مآثر الدولة العثمانية

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

منع اليهود من الاستيطان في سيناء، لما فتح السلطان سليم الأول مصر عام (923 هـ - 1517م) أصدر فرمانًا بمنع اليهود من الهجرة إلى سيناء، وأوضح من صدور هذا المرسوم بأن اليهود كانوا يريدون الهجرة إلى هذا الإقليم المصري واستيطانه، على أساس أنه يضم الوادي المقدس طُوى، الذي كلم الله -سبحانه وتعالى- فيه موسى -عليه السلام– تكليماً، ومن ثم أصدر السلطان سليم الأول الفرمان الذي سدَّ الطريق في وجوه اليهود، ولما تولى ابنه سليمان المشرع (القانوني) عرش الدولة عام (926 هـ / 1520م) أصدر فرماناً لاحقاً، أكد فيه ما جاء في الفرمان السابق، مما يدل على أن الخطر اليهودي كان لا يزال ماثلاً من حيث رغبتُهم في استيطان سيناء، واستعمارهم لها، الأمر الذي كان يقلق الدولة العثمانية.

 

 

 

 

عباد الله، موقف في التاريخ يختصر القصة برمتها، ويلخص تاريخ الصراع بين الحق والباطل، في سنة 648 هـ قام لويس التاسع ملك فرنسا بكتابة وصية هامة إثر خروجه من محبسه في دار ابن لقمان بالمنصورة بعد فشل حملته الصليبية السابعة على العالم، هذه الوصية صارت بمثابة الدستور والميثاق الذي سار عليه أعداء الأمة الإسلامية، إذ حددت الهدف الذي يجب أن يركز عليه الأوروبيون في حملاتهم الصليبية على العالم الإسلامي، وجاء في هذه الوصية: "أوصي بني قومي ألا يقاتلوا الكفار -يقصد المسلمين- في ميادين القتال المفتوحة، فنيرانهم حامية ولا يستطيع أحد أن يقوم لهم، والسر وراء قوتهم وصمودهم يرجع إلى تمسكهم بعقيدتهم ودينهم، وإنكم لن تنتصروا عليهم إلا إذا قطعتم العلائق بينهم وبين مصدر قوتهم، وصرفتموهم عن عقيدتهم ودينهم".

 

هذه الوصية تبلورت عبر العصور والتجارب؛ لتصبح حرباً عالميةً عاتيةً على عقيدة الأمة ودينها وتاريخها وحضارتها وثقافتها ولغتها، أو بعبارة أخرى أصبحت حرباً على ثوابت الأمة وتاريخها. واليوم بمشيئة الله -عز وجل- سنعيش مع فصل من فصول هذه الحرب العالمية، مع تاريخ الدولة الإسلامية الأكبر والأعرق في مسيرة الأمة المحمدية، ونعني بها الدولة العثمانية المجاهدة.

 

شركاء المؤامرة على التاريخ العثماني: 

فقد نال التاريخ العثماني الحظ الأوفر من التشويه على يد الأوربيين الذين يحملون قدرًا مهولاً من الحقد والعداء للدولة العثمانية التي أذاقت أوروبا والأوربيين طعم الهزيمة والذل والانكسار لقرون، فصورة الدولة العثمانية في المراجع الأوربية والعربية -على حد السواء- صورة نمطية شديدة السلبية تتجاهل كل فضيلة وتبرز كل نقيصة، فهي في نظر الكثيرين دولة احتلال للعرب وإبادة ودموية وسلب ونهب، كرّست التخلف والجهل، ونهبت خيرات البلاد، وفي نظر الأوربيين دولة إرهاب وغزو وإغارة وطغيان، دولة تسرق الأطفال وتغتصب النساء وتحتل البلاد وتنهب الخيرات. فقد حمل المؤرخون الأوروبيون واليهود والنصارى والعلمانيون الحاقدون على تاريخ الدولة العثمانية، فاستخدموا أساليب الطعن والتشويه والتشكيك فيما قام به العثمانيون خدمة للإسلام والمسلمين، واتبع نهجهم الباطل كثيرون من المؤرخين العرب بشتى انتماءاتهم واتجاهاتهم القومية والعلمانية، وكذلك المؤرخون الأتراك الذين تأثروا بالطرح العلماني والتعصب القومي الذي تزعمه مصطفى كمال، فطبيعي جداً أن يقوموا بإدانة فترة الخلافة العثمانية، فوجدوا فيما كتبه النصارى واليهود ثروةً ضخمةً لدعم تحولهم القومي العلماني في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى.

موقف المؤرخين الأوروبيين السلبي من التاريخ العثماني نتاج تأثره بالفتوحات العظيمة التي حققها العثمانيون، وخصوصاً بعد أن سقطت عاصمة الدولة البيزنطية (القسطنطينية) وحولها العثمانيون دار إسلام وأطلقوا عليها إسلام بول (أي دار الإسلام)، فتأثرت نفوس الأوروبيين بنزعة الحقد والمرارة الموروثة ضد الإسلام فانعكست تلك الأحقاد في كلامهم وأفعالهم وكتاباتهم، بعدما عاشت أوروبا في خوف وفزع وهلع مما سموه الخطر العثماني ولم تهدأ قلوبهم إلا بوفاة السلطان محمد الفاتح وقتها.

أما المؤرخون العرب فقد سار جلهم في ركب القوى المتحاملة والمهاجمة للخلافة العثمانية بدوافع يأتي في مقدمتها إقدام الأتراك بزعامة (مصطفى أتاتورك) على إلغاء الخلافة الإسلامية في عام 1924م، وأعقب ذلك إقدام الحكومة العلمانية التركية على التحول الكامل إلى المنهج العلماني في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على حساب الشريعة الإسلامية التي ظلت سائدة في تركيا منذ قيام الدولة العثمانية. ويأتي سبب التبعية البحثية لمدرسة التاريخ العربي لتاريخ المنهجية الغربية كعامل هام في الاتجاه نحو مهاجمة الخلافة العثمانية، خصوصاً بعد التقاء وجهات النظر بين المؤرخين الأوروبيين والمؤرخين العرب حول تشويه الخلافة الإسلامية العثمانية. ولقد تأثر كثير من المؤرخين العرب بالحضارة الأوروبية المادية، ولذلك عزوْا ما حصل من إصلاحات في الوطن العربي إلى بداية الاحتكاك بالحضارة الغربية، واعتبروا بداية تاريخهم الحديث منذ الحملة الفرنسية على مصر والشام وما أنجزته من تحطيم جدار العزلة بين الشرق والغرب، وما ترتب عليه بعد ذلك من قيام الدولة القومية في عهد محمد علي في مصر، وصحب ذلك اتجاههم؛ لإدانة الدولة العثمانية التي قامت بالدفاع عن عقيدة الشعوب الإسلامية ودينها وإسلامها من الهجمات الوحشية التي قام بها الأوروبيون. فاحتضنت القوى الأوروبية أيضاً الاتجاه المناهض للخلافة الإسلامية وقامت بدعم المؤرخين والمفكرين في مصر والشام على تأصيل الإطار القومي وتعميقه من أمثال البستاني، واليازجي، وجورجي زيدان، وأديب إسحاق، وسليم نقاش، وفرح أنطون، وشبلي شميل، وسلامة موسى، وهنري كورييل، وهليل شفارتز، وغيرهم، ويلاحظ أن معظمهم من النصارى واليهود، كما أنهم في أغلبهم إن لم يكونوا جميعاً من المنتمين إلى الحركة الماسونية التي تغلغلت في الشرق الإسلامي منذ عصر محمد علي، والتي كانت بذورها الأولى مع قدوم نابليون في حملته المشئومة على المشرق.

وأما المؤرخون الأتراك الذين برزوا في فترة الدعوة القومية التركية فقد تحاملوا كثيراً على فترة الخلافة العثمانية سواء لمجاراة الاتجاه السياسي والفكري الذي ساد بلادهم والذي حمّل الفترة السابقة كافة جوانب الضعف والانهيار أو لتأثر الأتراك بالموقف المشين الذي بدت عليه سلطة الخلافة والتي أصبحت شكلية بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909م ، إلى جانب تأثر المفكرين الأتراك بموقف بعض العرب الذين ساندوا الحلفاء الغربيين إبان الحرب الأولى ضد دولة الخلافة وإعلان الثورة عليها سنة 1916م؛ وبرغم تفاوت الأسباب وتباينها إلا أن كثيراً من المؤرخين التقوا على تشويه وتزوير تاريخ الخلافة الإسلامية العثمانية. اعتمد المؤرخون الذين عملوا على تشويه الدولة العثمانية على تزوير الحقائق، والكذب والبهتان والتشكيك والدس. ولقد غلبت على تلك الكتب والدراسات طابع الحقد الأعمى، والدوافع المنحرفة، بعيدة كل البعد عن الأمانة والموضوعية.

 

الوجه الحقيقي للدولة العثمانية:

الدولة العثمانية هي أطول الدول التي قامت عبر تاريخ الإسلام عمراً، توسعت في عمق أوربا غرباً، وزلزلت أركان الممالك المسيحية هنالك وأخضعتها لسلطانها، ولولا المعوقات التي واجهتها من الشيعة الصفويين واضطرار سليم الأول لأن يوقف زحفه غرباً ويتجه شرقاً داخل العالم الإسلامي لدرء خطر الشيعة وثوراتهم على أطراف دولته؛ لمحيت الفكرة الصليبية من أوربا على يدي تلك الدولة، فضلاً عن أنها قامت منذ نشأتها وحتى زوالها على المنهج الإسلامي السني، وكانت نظمها تخضع لأحكامه، حتى قال عنها المؤرخون المنصفون: "أصلحُ الدول بعد الصحابة والتابعين دولتُهم وذلك لانقيادهم للشرع، وتمكنهم من رتبة العبادة كالصلاة والصوم والحج، والجهاد وملازمة الجماعة، واتباع السنة وحسن العقيدة، والشفقة على الأمة، وكشف كل كربة وغمة، وقل أن يوجد جميع ذلك في دولة من الدول السابقة".

 

وبهذه العاطفة الإسلامية المتأججة في نفوسهم ممتزجة بالروح العسكرية المتأصلة في كيانهم، حملوا راية الإسلام، وأقاموا أكبر دولة إسلامية عرفها التاريخ في قرونه المتأخرة، وبقيت الحارس الأمين للعالم الإسلامي أربعة قرون، وأطلقت على دولتهم اسم (بلاد الإسلام) وعلى حاكمها اسم (سلطان) وكان أعز ألقابه إليه (الغازي) أي: المجاهد، وحكمت بالعدل بالعمل بالشرع الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى؛ لتكوين هذه الدولة. حملت الدولة العثمانية منذ أن بزغ فجرها في القرن الثالث عشر للميلاد (1299م ـ 700 هـ )، هموم الأمة الإسلامية كاملة وبأمانة، وسَعَت -مُسخـّرة كافة إمكاناتها- لرعاية مصالح هذه الأمة وتأمين أمنها وراحتها وسلامتها في كل نواحي الحياة وبقوة. فقد حرصت أيضاً على نصرة الإسلام ونشر مبادئه وقيمه في كل بقعة وصل إليها جيشها، وفي جميع أقاليم وبلدان الدولة، وكان سلاطين آل عثمان دائماً في طليعة الجيش عند الحرب والنزال، يقاتلون ببسالة منقطعة النظير، ونذر سلاطين آل عثمان أنفسهم للإسلام، فساروا قدمًا أمام الأمة بصدق وإخلاص مقتدين بنهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- متفانين في حبه.

وإنه لحري أن يسوق المرء بعضاً من مواقف مشهودة لهؤلاء الخلفاء والسلاطين وثّقها المؤرخون بأمانة وصدق، تدل بلا لبس ولا غموض على قوة عقيدتهم وحبهم لله والرسول، منها:

 "السلطان مراد الثاني" يوصي بتوزيع ثلث أملاكه لأعمال البر والخير على أن يكون 3500 قطعة ذهبية منها إلى فقراء مكة المكرمة، و3500 قطعة ذهبية إلى فقراء المدينة المنورة، ووزّعوا 500 قطعة أخرى على الذين يكثرون من تلاوة القرآن الكريم من أهالي مكة المكرمة في حرم بيت الله، وأوصيكم أن توزّعوا 2500 قطعة ذهبية من أملاكي هذه على الذين يكثرون من تلاوة القرآن الكريم في ساحة المسجد الأقصى".

 

"السلطان بايزيد خان ابن السلطان محمد الفاتح" يزور صديقه الذي يحبه في الله "بابا يوسف"؛ لتوديعه قبل ذهابه إلى الحج، ويسلّمه صرّة من الذهب ويقول: "هذا ما رزقني الله به من عرق جبيني، ولقد ادّخرته من أجل صيانة قناديل الروضة المطهرة، عندما تقف في حضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أريد منك أن تقول: يا رسول الله، خادمك الفقير "بايزيد" يقرئك السلام ويقول لك: إنه قد أرسل هذه القطع من الذهب لشراء زيت قناديل الروضة.

"السلطان سليم الأول" يصلي صلاة الجمعة في الجامع الكبير في حلب، فسمع هذه لفظ "حاكم الحرمين" من خطيب الجامع، فهب مسرعاً وهو يقول: "لا، لا، لستُ حاكمًا للحرمين، بل خادمًا لهما"، فيعدّل الخطيب كلامه كما أشار السلطان، وبعد الصلاة يقوم السلطان بتقديم قفطانه هديةً إلى الخطيب وشكرًا له، ويصير من يومها لقب من يشرف على الحرمين "خادم الحرمين" حتى يومنا الحالي.

 
"السلطان عبد الحميد الثاني" في عهده قام بتنفيذ مشاريع في غاية الأهمية، منها إنشاء خط حديد الحجاز، الذي امتد من إسطنبول إلى المدينة المنورة. وكانت الغاية العظيمة من ذلك الدفاع عن الأراضي المقدسة من هجمات العدو، ثم تأمين راحة الحجاج خلال رحلتهم إلى الحرمين الشريفين. وتصدى لمحاولات الصهاينة لاحتلال فلسطين.

 

إنجازات ومآثر الدولة العثمانية: 

أما عن أهم إنجازات الدولة العثمانية، فقد قدمت الدولة العثمانية إنجازات وخدمات كبرى وجليلة للعالم الإسلامي. من أبرزها:

أولاً: الوحدة السياسية: في ظل الخلافة الإسلامية تحقّقت وحدة بلادنا العربية فعلياً لا اسمياً، وصار المقيم في كل ولايات الدولة العثمانية من شرقها إلى غربها يتحرك بكل أريحية ويسير دون شروط أو تعقيدات، وهي الوحدة التي اجتهد الصليبيون والعلمانيون في تمزيقها تحت شعارات القومية سواء القومية العربية أو التركية أو الأمازيغية أو الفينيقية وهكذا.

 

ثانياً: الحماية العسكرية: تصدّت دولة الخلافة بنجاح كبير للحملات الصليبية التي واصلت أوروبا شنّها على بلاد الإسلام بعد هزيمة ممالك الفرنجة في المشرق، فصنعت بذلك التصدي أياماً حاسمةً لحقت بالحروب الأولى وانتصاراتها مثل معركة كوسوفو ومعركة نيكوبوليس وفتح القسطنطينية وفتح قبرص، وتوغّل العثمانيون بسرعة البرق في الداخل الأوروبي ووصلوا أسوار فينا، وتمكّنوا من حماية العالم العربي من الاحتلال أربعة قرون، وصدّوا بكفاءة كبرى الحملات الصليبية الإسبانية والبرتغالية التي انطلقت مسعورة على الشمال الإفريقي والبحر الأحمر والخليج عقب سقوط غرناطة. وساندوا مسلمي الأندلس بعد سقوطها، وأنقذوا الكثيرين منهم عبر الأساطيل العثمانية القوية، والتاريخ يشهد أن البلدان التي كانت تابعة للدولة العثمانية ظلت في مأمن من الاستعمار الصليبي الأوروبي لعدة قرون، في حين أن بلاداً أخرى لم تكن تابعة للعثمانيين، مثل الفلبين وإندونيسيا والهند وبلاد أفريقيا قد وقعت مبكراً فريسة الاحتلال الأوروبي البغيض.

 

ثالثاً: الحماية الاقتصادية: وفرّت دولة الخلافة العثمانية لبلادها، ومنها البلاد العربية، حمايةً اقتصاديةً، وتكاملاً اقتصادياً داخلياً لم نقدّره حق قدره إلا عندما خسرناه لصالح الارتباط باقتصاديات الدول الرأسمالية الكبرى بصفتنا دولاً مجزّأةً وضعيفةً عجزت عن تحقيق ما كفلته الخلافة حتى آخر أيامها، ولا تحتاج إلى الاستيراد من خارج أقاليمها، فالحبوب تزرع في مصر والشام فتكفي جميع الأقاليم، واللحوم والمزارع في السودان والبلقان تكفي الجميع، والثمار والفاكهة في الشام تكفي كل الأقاليم.

 

 رابعاً: حماية العالم الإسلامي من التشيع والشيعة، فالمذهب الرسمي للدولة العثمانية كان المذهب السُّني، واعتبرت الدولة العثمانية نفسها حامية لهذا المذهب، وتأسيسًا على هذه الحقيقة فإنها منعت انتشار المذهب الشيعيّ إلى ولاياتها العربية في آسيا وإفريقيا باستثناء العراق، الذي كانت الدولة الصَّفَوِيَّة قد نشرت المذهب الشيعيّ فيه قبل الدولة العثمانية، ولذلك فإن أهل السنة ينظرون إلى الدولة العثمانية على أنها قدمت خدمة جليلة بحصر المذهب الشيعيّ في فارس، بحيث لم تسمح بتَسَرُّبه إلى الأقاليم العربية التي دخلت تحت السيادة العثمانية، ولا تزال إيران هي المعقل الأول للشيعة في العالم الإسلامي.

 

خامساً: حماية المقدسات الإسلامية من العدوان الصليبي البرتغالي، فقد كانت أعظمَ خدمة أسدتها الدولة العثمانية للإسلام، أنها وقفت في وجه الزحف الصليبيّ الاستعماريّ البرتغاليّ للبحر الأحمر، والأماكن المقدسة الإسلامية، في أوائل القرن السادسَ عَشَرَ الميلادي، فعلى الرغم من أن الدولة أخفقت في طرد الاستعمار البرتغالي من مراكزه في المحيط الهندي ومنطقة الخليج العربي، إلا أنها نجحت في منع تغلغله إلى الحجاز، حيث كان البرتغاليون يعتزمون تنفيذ مخطط صليبي فظٍّ في قسوته ووحشيته، وهو دخول البحر الأحمر واجتياح إقليم الحجاز باحتلال ميناء جدة، ثم الزحف على مكة المكرمة، واقتحام المسجد الحرام، وهدم الكعبة المشرَّفة، ثم موالاة الزحف منها على المدينة المنورة؛ لنَبْش قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم استئناف الزحف على تبوك، ومنها إلى بيت المقدس، والاستيلاء على المسجد الأقصى؛ وبذلك تقع هذه المساجد الثلاثة في أيدي البرتغاليين، وكان الأسطول البرتغاليّ قد نجح في دخول البحر الأحمر، وقام بمحاولتين؛ لاحتلال ميناء جدة، كانت الأولى في عام (923هـ / 1517 م)، والثانية في عام (926هـ / 1520م)، ولكنه أخفق في محاولتيه؛ فأرسل البرتغاليون حملة كبرى إلى ميناء السويس باعتباره قاعدةَ الأسطول العثماني في البحر الأحمر، واستهدفوا تدمير هذه القاعدة، ولما بلغوا الطُّور علموا أن الأسطول العثماني يقف في حالة تأهب، وارتدوا على أعقابهم دون أن يلتحموا به. وقررتِ الدولة اتخاذ اليمن قاعدةً حربية للدفاع عن البحر الأحمر، ومنع السفن البرتغالية من دخوله، ثم عمَّمت هذا المنْع على جميع السفن المسيحيَّة، بحيث كان على هذه السفن أن تفرغ شحناتها في ميناء "المخا" في اليمن، وتعود أَدْرَاجَهَا إلى المحيط الهندي، وكانت حجة الدولة العثمانية في هذا المنع هي أن الأماكن الإسلامية المقدسة في الحجاز تُطِلُّ على مياه البحر الأحمر، ويجب ألا تُدَنِّسَ مياهه بوجود سفن مسيحية تَمْخُر عَباب هذا البحر، وقد ظل هذا الحظر معمولاً به حتى القرن الثامن عشر.

 

وجدير بالذِّكر أن المشروع البرتغالي الصليبي لم يكن الأوَّلَ من نَوْعه، فقد حدث في أثناء الحروب الصليبية في الشرق العربي أن تجرأ أحد أمراء الصليبيين واسمه أرناط، وكان صاحب حصن الكرك، وقام بمشروع خطير سنة (578 هـ، 1182م)؛ لغزو الحرمين الشريفين، فبنى عدة سفن حملت أجزاؤها مفكَّكَةً على ظهور الجمال، حتى "إيله" (العقبة) على خليج العقبة، وأعيد تركيبها، ثم قامت بهجوم على ساحل الحَوْراء قرب ينبع، وأغار الصليبيون على القوافل وأصبحوا على مسيرة يوم واحد من المدينة المنورة، واعتزموا الزحف عليها، ونَبْش قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإخراج جسده الطاهر ونقله إلى بلادهم، غير أن العالم الإسلامي في الشرق وقتذاك كانت تجمعه وَحْدَةٌ سياسية قويَّة على رأسها صلاح الدين الأيوبي، ووجب على مصر حماية الأماكن المقدسة في الحجاز، فما كادت تصل إليه -وهو في الشام- هذه الأخبار، حتى عهد إلى نائبة في مصر العادل سيف الدين بتجهيز قائد الأسطول الأمير حسام الدين لؤلؤ، وتعقب هؤلاء الصليبين في الحجاز، وعمل على إبادتهم أو أَسْرِهم، وأصرَّ صلاح الدين بقتل الأسرى؛ ليكونوا عبرة لكل من يتجرأ على الاعتداء على حَرَم الله وحَرَم رسوله.

 

سادساً: منع اليهود من الاستيطان في سيناء، لما فتح السلطان سليم الأول مصر عام (923 هـ - 1517م) أصدر فرمانًا بمنع اليهود من الهجرة إلى سيناء، وأوضح من صدور هذا المرسوم بأن اليهود كانوا يريدون الهجرة إلى هذا الإقليم المصري واستيطانه، على أساس أنه يضم الوادي المقدس طُوى، الذي كلم الله -سبحانه وتعالى- فيه موسى -عليه السلام– تكليماً، ومن ثم أصدر السلطان سليم الأول الفرمان الذي سدَّ الطريق في وجوه اليهود، ولما تولى ابنه سليمان المشرع (القانوني) عرش الدولة عام (926 هـ / 1520م) أصدر فرماناً لاحقاً، أكد فيه ما جاء في الفرمان السابق، مما يدل على أن الخطر اليهودي كان لا يزال ماثلاً من حيث رغبتهم في استيطان سيناء، واستعمارهم لها، الأمر الذي كان يقلق الدولة العثمانية.

 

سابعاً: الكشوف العلمية والجغرافية المتقدمة، فالعثمانيون هم أول من اكتشف أمريكا ورسموا خرائط للقطب الجنوبي، ففي 26 أغسطس سنة 1956م عقدت في جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأمريكية ندوة حول (خرائط الريّس بيري) قائد الأسطول العثماني في البحر المتوسط والخليج، اتفق كل الجغرافيين المشاركين فيها أن خرائط الريس بيري والتي سبقت كولومبس ورسمت فيها سواحل القارة الأمريكية هي اكتشاف خارق للعادة. من المعروف تاريخياً أن كولومبس اعتمد على خرائط عربية أندلسية وبحارة عرب وحتى على إسطرلاب عربي في رحلته الشهيرة، وكان مساعد كولومبس في تلك الرحلة واسمه (رودريجو) شخصاً رافق الريس بيري في البحر ورافق عم الريس بيري وهو (الريس كمال) لفترة طويلة، ومن المعروف أن البحارة في سفينة كولومبس أعلنوا العصيان وثاروا على كولومبس وأرادوا قتله عندما تأخر اكتشافهم لليابسة ووصولهم لأمريكا فوقف رودريجو حائلاً بينهم وبين كولومبس ودافع عنه قائلاً: "لا بد أن تكون في هذه المياه أرض لأنني تعلمت ذلك في إسطنبول ومن الكتب البحرية العثمانية وأنا واثق أننا لا بد أن نصل إلى الأرض التي نبحث عنها، ذلك لأن البحارة العثمانيين لا يقدمون معلومات خاطئة وهم لا يكذبون"، وبعد ثلاثة أيام من حديثه هذا وصلوا إلى اليابسة.

 

كما اكتشف الشيخ آق شمس الدين شيخ السلطان محمد الفاتح الجراثيم والميكروبات، كما كان العالم "أحمد جلبي هزار" أول من صمم جهازاً للطيران في عهد السلطان مراد الرابع. كما تم إنشاء أول جامعة للطب عند العثمانيين في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي سموها (دار الطب) ثم تم إنشاء المجمع الطبي في القرن الخامس عشر ومن رواده شرف الدين الصابوني الأماسي العالم في الأدوات الجراحية والمطور لها. وداود الأنطاكي صاحب الدراسات عن المخ والكتاب الشهير حول الأدوية الطبيعية. وأخي جلبي صاحب الأبحاث حول المسالك البولية. وطبيب التوليد الشهير عيا شلي شعبان. والعالم النفساني مؤمن السينوبي صاحب كتاب من 25 مجلداً حول الأمراض العقلية والنفسية والعصبية، وقد خصص العثمانيون مشافي خاصة لهذه الأمراض في ذلك الوقت الذي كان الأوربيون فيه يحرقون المرضى العقليين والنفسيين بالنار بحجة إخراج الشيطان منهم بل استمروا في ذلك حتى القرن الثامن عشر.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات