تاريخ حركة الفتوة في الإسلام

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

ونظراً للتماس الجغرافي والسياسي بين بلاد العراق والشام، خاصة في منطقة الجزيرة الفراتية انتقلت هذه الحركات الشعبية إلى مناطق الصراع خاصة بعد حدوث التنازع على السلطة والهشاشة التي أصابت الدولة الفاطمية العبيدية التي كانت تحكم أجزاء كبيرة من الشام. ولكن بقدر الله -عز وجل- انتقلت بصورتها المثلى محتفظة بأسسها الأخلاقية والدينية المتينة، تاركة كل سلبية ونقيصة لحقت بهذه الحركات في بلاد العراق، واضعة أمامها هدفاً واحداً، استهداف الشيعة أينما كانوا، خاصة الباطنية الإسماعيلية الذين انتشروا وتغلغلوا بقوة في بلاد الشام في هذه الفترة.

 

 

 

 لا يعلم على وجه التعيين تاريخ ظهور هذه الحركة أو طريقة تأسيسها، ولكن باستقراء السياق التاريخي للتطورات السياسية في الأمة الإسلامية لأول مرة على ساحة الأحداث في الشام يتضح لنا أنها حركة شعبية عفوية تأثرت بحالة البذخ والترف التي سادت المجتمعات الإسلامية بسبب استقرار الحكم وكثرة الثروات واتساع الدولة. وقد أطلق عليها المؤرخون المعاصرون لظهورها اسم " الفتوة " نسبةً إلى الفتى أو الشاب اليافع.

 

النشأة والظهور: 

ظهر مصطلح "الفتوة" في القرن الثاني الهجري، عندما ظهرت جماعات الفتوة في بغداد مرتبطة بجماعات "الشطار" و"العيارين". ويعرف العيار في اللغة بالرجل كثير الحركة، حيث جاء في القاموس المحيط للفيروز آبادي: "العيار الكثير المجيء والذهاب والذكي الكثير التطواف. وقال ابن الأعرابي: "والعرب تمدح بالعيار وتذم به. يقال غلام عيار نشيط في المعاصي، وغلام عيار نشيط في طاعة الله -عزوجل-. أما في كتب التاريخ والسير فقد تأرجح المصطلح فتارة دالا على الخير والصلاح والنجدة، وتارة دالا على الفساد والشغب والعنف واللصوصية. ثم تعرض مصطلح "الفتوة" لكثير من التفسيرات والتحليلات، فالصوفية يجعلون الفتوة مرادفة لصفات الصوفي الحق، والزهاد يجعلون" سعيد بن جبير" من أعلام الفتيان حين ثار على الحجاج، وبعضهم يجعل إبراهيم بن شريك من أعلام الفتيان حين سلم نفسه لسجن الحجاج بدلا من صديقه إبراهيم النخعي.

 

آثار السلف عن الفتوة:

كان غالب أحوال الفتوة في بداية الحركة كان الصلاح وخدمة الناس وإنجاد الملهوف ومواساة الفقراء، وعلى هذا دار كلام أهل العلم من سلف الأمة في مدح الفتوة، حيث عدوا الفُتُوَّة كلمة جميلة، تحمل معاني سامية، وتَرِدُ في ثنايا كتب العلماء، ومنشآت الأدباء، ودواوين الشعراء، تدور حول معاني الشهامة، والرجولة، والخدمة، والبذل، وما جرى مجرى ذلك من مكارم الأخلاق. وكثيراً ما يثني الشعراء على ممدوحيهم بوصفهم بالفُتُوَّة، وكثيراً ما يذكرون الفُتُوَّة في معرض الإعجاب، وكلمة الفتيان أو الفتى عند الأوائل تعني الشهم، الكريم، السخي، البشوش، المتغاضي، الأَلُوف الذي يقوم بالخدمة بلا منة ولا تباطؤ، ومن كانت هذه حاله كان جديراً بالمحبة، والاحترام، وكان ممن يُحرص على صحبته، والقرب منه، وإذا جمع إلى ذلك حسنَ الديانة، وصلاحَ الأمر، ولزوم الاستقامة، وطلب العلم -بلغ من العلياء كل مكان. وإذا قَلَّت الفُتُوَّة هبطت منزلته بقدر ما فقد منها ولو كان ذا علم واستقامة. قال سفيان الثوري -رحمه الله-: " من لم يتفتَّ لم يحسن يتقَّرى "، قال الخطابي -رحمه الله- معلقاً على كلمة سفيان: "إن من عادة الفتيان ومن أخذ بِأَخْذِهم بشاشةَ الوجه، وسجاحةَ الخلق، ولين العريكة". وكثيراً ما يثني الشعراء على ممدوحيهم بوصفهم بالفُتُوَّة، وكثيراً ما يذكرون الفُتُوَّة في معرض الإعجاب، قال أبو تمام في رثاء محمد بن حميد:

فتى مات بين الضرب والطعن ميتة***تقومُ مقامَ النصرِ إذ فاته النصرُ 

 

حتى إن الإمام ابن القيم -رحمه الله- قد عدّ الفتوة من مدارج السالكين إلى الله في سفره الحافل " مدارج السالكين " وذكر فيها كلاماً نفسياً قال فيه: "ومن منازل: "إياك نعبد وإياك نستعين" منزلة الفُتُوَّة. هذه المنزلة حقيقتها هي منزلة الإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم، فهي استعمال حسن الخلق معهم؛ فهي -في الحقيقة- نتيجةُ حسنِ الخلق واستعماله، والفرقُ بينها وبين المروءة أن المروءةَ أعمُّ منها؛ فالفُتُوَّة نوع من أنواع المروءة؛ فإن المروءة استعمال ما يجمل ويزين مما هو مختص بالعبد، أو متعدٍّ إلى غيره، وترك ما يدنس ويشين مما هو مختص أيضاً به أو متعلق بغيره، و الفُتُوَّة إنما هي استعمال الأخلاق الكريمة مع الخلق. ثم أوردَ -رحمه الله-جملةً من الآثار في هذا السياق؛ فمن ذلك قوله "فيذكر أن جعفر ابن محمد سُئل عن الفُتُوَّة فقال للسائل: ما تقول أنت؟ فقال: إن أُعطيت شكرت، وإن مُنِعْت صبرت. فقال: الكلاب عندنا كذلك. فقال السائل: يا ابن رسول الله فما الفُتُوَّة عندكم؟ فقال: "إن أُعطينا آثرنا، وإن مُنِعْنا شكرنا". وقال الفضيل بن عياض: "الفُتُوَّة أن تصفح عن عثرات الإخوان". وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله عنه وقد سُئل عن الفُتُوَّة فقال: "ترك ما تهوى لما تخشى". وسئل الجنيد عن الفُتُوَّة فقال: "لا تنافِر فقيراً، ولا تعارِض غنياً". وقال الحارث المحاسبي: "الفُتُوَّة أن تنصف ولا تنتصف". وقال عمر بن عثمان المكي" الفُتُوَّة حسن الخلق". وقيل: "الفُتُوَّة ألا ترى لنفسك فضلاً على غيرك". وقال الجنيد: "الفُتُوَّة كف الأذى، وبذل الندى. وقيل: "فضيلة تأتيها، ولا ترى لنفسك فيها. وقيل: "هي الوفاء والحفاظ". وقيل: "ألا تحتجب ممن قصدك". وقيل: "ألا تهرب إذا أقبل العافي؛ يعني طالب المعروف". وقيل: "إظهار النعمة، وإسرار المحنة". وقيل: "ليس من الفُتُوَّة أن تربح على صديقك". وقال الإمام أبو إسماعيل الهروي: " الفتوة على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: ترك الخصومة، والتغافل عن الزلة، ونسيان الأذيّة ". 

 

الفتوة وبداية الفساد:

وقد ترتب على ضعف السلطة العباسية أن انتشرت طوائف الفتوة العيارين ونظموا صفوفهم تنظيماً حربياً فكان على كل عشرة منهم "عريف " وعلى كل عشرة عرفاء نقيب وعلى كل عشرة " نقباء " وعلى كل عشرة مواد " أمير " وأصبح لهم زي حربي متميز. من أجل ضبط الأمن المجتمعي وحماية المنشأت الأهلية، وأسهم العيارون أو الفتيان في الحرب التي دارت في بغداد بين الأمين والمأمون وانضموا إلى الأمين دفاعاً عن بغداد لا عن الأمين نفسه، وقد ذكر المسعودي بطولاتهم الفردية رغم نقص العتاد لديهم. ثم نراهم ثانية في حوالي خمسين ألف عيار وقد لعبوا دوراً بارزاً في حصار بغداد سنة 251هـ / 864م حين اعتمد عليهم المستعين ليصد بهم عن بغداد هجمات الأتراك المبايعين للمعتز في سامراء، كما استعان بهم الخليفة المهتدي -وكان من صالحي بني العباس -في حربه ضد الأتراك سنة 256هـ / 869م. وقد ازدادت أعدادهم بمرور الأيام وضعف الحكومات، حتى أصبحت ظاهرة فرضت نفسها على المجتمع العراقي. وعرفت لأصحابها صفات مميزة بأقوالهم وأفعالهم، واستمرت هذه الفئة تؤكد وجودها في فترات الاضطراب السياسي والتدهور الاقتصادي والقلق الاجتماعي.

 

غير أن المصطلح أخذ شكلاً جديداً مع ضعف السلطة في العصر العباسي الثاني، إذ انتشرت حركات الشطار والعيارين الذين كانوا يمثلون تكتلات شعبية لا تلتزم بنظام أخلاقي ولا بعرف اجتماعي تعيث في الأرض فساداً، حتى خطا الناصر لدين الله (575هـ -622هـ) خطوة كبيرة عندما سعى إلى تنظيمها. وبذلك استمرت حركات الشطار والعيارين ضمن حركة واحدة هي حركة "الفتوة"، وكان يريد بذلك امتصاص الطاقة التي كانت مبعث شر وفساد وتحويلها لصالح المجتمع والدولة، فكانت "الفتوة" امتداداً لحركة الشطار والعيارين، ولكن ضمن إطار أخلاقي متين. غير أن حركة الناصر شابها كثير من البدع والتعصب المذموم. وقد سئل ابن تيمية رحمه الله عن الفتوة وسراويلها فأجاب: أما ما ذكره من ‏‏الفتوة‏ التي يلبس فيها الرجل لغيره سراويل، ويسقيه ماء وملحاً؛ فهذا لا أصل له‏. ولم يفعلها أحد من السلف لا عليّ ولا غيره‏. ‏والإسناد الذي يذكرونه في ‏‏الفتوة‏ إلى أمير المؤمنين‏: ‏علي بن أبي طالب، من طريقة الخليفة الناصر وغيره، إسناد مظلم، عامة رجاله مجاهيل لا يعرفون وليس لهم ذكر عند أهل العلم‏. والمقصود هنا أن سراويل الفتوة لا أصل له عن علي ولا غيره من السلف، وما يشترطه بعضهم من الشروط، إن كان مما أمر اللّه به ورسوله، فإنه يفعل؛ لأن اللّه أمر به ورسوله، وما نهى عنه مثل التعصب لشخص على شخص، والإعانة على الإثم والعدوان، فهو مما ينهي عنه، ولو شرطوه‏.

 

والحقيقة التاريخية الثابتة في نشوء حركات الفتوة والعيارين؛ أن هذه الحركات الشعبية كانت وليدة الفساد السياسي والتدهور الاقتصادي الذي تعرضت له البلاد في سنوات الحكم البويهي الشيعي في العراق، وكانت تهدف إلى إجراء تغيير سياسي منظم يعمل على إزالة الآثار السيئة التي ترتبت على الحكم البويهي الشيعي الذي نسب إليه التدهور الكبير في الخلافة السنية والمجتمع الإسلامي كافة، لذلك كانت هذه الحركات تستهدف رجال وكوادر الحكم البويهي خاصة الولاة والعمال ورجال الشرطة، ولكن مع مرور الوقت انحرفت الأهداف ودخل اللصوص والرعاع والفسدة في الأمر بحثاً عن المغنم، وصار العيارون والفتيان رمزاً للطغيان والفساد والشرور الكبيرة. ومما يسترعي الانتباه أن المؤرخين لم يعطوا جماعات الفتوة حقها في التسجيل، وبعض مؤرخي الحوليات التاريخية منحوهم بعض السطور في الأحداث اليومية مثلما فعل ابن الجوزي في "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" وخلط بينهم وبين العيارين وقطاع الطرق، من دون أن يوضح الفارق بين قطاع الطرق العاديين وطوائف الفتوة. 

 

ونظراً للتماس الجغرافي والسياسي بين بلاد العراق والشام، خاصة في منطقة الجزيرة الفراتية انتقلت هذه الحركات الشعبية إلى مناطق الصراع خاصة بعد حدوث التنازع على السلطة والهشاشة التي أصابت الدولة الفاطمية العبيدية التي كانت تحكم أجزاء كبيرة من الشام. ولكن بقدر الله -عز وجل- انتقلت بصورتها المثلى محتفظة بأسسها الأخلاقية والدينية المتينة، تاركة كل سلبية ونقيصة لحقت بهذه الحركات في بلاد العراق، واضعة أمامها هدفاً واحداً، استهداف الشيعة أينما كانوا، خاصة الباطنية الإسماعيلية الذين انتشروا وتغلغلوا بقوة في بلاد الشام في هذه الفترة.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات