أصحاب السبت: قصة ما زالت تتكرر

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: الأمم السابقة

اقتباس

فاستحلال محارم الله بأدنى الحيل والتحايل على شرع الله سمة يهودية والعياذ بالله، وهناك من يفعلها من المسلمين، وذلك في سائر أبواب المعاملات؛ كمن يسمي الربا بغير اسمه؛ ليضل الناس، كالاستثمار مثلاً، أو يسميه بالفائدة، أو عائداً أو نحو ذلك، وهو في الحقيقة ربا. ومن الحيل المنتشرة نكاح التحليل، الذي يطلق امرأته ثلاثاً ثم يتفق مع رجل يحلها له، يسمى في الشرع الإسلامي التيس المستعار، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله المحلل والمحلل له"، وذلك بأن يتفق مع رجل بأن يتزوج امرأته ويطؤها أو لا يطؤها، ثم يطلقها بعد يوم أو يومين، يزعم بذلك أنه يحله للأول، فهذا من التحايل على شرع الله، بل ذلك يبطل العقد الثاني، ولا يحلها للزوج الأول..

 

 

 

قال الإمام سفيان الثوري -رحمه الله- : "القصص جند من جنود الله –تعالى-"، بمعنى أن الله –تعالى- يجعل في القصص القرآني عبرة للعالمين، وإذا نظرت في القرآن وجدت أنك إذا تكلمت عن فضيلة الصبر على الدعوة وجدت قصصاً تتعلق بذلك، إن تكلمت عن طول الأمد في الدعوة وجدت قصصاً تتعلق بذلك، إن تكلمت عن التجارة والتجار استشهدت بقصة قارون، إذا تكلمت عن الفتنة بالنساء استشهدت بما وقع من امرأة العزيز، إن تكلمت عن الحرص على الدعوة في أشد الظروف، والبدء بالتوحيد ذكرت قصة يوسف -عليه السلام- مع الرجلين اللذين كانا معه في السجن، إن تكلمت عن الحوار ذكرت قصة إبراهيم -عليه السلام- مع النمرود، إن تكلمت عن الجهر بالحق ذكرت قصة مؤمن آل ياسين أو مؤمن آل فرعون، ولا تكاد تخلو قصة من القصص إلا من عبر نستطيع أن نستشهد بها ولذلك قال الله -جل وعلا- لنبينا عليه -الصلاة والسلام-: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)،[الأعراف:176].

 

واليوم نقف مع قصة عجيبة من هذه القصص القرآني (قصة أصحاب السبت)، وهي القصة التي تصلح لئن تكون مبحثاً مستقلاً في علم النفس البشرية، إذ أنها تشمل معظم سلوكيات البشر وردود أفعالهم وقت الأزمات والنوازل، وطريقة تفكيرهم وتعاملهم مع غرائزهم البشرية ورغباتهم، والصراع بين طبقات المجتمع وفئاته ومكوناته، بصورة لا تجدها إلا في القصص القرآني. فمن هم أصحاب السبت؟ وما سر تعظيم السبت؟ وأين تقع هذه القرية أصلاً؟ ومن هو النبي الذي كان حاضراً في عهدهم؟ ولماذا ذكرها الله –تعالى- وقال في أولها (واسألهم) تسأل من يا رسول الله؟ لماذا ما ذكرها الله –تعالى- كما يحكي غيرها من القصص: (واتل عليهم نبأ أصحاب السبت) مثلاً، لماذا قال (اسألهم) يسأل من؟ ولماذا يسأل وهو يأتيه الوحي من السماء؟ وما حال هؤلاء وكيف انقسم أصحاب القرية إلى ثلاثة أقسام؟ وما حال هؤلاء الأقسام الثلاثة؟ وهل لما مسخ الله –تعالى- بعضهم قردة وخنازير، هل تناسلوا ؟ فنحن مثلاً عندما يقول البعض لليهود: (يا أحفاد القردة والخنازير)، هل هؤلاء فعلاً أحفاد أولئك القردة والخنازير؟ تناسلوا وأصبحت القردة التي نراها ربما يكون بعضها نسلاً لأولئك، هل هذا صحيح أم لا؟ وكيف ينجو الإنسان إذا وقع له مثل ما وقع لأولئك من أصحاب السبت؟

 

 

أولاً: من هم أصحاب السبت؟

ذكر الله –تعالى- خبر أصحاب السبت في عدة مواضع في كتابه العزيز، ولكن بصورة مجملة، باستثناء خبرهم في سورة الأعراف، إذ جاء تفصيلاً، قال تعالي: (واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ، فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [ الأعراف: 163- 167]. كما ذكر الله – عز وجل - خبرهم بصورة مجملة في مواضع  أخرى في محكم التنزيل؛ كما في سورة البقرة: (لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) [البقرة:65ـ 66].

 

كيف صار يوم السبت لليهود؟

بعث الله –تعالى- موسى -عليه السلام- نبيًا إلى بني إسرائيل، وكان من شريعته التي جاء بها إليهم أن فرض الله عليهم يومًا يجتمعون فيه ويقيمون فيه شعائرهم، ويتخذونه عيدًا يذكرون الله –تعالى- فيه، ووكل تعيين اليوم إلى اجتهادهم، فأرشدهم نبيهم -عليه السلام- إلى يوم الجمعة الذي هو أفضل الأيام، ورغبهم فيه لما يعلم من فضيلته، فناظروه فقالوا: "يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها، والسبت أفضل الأيام كلها؛ لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعًا يوم السبت، وكان آخر الستة؟!" فأوحى إليه ربه عز وجل أن دعهم وما يختارون لأنفسهم، وأخبرهم أن لا يصيدوا فيه سمكًا ولا غيره، ولا يعملون فيه شيئًا سوى ما شرعته لهم من العبادة، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع اليهود غدًا، والنصارى بعد غد ".

 

امتثل اليهود بأن يكون يوم السبت هو يوم عيدهم، ومات موسى -عليه السلام-، ودارت الأيام إلى أن بعث الله -سبحانه- داوود -عليه السلام- نبيًا، وفي زمانه كانت قرية تدعى أيلة قريبة من العقبة، على الشاطئ بين الطور ومدين  على ساحل البحر، يسكنها قوم من بني إسرائيل يدينون باليهودية، يخرجون لمعاشهم طيلة أيام الأسبوع إلا يوم السبت، فيصطادون الأسماك، ويقتاتون منها، ويبيعونها لبعضهم البعض، ومكثوا على ذلك زمنًا من عمرهم.

 

وقوع الابتلاء:

اليهود من جملة البشر الذين لا بد لهم من الابتلاء والتمحيص في هذه الحياة الدنيا حتى يعلم الله – تعالى – صدق امتثالهم للأمر والنهي، كما قال الله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2]. وكان ابتلاؤهم بيوم السبت؛ أن حرم الله عليهم صيد الحيتان – السمك – فيه وأكلها، فكانوا إذا جاء يوم السبت أقبلت الحيتان ظاهرة أمام أعينهم، وفي متناول أيديهم كما يقول المفسرون: كأمثال الكباش البيض السمان، فإذا غربت شمس يوم السبت ذهبت الحيتان صغيرها وكبيرها فلم يجدوا منها شيئاً في ستة الأيام المقبلة.

 

استمر بهم الحال كذلك حتى طال عليهم الأمد، واشتاقوا للحم الحيتان، واشتهوا لحمه، فعمد أحدهم في يوم السبت إلى سمكة استحسنها واستسمنها، فأخذها سرًا من الماء، وخطمها في أنفها بخيط، وضرب وتدًا له في الساحل، ثم ربطها وأحكم وثاقها فيه، ثم انصرف إلى بيته، فلما طلع فجر يوم الأحد، فما صدق هذا الرجل نفسه، ولعله بات يتقلب على فراشه فرحًا، وقد اشتد به قرمه للحم، فانطلق إلى الساحل، فإذا بوتده والحوت كما تركه بالأمس، فأخذه وبرر لفعلته هذه أنه لم يأخذ الحوت في يوم السبت. جاء به إلى منزله، وشواه وأكله، ولم يشعر به أهل القرية. كرر الرجل فعلته عدة مرات حتى فاحت رائحة شوائه، وافتضح أمره، فلما سأله الناس وقص عليهم الخبر، استحسنوا فعله، وأعجبتهم حيلته التي تحايل بها على النهي الشرعي، فراحوا يقلدونه.

 

الجهر بالمعصية:

استحسن بعض أهل القرية حيلة الرجل، وتفتق أذهانهم عن حيلة جديدة أكثر تطوراً من حيلة الرجل الأول، فكانوا يحفرون الحفر على شاطئ البحر، قبل مجيء السبت، فإذا كان يوم السبت أقبلت الحيتان تدفعها الأمواج إلى تلك الحفائر، ثم ينحسر الموج عنها، فتبقى فيها، فيجيؤون في اليوم التالي، فيأخذونها، ومكثوا على فعلتهم هذه مدة طويلة سرًا، ثم بدؤوا بعد ذلك في صيدها علانية، وبيعها في الأسواق، فانتهكوا بذلك حرمة يوم السبت، وخالفوا أمر الله –تعالى.

 

 حوار أهل القرية:

لم يكن هذا الفعل فعل أهل القرية كلها، بل كان هناك من القوم الصالحين المحافظين على الأوامر الربانية والنواهي الشرعية؛ أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، فلما صنيع أهليهم عظم الأمر عليهم، وأكبروه أن يخالفوا أمر ربهم، وينتهكوا حرمة يوم عيدهم، فبادر علماؤهم بالإنكار قائلين: "ويحكم! يا قوم إنما تصطادون يوم السبت، وهو لا يحل لكم". فأجابهم القوم: "إنما صدناه يوم الأحد حينما أخذناه من الحفائر". فقال العلماء الناصحون: "إن صيدكم للحيتان يوم أن حفرتم حفركم، فدخلت الحيتان فيها يوم السبت".

 

كان هذا الحوار بين أصحاب المعصية، وعلمائهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهناك طائفة أخرى لم يشركوهم في صيدهم يوم السبت، رأوا تحرق هؤلاء العلماء على قومهم، وصدق نصحهم لهم، ورأوا في المقابل عدم سماع العصاة للنصح، فأشفقوا على الناصحين فقالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ)، في الدنيا بمعصيتهم إياه، وخلافهم أمره، واستحلالهم ما حرم عليهم: (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) فكان هذا منهم عتابًا ولومًا على موعظة من لا يتعظ، ويُعلم من حاله أنه غير مقلع عن ذنبه، فأجابوهم قائلين: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ)، ومعناه: أن الأمر بالمعروف واجب علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عذرًا إلى الله، (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) أي: يتقون الله و ينتفعون بالموعظة فيتركون المعصية .

 

 المفاصلة:

 لم يرعوِ القوم عن فعلتهم، واستمروا في عصيانهم، فما كان من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إلا أن انتقلوا إلى مرحلة أخرى من مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعزموا على مقاطعتهم واعتزالهم، فأتوهم قائلين: "والله لا نساكنكم في قرية واحدة". فانحاز هؤلاء إلى ناحية من القرية، وانحاز الآخرون إلى الناحية الأخرى، وقسموا القرية بجدار، ففتح المحرمون للسبت بابًا من ناحيتهم، وفتح المعتدون في السبت بابًا من ناحيتهم، ولعنهم نبيهم داود -عليه السلام-؛ لاعتدائهم ذلك، كما قال الله –تعالى-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [سورة المائدة، الآية: 78].

 

نزول العذاب:

بعد أن قسمت القرية نصفين كان المحرِّمون للسبت يخرجون من بابهم، والمعتدون يخرجون من بابهم، ويرى كل من الفريقين الفريق الآخر حينما يفتح بابه، ويخرج منه وذات يوم خرج المحرِّمون للسبت على عادتهم فهم في أنديتهم ومساجدهم، وإذا بباب المعتدين مغلق، ولم يفتح على خلاف العادة، فظنوا أنهم لم يزالوا نائمين، ولكن مر الوقت ولم يفتح الباب، فأصاب هؤلاء الدهشة، والحيرة، يا ترى ما الذي منعهم اليوم من الخروج؟! إن للقوم لشأنًا. فلما أبطأوا عليهم انطلقوا فتسوروا الحائط الذي يفصل بينهم، فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوها ليلًا فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد. قال تعالى: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [البقرة+: 65].

 

 مكث هؤلاء الممسوخون ثلاثة أيام، ثم هلكوا بعدها، فلم يكن لهم عقب ولا نسل، وفي حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- قالت: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لم يجعل لمسخ نسلًا ولا عقبًا ".

 

 وأما من كان ينهى عن السوء وعن الصيد يوم السبت فقد كان نهيهم عن المنكر سببًا لنجاتهم، قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ)، وإن كان من هؤلاء طائفة لم تنكر بألسنتها، لكنها أبغضت المنكر وأهله، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)، وهذه هي أدنى مراتب النهي عن المنكر، وقد بين ذلك حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

 

فجعل الله -تعالى- هذه الحادثة: (فجعلناها نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 66].

 

ثانياً: أهم الدروس والعبر:

1-الاعتبار بأحوال الأمم الماضية.

بيّن الله في هذه الآيات ما تنطوي عليه طبائع يهود من خبث ومكر وتنكر للرسالة السماوية، فهم يتلونون تلون الحرباء؛ مما جلب لهم المقت من ربهم، فأوقع بهم شر العقوبات: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة:60]. ولقد كان لليهود شأن في بادئ الأمر، وقد أثنى الله عليهم بقوله: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ*مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنْ الْمُسْرِفِين*وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الدخان: 30- 32].

التحول الذي حدث في أمة بني إسرائيل كان جذرياً، حتى أصبح لا يعرف من شمائلهم، أنهم يقودون إلى تقوى أو يعرفون بمهادنة؛ ولأجل هذا جاء التحذير الصارخ من أن نسلك مسالكهم، بل جاء الأمر الصريح بمخالفة اليهود والنصارى في كل أمورهم وعاداتهم حتى في ملبسهم وعاداتهم الاجتماعية وأخلاقهم وطرائقهم الحياتية.

 

2-خطورة التحايل على شرع الله:

والتحايل على شرع الله صفة أصيلة من صفات اليهود، ولكنها ورثت فيمن أشبههم ممن ينتسب إلي الإسلام وكما حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فقال: "لا تشبهوا باليهود فتستحلوا الله بأدنى الحيل".

 

فبالحيل قتل اليهود أنبيائهم، وانقلبوا على شرائعهم، موادعة لأهوائهم، ونزواتهم، وشهواتهم، وهي وإن أخفاها المرء فقد تخفى على جملة من البشر، لكنها لا تخفى على رب البشر، إذ أنها من باب الإلحاد في حدود الله، وهو الميل والانحراف عنها، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير) [فصلت:40].

 

فاستحلال محارم الله بأدنى الحيل والتحايل على شرع الله سمة يهودية والعياذ بالله، وهناك من يفعلها من المسلمين، وذلك في سائر أبواب المعاملات؛ كمن يسمي الربا بغير اسمه؛ ليضل الناس، كالاستثمار مثلاً، أو يسميه بالفائدة، أو عائداً أو نحو ذلك، وهو في الحقيقة ربا. ومن الحيل المنتشرة نكاح التحليل، الذي يطلق امرأته ثلاثاً ثم يتفق مع رجل يحلها له، يسمى في الشرع الإسلامي التيس المستعار، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله المحلل والمحلل له"، وذلك بأن يتفق مع رجل بأن يتزوج امرأته ويطؤها أو لا يطؤها، ثم يطلقها بعد يوم أو يومين، يزعم بذلك أنه يحله للأول، فهذا من التحايل على شرع الله، بل ذلك يبطل العقد الثاني، ولا يحلها للزوج الأول.

وهناك أنواع من الحيل في البيوع، مثل بيع العينة وهو نوع من الربا لكن بحيلة على الربا، وذلك بأنه يقول لمن يريد أن يقترض مه مائة مثلاً والرجل لن يقرضه مائة إلا بمائة وعشرون، فيقول: اشترِ مني هذه السلعة بمائة، وهو يعرف ما سوف يتم، فيشتريها بمائة ويقبضها إياه، ثم يقول: أنا أشتريها منك بالتقسيط بمائة وعشرون، فرجعت له سلعته، وأصبح مديناً بمائة وعشرون، وهو قبض مائة فصارت المائة مائة وعشرون، ودخلت بينهما السلعة. إلى آخر صور التحايل على أوامر الله – تعالى – ونواهيه.

بدأ الأمر كما ذكرنا بأنهم صاروا يعتادون في السبت بهذه الطريقة، وهو أنهم ينصبون الشباك يوم الجمعة، ويأخذون السمك يوم الأحد، وقيل إنهم حفروا حفراً يقع فيها السمك عندما يمد البحر، ثم إذا جاء الجذر عجز السمك عن الخروج من الحفر، فيتناولنه يوم الأحد فالله أعلم، لكنهم كانوا يتحايلون بطريقة معينة على عدم الصيد يوم السبت.

 

3 – أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخطورة تركه:

ومن الدروس المستقاة من قصة أصحاب السبت، أنه ينبغي على أهل العلم، وذوي الإصلاح أن يقوموا بواجب النصح والوعظ في إنكار المنكرات على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا يمنع من التمادي في الوعظ والنهج والإصرار عليه، عدم القبول من المخالف؛ لأنه فرض فرضه الله قبل أو لم يقبل؛ ولأن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله. وبذلك تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة، وبمثل أولاء يدفع الله البلايا عن البشر قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117]، ولم يقل وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً بالنجاة من العقوبة الإلهية الرادعة.

 

وفي قصة أصحاب السبت انقسم المجتمع في هذه القرية إلى ثلاثة أقسام:

1-قوم معتدون يفعلون هذه الحيلة المحرمة.

2-قوم آخرون رفضوا ذلك، وأبوا، وهم قوم صالحون نهوا المسيئين عن ذلك، ودعوا إلى الله -عز وجل-وشرعوا ينهونهم عن الاعتداء في السبت.

 

3- أمة ثالثة سكتت عن الدعوة، وليس هذا فقط، بل شرعت تيئس الدعاة والناصحين، قال تعالى: (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأعراف:164]، فهذه الطائفة قالت للدعاة إلى الله نحو ما نسمع اليوم "لا فائدة"، "لا تتعبوا أنفسكم"، "هل أنتم الذين تصلحون الكون"، "الفساد مستمر"، "ولن تأتي الدعوة ثمرتها"، "بل لابد أن يهلك هؤلاء على ضلالهم."

وهذا الصنف نوع من الناس لا يريد المشاركة الإيجابية في تغيير الشر والفساد، فهو يعلم الخير من الشر، ويشعر بالتأنيب من نفسه اللوامة؛ لأنه مقصر، ويود لو أن الناس كلهم مقصرون، ولذلك يقول لغيره دع عنك إتعاب نفسك، ودع عنك ما تبذل من دعوة، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فإنه لا فائدة!!. وهذا منه تبرير لموقفه السلبي في ثوب نصيحة، ولا شك أن هذا جهل كبير منهم بفوائد الدعوة إلى الله –تعالى-، على الداعي نفسه، وعلى المجتمع بصفة عامة.

وإن كان الدعاة إلى الله أفهم لوظيفتهم وواجبهم الذي افترض على الأمة من هؤلاء الذين يثبطون الدعاة دائماً، ذلك لأن الدعاة يعلمون أن الدعوة إلى الله لها هدفين أساسيين، ولا تخلوا من فائدة طالما وجد هذان الهدفان.

 

وقد اختلف أهل العلم في مسألة وقوع العذاب على أصحاب السبت، فمنهم من ذهب إلى أن النجاة كانت للناهين وحدهم، ومنهم من ذهب إلى العذاب وقع على المعتدين فقط، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أنْجَى اللَّهُ النَّاهِينَ. وَأَمَّا أُولَئِكَ الْكَارِهُونَ لِلذَّنْبِ الَّذِينَ قَالُوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا) فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُمْ نَجَوْا لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَارِهِينَ فَأَنْكَرُوا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ".

 

وأما لعنة الله على اليهود، فلم تكن بسبب ما فعله أسلافهم، فإن الله –تعالى- لا يعاقب أحداً بذنبٍ فعله غيرُه.

 

وإنما لعن الله الأجيال المتلاحقة من اليهود بسبب ما فعلوه من الكفر بالله –تعالى-، وعصيانه، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تدل على ذلك الآيات الواردة في هذا، قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ*كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) [المائدة: 78 – 80 ].

روى الطبري في تفسيره عن ابن عباس قال: "بكل لسان لُعِنوا: على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- في القرآن".

ففي هذه الآيات: أن لعن هذه الأجيال من بني إسرائيل كان بسبب كفرهم بالله ورسله، ومعصيتهم لله واعتدائهم، وعدم تناهيهم عن المنكر، وتولي الكثير منهم الذين كفروا، ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلات، وأوقعت بهم العقوبات أنهم: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) أي: كانوا يفعلون المنكر، ولا ينهى بعضهم بعضا، فيشترك بذلك المباشر، وغيره الذي سكت عن النهي عن المنكر مع قدرته على ذلك. وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه، ولغضبوا لغضبه، وإنما كان السكوت عن المنكر -مع القدر-موجباً للعقوبة، لما فيه من المفاسد العظيمة:

منها: أن مجرد السكوت، فعل معصية، وإن لم يباشرها الساكت. فإنه -كما يجب اجتناب المعصية- فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية.

ومنها: أنه يدل على التهاون بالمعاصي، وقلة الاكتراث بها.

ومنها: أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها، فيزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية، ويكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أوَّلا.

ومنها: أن بترك الإنكار للمنكر يندس العلم، ويكثر الجهل، فإن المعصية- مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها - يظن أنها ليست بمعصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة، وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرَّم الله حلالاً؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا؟

ومنها: أن السكوت على معصية العاصين، ربما تزينت المعصية في صدور الناس، واقتدى بعضهم ببعض، فالإنسان مولع بالاقتداء بأضرابه وبني جنسه.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات