأصبح محمد بن الأحمر منفرداً بحكم غرناطة.

 

أصبحت غرناطة الملاذ الآمن لمن فضل الهجرة من المدن الأخرى التي سقطت بيد الصليبيين، ممن أبت نفوسهم أن يعيشوا (مدجنين) كمواطنين من الدرجة الثالثة تحت حكم قشتالة وأخواتها من الممالك النصرانية. ويوماً بعد يوم أخذت غرناطة في النمو، فازداد سكانها كثرة على كثرة، وجاءها المهاجرون من أقاليم الأندلس كافة يحملون معهم ثروات نجحوا في الهروب بها من أيدي النصارى، فازداد النشاط الاقتصادي وأصبحت غرناطة أندلس مصغرة، ولكنها قويت بفضل الآلام، وجدوا في تلك المدينة التي تظلها الجبال لحمايتها أمنهم، وبرغم حملات قشتالة ونقض عهودها مرة تلو الأخرى إلا أن ابن الأحمر أصبح شوكة في حلق قشتالة، فالمهاجرون إلى غرناطة منحوها قوة نابعة من بغضهم لمن شردهم وفتك بمدنهم. كانت مملكة غرناطة كثافة سكانية عالية؛ الأمر الذي يجعل من دخول جيوش النصارى إليها من الصعوبة بمكان، وقد كان من أسباب هذه الكثافة العالية أنه لما كانت تسقط مدينة من مدن المسلمين في أيدي النصارى فكان النصارى ينتهجون نهجا واحدا، وهو إما القتل أو التشريد والطرد من البلاد. فكان كلما طُرد رجل من بلاده عمق واتجه ناحية الجنوب، فتجمع كل المسلمون الذين سقطت مدنهم في أيدي النصارى في منطقة غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد، فأصبحت ذات كثافة سكانية ضخمة، الأمر يصعب معه دخول قوات النصارى إليها.

 

أما محمد بن الأحمر نفسه فقد اجتمعت فيه صفات أهلته لقيادة غرناطة في هذا الوقت العصيب المضطرب المليء بالفتن، فقد كان محل دهشة العامة والخاصة فهو يلبس الخشن ويؤثر البداوة يباشر أدق الأعمال بنفسه لا يكل ولا يمل، أما في أمور الحكم فالبعض يراه ماكراً إلا أن مكره لم يكن ذو طبيعة خبيثة وضيعة، ويراه البعض مضطرباً فأحياناً يهادن النصارى ومرة أخرى يحاربهم ويفتك بهم، ثم يعود ليعلن طاعته، فقد كانت بوادر خضوعه لأعدائه ليست سوى مظاهر فقط لسياسة محكمة التدبير؛ لتوطيد ملكه وسلطانه، وكلما مر على غرناطة يوم تصبح أقوى مما كانت عليه، وأنشأ حصن الحمراء؛ ليكون شاهداً على حقبة غرناطة تحت حكم بني الأحمر، فتلك المملكة الصغيرة الناشئة تحدت الظروف وبقيت رغم الانحلال والتفكك، ومنحت المسلمين في شتى أصقاع الأندلس أملاً في البقاء والاستمرار، فمع اشتداد عزمها منح ملوك قشتالة بعض السلام والطمأنينة لمواطنيهم المسلمين حتى لا يثوروا أو يتجهوا للمملكة الأخيرة؛ مملكة غرناطة. وقد توفى محمد بن الأحمر في التاسع والعشرين من جمادي الثانية سنة 671هـ – ديسمبر 1272م وقد خلفه في الحكم ابنه أبو عبد الله محمد الملقب بالفقيه؛ لاشتغاله بالعلم أثناء ولاية أبيه، فنظم أمور الملك وثبت أركان الدولة.

 

غدر الصليبيين بغرناطة:

ورغم وجود العديد من الاتفاقيات بين غرناطة وقشتالة على أساس التعاون والتصالح والنصرة بين الفريقين، إلا أنه بين الحين والآخر كان النصارى القشتاليون بقيادة فرناندو الثالث ومن تبعه من ملوك النصارى يخونون العهد مع ابن الأحمر، فكانوا يتهجمون على بعض المدن ويحتلونها، وقد يحاول هو (ابن الأحمر) أن يسترد هذه البلاد فلا يفلح، فلا يجد إلا أن يعاهدهم من جديد على أن يترك لهم حصناً أو حصنين أو مدينة أو مدينتين مقابل أن يتركوه حاكما على بلاد غرناطة باسمهم.

 

هذه سنة تاريخية ماضية، فأعداء الأمة لم يحفظوا عهداً ولا ذمة، يسالمون المسلمين عندما يرون منهم قوة ومنعة، ويديرون لهم ظهر المجن ويسفرون وجه عداوتهم الحقيقي عندما يشعرون بضعف المسلمين ووهنهم، أيضاً هذا الأمر عبرة وعظة لكل كيان يقام على غير تقوى وموافقة للشرع الحنيف، فغرناطة لم تؤسَّس على التقوى، بل أسسها ابن الأحمر على شفا جرف هارٍ، معتمداً على صليبيٍّ لا عهد له ولا أمان (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [البقرة:100]. وقد ظل ابن الأحمر طيلة الفترة من سنة 643 هـ 1245م ومنذ أول معاهدة عقدها مع ملك قشتالة، وحتى سنة 671 هـ 1273م ظل طيلة هذه الفترة في اتفاقيات ومعاهدات.

في هذه الفترة كانت قشتالة أكبر الممالك النصرانية في إسبانيا تحت حكم (ألفونسو العاشر) الملقب بالحكيم والعالم لاهتمامه بالعلم والكتب، وكان أول ملك إسباني يتقن اللغة العربية وآدابها وعلومها وترجم الكثير من الكتب العربية للغة الإسبانية، وكان في نفس الوقت يبحث عن تتويجه إمبراطوراً على المملكة الرومانية القديمة، ومن أجل ذلك شن سلسلة من الهجمات الصليبية على غرناطة من أجل سلب خيراتها لتمويل طموحاته، وأيضاً لينال رضا النصارى ومباركة بابا روما لمشاركته في حرب الاسترداد الصليبية في الأندلس.

 

في سنة 671هـ بدأ حاكم قشتالة الجديد (ألفونسو العاشر) بإعداد العدة؛ لإجلاء المسلمين عن الأندلس، ورغم المعاهدات التي كانت تجمعه بابن الأحمر الذي كان يحكم غرناطة باسمه، فقد بادر إلى نقض عهده ورأى أن الفرصة مواتية لتحقيق ما عجز عنه أجداده من قبله، وقد فوض أمر الحروب وخوض غمار المعارك للقائد دون نونيو دي لارا الذي لم تهزم له راية في حياته قط.

 

استغاثة غرناطة بملوك المغرب:

لما تولَّى محمد الفقيه الأمور في غرناطة نظر إلى حال البلاد فوجد أن قوة المسلمين في بلاد الأندلس لن تستطيع أن تبقى صامدة في مواجهة قوة النصارى، هذا بالإضافة إلى أن ألفونسو العاشر حين مات ابن الأحمر الأول ظن أن البلاد قد تهاوت، فما كان منه إلا أن أسرع بالمخالفة من جديد وبالهجوم على أطراف غرناطة، ما كان -أيضًا- من محمد الفقيه إلا أن استعان بيعقوب المنصور المريني ، وكان أبوه قد وصاه عند موته بالتمسك بعروة أمير المسلمين في المغرب.

 

قد تعوَّدت بلاد الأندلس استيراد النصر من خارجها، كانت هذه مقولة ملموسة طيلة العهود السابقة؛ فلقد ظلت لأكثر من مائتي عام تستورد النصر من خارج أراضيها؛ فمرة من المرابطين، وأخرى من الموحدين، وثالثة كانت من بني مرين وهكذا، فلا تكاد تقوم للمسلمين قائمة في بلاد الأندلس إلا على أكتاف غيرهم من بلاد المغرب العربي وما حولها.

 

ومن الطبيعي ألا يستقيم الأمر لتلك البلاد التي تقوم على أكتاف غيرها أبدًا، وأبدًا لا تستكمل النصر، وأبدًا لا تستحق الحياة، لا يستقيم أبدًا أن تنفق الأموال الضخمة في بناء القصور الضخمة الفارهة في غرناطة؛ مثل قصر الحمراء الذي يُعَدُّ من أعظم قصور الأندلس ليحكم منها ابن الأحمر أو غيره، وهو في هذه المحاصرة من جيوش النصارى، ثم يأتي غيره ومن خارج الأندلس ليدافع عن هذه البلاد وتلك القصور.

 

الدولة المرينيّة ورايات الجهاد:

الدولة المرينية تنسب إلى قبائل بني واسين الزناتية، واستقروا في المناطق الشرقية والجنوب الشرقي من المغرب الأقصى، وبعد معركة العُقاب سنة 609 هـ ومهلك الخليفة محمد الناصر رابع خلفاء الموحدين سنة 610 هـ، تولى الأمر من بعده ابنه يوسف المستنصر، الذي كان لا يزال غلاماً لم يبلغ الحلم‏‏ فضعف نفوذ الموحّدين وضاعت معها الثغور‏‏ وفي سنة 610 هـ / 1213م أقبل بنو مرين على عادتهم ودخلوا المغرب فوجدوا أحواله قد تبدلت، فاغتنموا الفرصة فشرعت القبائل المرينيّة في التوسّع في الريف وفي الغرب، ومع مرور الأيام والحوادث الكبرى في المغرب قامت لهم دولة سنة 643هـ ودخلوا في حروب طاحنة مع فلول الموحدين في المغرب.

 

ثم جاءت سنة 667هـ، وفيها كانت الموقعة الحاسمة بين الدولة المرينية ودولة الموحدين، ففي أواخر هذه السنة سار الخليفة الواثق بالله الموحدي لقتال بني مرين، والتقى الفريقان في وادي غفو بين فاس ومراكش، فانتصر بنو مرين، وقُتل من الموحدين عدد كبير، وكان على رأس القتلى الخليفة الموحدي نفسه، واستولى المرينيون على أموالهم وأسلحتهم، ثم ساروا إلى مراكش، فدخلها يعقوب المنصور المريني بجيشه في التاسع من المحرم سنة 668هـ، وتسمَّى بأمير المسلمين، وبذلك انتهت دولة الموحدين بعد حوالي قرن ونصف من الزمان، وقامت بعدها دولة بني مرين الفتية التي سيطرت على المغرب الأقصى كله في وصف بليغ ليعقوب بن منصور المريني يحدث المؤرخون المعاصرون له أنه كان: صوّاماً قوّاماً، دائم الذكر، كثير الفكر، لا يزال في أكثر نهاره ذاكراً، وفي أكثر ليله قائماً يصلي، مكرماً للصلحاء، كثير الرأفة والحنين على المساكين، متواضعاً في ذات الله لأهل الدين، متوقفاً في سفك الدماء، كريماً جوّاداً، وكان مظفراً، منصور الراية، ميمون النقيبة، لم تهزم له راية قط، ولم يكسر له جيش، ولم يغزو عدواً إلا قهره، ولا لقي جيشاً إلا هزمه ودمّره، ولا قصد بلداً إلا فتحه، وكان خطيباً مفوهاً، يؤثّر في نفوس جنوده، شجاعاً مقداماً يبدأ الحرب بنفسه.

 

وفي تطبيق عملي لإحدى هذه الصفات وحين استعان محمد بن الأحمر الأول بيعقوب بن منصور المريني ممثلاً في دولة بني مرين، ما كان منه إلا أن أعد العدة وعبر مضيق جبل طارق، وأتى لنصرة المسلمين في الأندلس.

 

معركة الدونونية الخالدة:

مرين جنود الله أكبر عصبة***فهم في بني أعصارهم كالمواسم

 

مشنفة أسماعهم لمدائح***مسورة إيمانهم بالصوارم

كانت تلك الأبيات ضمن رسالة أرسلها إلى بني مرين، يناشدهم الغوث والمدد في حربه ضد قشتالة التى تربصت به بعد موت أبيه، وهنا تجلى دور المغرب التاريخي في الدفاع عن الأندلس.

 

وحين توافدت الرسل من بني الأحمر على المنصور المريني تحثه على العبور إلى الأندلس عاوده ذكريات الانتصارات الكبرى التي قام بها المغاربة في عدوة الأندلس، ذكر المرابطين وقائدهم الفذ يوسف بن تاشفين، وذكرى الموحدين وسلطانهم الشهير عبد المؤمن بن علي وأنجاله، وقد أبان عن عبقرية فذة في تجاوز المصاعب التي وقفت في طريق تحقيقه

 لتلك الأمنية العزيزة، إذ راسل خصمه اللدود يغمراسن بن عبد الواد وعقد معه الصلح ليتفرغ للأندلس، فأجابه يغمراسن إلى الصلح، وراسل أبا القاسم العزفي صاحب سبتة ليسهل عبوره نحو الجزيرة الخضراء فأعد له المراكب وأعانه في تجهيز الجيش، وبعد أن أمن المنصور الجبهة الشرقية أمر ولده أبا زيان على خمسة آلاف مقاتل من أنجاد بني مرين ووجهه لنصرة الأندلس، فتوالت انتصاراته بها وحقق المنصور أهدافه من مناورات أبي زيان، فقد ألف قلوب أهل الأندلس بعد تنافرها واختبر صدق استعدادهم للمواجهة، واستدرج عدوه نحو المعركة الفاصلة التي سيتقرر بها مصير التواجد الإسلامي ببلاد الأندلس.

 

فقه النوازل من أهم مفردات الحاكم الناجح، والاتحاد ونبذ الخلافات اللبنة الأولى لأي انتصار على مر التاريخ.

 

بعد أن توالت أنباء انتصارات أبي زيان على أبيه السلطان المنصور قرر اللحاق به، ولما كان يوم الخميس الموافق للحادي والعشرين من شهر صفر من سنة 674هـ / 1276م، يمم المنصور شطر الأندلس وحرص على الاجتماع بابن الأحمر وخصمه السياسي  (ابن شقيلولة) – وهم بالمناسبة أخواله - لعقد الصلح بينهما قبل خوض أي معركة مع العدو فتم الصلح على يديه، وسرت الحماسة في الجند من أثر ذلك، ولم يضيع المنصور الوقت فقد بادر إلى المسير من فوره نحو ثغور خصومه وأغار على القرى التي اعترضت طريقه إلى أن بلغ حصن المقورة بين قرطبة وإشبيلية فبلغ صنيعه مسامع قائد الجيوش القشتالية  (دون نونيو دي لارا) فحشد له جيشاً عظيماً واستعد لحربه.

 

توغل المرينيون بقيادة المنصور أبي يوسف، في أراضي قشتالة التي كانت يوماً ملكاً للمسلمين سار حتى – أبده – بالقرب من قرطبة، ينسف من يقابله ويهزم الجموع ويحصد الغنائم، وما بين النصر والنصر يعلو التكبير والتهليل، روح الجهاد والعزة عادت من جديد، رايات المسلمين رفعت مرة أخرى هناك على مشارف قرطبة، وحينما علم بقدوم جيش الصليبيين عاد متراجعاً ليختار هو أرض المعركة فدخل مدينة إستجة وأمر بجمع الغنائم في الحصن ووضعها تحت حراسة خاصة حتى لا تعيق الرجال عن الجهاد ضد عدوهم الصليبي.

وفي ظهيرة يوم التاسع من سبتمبر عام 1275م – الخامس عشر من ربيع الأول 674هـ التقى الجمعان جنوب غرب قرطبة فوقف أبو يوسف أمام جنده قائلاً: "ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت حورها وأترابها، فبادروا إليها وجِدُّوا في طلبها، وابذلوا النفوس في أثمانها، ألا وإنَّ الجنَّة تحت ظلال السيوف فمَنْ مات منكم مات شهيدًا، ومن عاش رجع إلى أهله سالمًا غانمًا مأجورًا حميدًا، فـ (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) [ال عمران:200]، يقول صاحب الذخيرة السنية: "فلما سمعوا منه هذه المقالة، تاقت أنفسهم للشهادة، وعانق بعضهم بعضاً للوداع، والدموع تنسكب والقلوب لها وجيب وانصداع، وكلهم قد طابت نفسه بالموت". وهكذا استطاع القائد الفذ أن يعوض الفارق الضخم بين الجيشين بأن بث الحماسة الدينية في نفوس المقاتلين، واستخدم أقوى مؤثر في نفوس المسلمين؛ القرآن الكريم.

 

وفي يوم كيوم بدر، وعز كعز الفتوحات الإسلامية الكبرى، التقى الجمعان، وما هي إلا غدوة وروحة حتى مزق المنصور جمع خصومه، وفي ذلك يقول المؤرخ المغربي ابن أبي زرع الفاسي: "ولم يكن إلا كلمح البصر حتى لم يبق السيف من الروم من يرجع لقومه بالخبر، ولم تبق منهم الرماح باقية ولم تق الدروع و المجن عنهم واقية "، وخسـر القشتاليون الصليبيين 18 ألف جندي، ووقع منهم في الأسر سبعة آلاف وثمانمائة، وكان دون نونيو نفسه من بين قتلى هذه المعركة فكانت خسارة قومه فيه عظيمة، ولذلك سميت المعركة باسمه، تخليداً للهزيمة المروعة.

 

وقد غنم المسلمون في هذه المعركة ما يزيد على مائة ألف رأس من البقر وقرابة أربعة عشر ألف رأس من الأحصنة والبغال والحمير وعدداً لا يحصى من الغنم حتى قيل إن الشاة بيعت بالجزيرة الخضراء بدرهم بالإضافة إلى الدروع والسيوف والتروس. وقد أمر المنصور بقطع رؤوس القتلى وتجميعها فكانت كما نقل المؤرخون كالجبل العظيم، وصعد عليها المؤذنون، وأذنوا للصلاة من فوقها، وقطع المنصور رأس دون نونيو وأرسله هدية لابن الأحمر لئلا يبقى في قلبه موضع لهيبة وخوف من القشتاليين.

وبهؤلاء الرجال الذين أتوا من بلاد المغرب، وبهذه القيادة الربانية، وبهذا العدد الذي لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل حقق المسلمون انتصارًا باهرًا وعظيمًا، وقُتل من النصارى مقتلة عظيمة لم يروا مثلها من عشرات السنين، وما انتصر المسلمون منذ موقعة الأرك في سنة (591هـ= 1195م) كهذا النصر في الدونونية في سنة (674هـ- 1276م).

 

وكان للمعركة تأثير كبير في تاريخ الأندلس الإسلامي، تعتبر يوم من أيام الأندلس المجيدة، إذ أنها أوقفت زحف النصارى في الأراضي الإسلامية وقد أخرت سقوط مملكة غرناطة لمدة تزيد عن قرنين.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات