هجوم الفايكنج على العالم الإسلامي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: دروس التاريخ

اقتباس

المهم أن هذا الحدث المفاجئ الذي كان يتوجب على المسلمين أن ينحوا خلافاتهم جانباً، ويتوحدوا أمام خصم خطير معروف بشدة البأس، لم يغير شيئاً من الأحداث المحتدمة في المشرق الإسلامي، فلم يمر سوى شهور على هذا الغزو الفايكنجي لبلاد الإسلام حتى احتل البويهيون الشيعة بغداد، وأهانوا الخليفة العباسي بشدة، وتسلطوا على أهل السنّة، وبالجملة لم يستفيدوا من هذا الحدث التاريخي في شيء..

 

 

 

التاريخ الإسلامي زاخر بالمواقف والأحداث التي شكلت في مجموعها وعياً حضارياً استفاد منه المسلمون زمان ريادتهم وقيادتهم للعالم، وسيطرتهم على أجزاء واسعة من المعمورة، حيث كان يعمل المسلمون على الاستفادة من الأحداث المحلية والإقليمية والدولية المحيطة، وينتقلون بها من خانة المفعول إلى خانة الفاعل، ومن خانة المشاهد إلى خانة اللاعب. وهذا الفهم التاريخي مكّن المسلمون من العبور من الكثير من المواقف الصعبة والنوازل الكبرى، فقد وعوا الدروس التاريخية جيداً وتحركوا برصيد خبراتهم التراكمية من الأحداث المتتالية، ويوم أن فقد المسلمون قدرتهم على توظيف الأحداث التاريخية واستغلالها وقراءة سننها قراءة صحيحة نافعة، صار التاريخ عندهم قصصاً وحكايات وروايات تتلى من الأجداد على الأحفاد للتفكه والعجب والبكاء على الأطلال.

 

والحدث الذي بين أيدينا شاهد على تباين قدرة المسلمين على توظيف الحدث التاريخي من أجل مواجهة المستقبل والاستعداد لمزيد من المواقف المشابهة حال تكرارها. وهذا الحدث هو غزو قبائل الفايكنج الأوروبية الوثنية للعالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري – العاشر الميلادي.

 

أولاً: من هم قبائل الفايكنج؟

الفايكنج (سكان الخليج باللغة الإسكندنافية القديمة)، وهو المصطلح الذي يطلق علي الشعوب الاسكندينافية التي استوطنت شمال أوروبا (السويد والدانمرك والنرويج وفنلندا) ويعرفون أيضاً بالنورمانديين (أي سكان الشمال)، وهذا يرجع إلي منطقه (النورماندي) الفرنسية والتي أعطاها الملك الفرنسي شارل الثالث للفايكنج، ويطلق عصر الفايكنج علي الفترة الممتدة من القرن الثامن وحثي القرن الحادي عشر، نظراً لسيطرتهم علي مناطق عديدة من أوروبا وشمال أفريقيا وآسيا وأمريكا حيث أقاموا مستعمره في أمريكا الشمالية قبل أن يكتشفها (كريستوفر كولومبس) بخمسة قرون (بحسب المؤرخين الغربيين).

في المناخ القاسي لاسكندنافيا، عاش الفايكنج بشكل كبير على الزراعة، صيد السمك، والتجارة البحرية في الغالب.

 شابهت منظمة الفايكنج السياسية تلك الموجودة لدى الألمان الأوائل مجتمع الرؤساء المحاربين والأتباع المواليين. لم يسبقَ للعالم الإسكندنافي أن وقع تحت التأثير الروماني أو المسيحي، وكان دين الفايكنج قبل المسيحية مشابهاً لدين القبائل الألمانية الأخرى، حيث قدسوا عدداً من الآلهة، مثل أودين إله الحرب، وزعيم الآلهة النرويجية ثور إله الرعد، وبالدر إله الضوء. اعتقد محاربو الفايكنج بأنهم إذا ماتوا بشكل بطولي فإنهم سيدعون للسكن مع أودين في فالهالا، قصره في عالم الآلهة، لذلك عرف عن الفايكنج البسالة والشجاعة في القتال.

 

ونظراً للعدد الكبير للشعوب الاسكندينافية بالتوازي مع قله الأراضي الزراعية وأيضاً لطبيعة الأراضي الاسكندينافية الجبلية الباردة التي لم تترك لهم سوي شريط ساحلي ضيق لا يؤمن لهم احتياجاتهم الزراعية، فكان لابد للشعوب الاسكندينافية من البحث عن موارد جديدة والهجرة إلى مناطق أكثر خصوبة، أضف إلى ذالك أن العمليات التجارية كانت تحت سيطرة الأوروبيين المسيحيين الذين كانوا يعتبرون الاسكندينافيين كفاراً ووثنيين. وكانت الممالك الأوروبية المسيحية تفرض على الفايكنج معاملات تجاريه غير متكافئة وضرائب باهظة، بالإضافة إلى الحملات العسكرية الأوروبية المسيحية على القبائل الجرمانية والسكسونية في جنوب المناطق الاسكندينافية من أجل نشر العقيدة المسيحية عند القبائل الجرمانية الوثنية، حيث أدي موقعهم الجغرافي في شمال أوروبا إلى عزلتهم عن بقية أوروبا لذلك ظلوا همجيين محافظين على أوضاعهم البدائية.

 

عرف الفايكنج بأنهم ذوو بأس شديد وكانوا يقضون أوقاتاً طويلة في البحر في سفن مكشوفة وسريعة. وفي نهاية القرن التاسع الميلادي، توغل الفايكنج في روسيا لكن جماعات منهم انطلقت نحو وجهات أخرى ووصلت إلى جزيرة أيسلندا بواسطة السفن السريعة وأكملت نحو جرينلند. وثمة جماعات منهم وصلت إلى إنجلترا وفرنسا حيث كانوا يقومون بهجمات ضارية تحدث أضراراً فادحة؛ لأنهم كانوا يدمرون الكنائس والأديرة ويعملون في الرهبان والقسيسين ذبحاً وتقتيلاً ويعيثون في الأقاليم نهباً وتخريباً.

وفي القرن التاسع الميلادي نفذ الفايكنج أربع غارات مستهدفين مدينة باريس وعاثوا فيها نهباً وسلباً وتدميراً وفي كل مرة كانوا يصلون إليها بسفنهم ليلاً عبر نهر السين. وأمام هذا الغزو المتكرر اضطر الملوك الفرنسيون إلى دفع مبالغ طائلة مقابل انسحاب هؤلاء الغزاة من العاصمة وفي العام 885 هاجم نحو 30 ألف رجل من (رجال الشمال) الفايكنج باريس وحاصروها حصاراً شديداً مما اضطر ملك فرنسا إلى دفع أموالاً طائلة، والتنازل عن منطقة النورماندي لهم فاستوطنوها وأصبحوا يعرفون بالنورمانديين. وتعتبر أنجح غزوات الفايكنج الأوروبية غزواتهم لسواحل انجلترا حيث استولوا على أجزاء منها، ووصل الأمر لئن حكموا انجلترا لأكثر من ربع قرن، كما أنهم غزوا صقلية وجنوب إيطاليا وحاولوا غزو القسطنطينية نفسها في القرن العاشر الميلادي.

 

ثانياً: الفايكنج والعالم الإسلامي: 

علاقة الفايكنج بالعالم الإسلامي بدأت مبكراً وبصورة تجارية بحتة، حيث كان للفايكنج يحضرون إلى بلاد العرب المسلمين للتجارة عن طريق نهر الفولجا قادمين من اسكندنافيا وكان العرب يسمونهم (الروس) وكانوا يحضرون معهم العبيد السلاف وجلود الحيوانات البرية الفاخرة لبيعها في أسواق بغداد والقوقاز وفارس ويشترون في المقابل بضائع الشرق التي كانت من أغلى البضائع في ذلك العصر ومنها الفولاذ والحرير والمصوغات الذهبية والعطور ليعودوا إلى أوروبا بها.

 

ومع بداية غزو الفايكنج إلى أوروبا تحركت قبائل الفايكنج إلى جهات مختلفة، ففي حين تحرك الدانمركيين ناحية الغرب باتجاه فرنسا وانجلترا وإيطاليا، تحرك النرويجيين باتجاه بلاد الروس وغلبوا عليها، ثم احتلوا بلاد البلغار، ومن ثم أصبحوا قريبين من العالم الإسلامي، وصارت لهم علائق وتجارة رائجة خاصة تجارة العبيد السلاف والحديد الصلب والعملات الفضية، وأطلق عليهم المسلمون اسم (الروس) لقدومهم من ناحية بلاد الروس.

 

ومن الوثائق التاريخية الشيقة والنادرة عن علاقة العالم الإسلامي بالفايكنج، ما سجله الرحالة الإسلامي الكبير (أحمد ابن فضلان العمري) في رحلته الشهيرة إلى بلاد الفايكنج، حيث ذهب إلى النرويج بسفارة خاصة من الخليفة العباسي (المقتدر بالله) يدعوه فيها إلى الإسلام. وقد حظيت هذه الرحلة باعتناء واسع من علماء التاريخ في العالم، وترجمت لعشرات اللغات، وصارت واحدة من أهم المراجع في تاريخ الفايكنج ومعرفة عاداتهم وسلوكياتهم ونظمهم الاجتماعية والسياسية والدينية، ومن شدة اعتناء الغرب بها تم إنتاج فيلم كبير في هوليود يتحدث عن هذه الرحلة بعنوان (الفارس الثالث عشر) مع ضعف الخلافة العباسية وتسلط الدولة البويهية الشيعية عليها، بدأ الفايكنج في التفكير بتكرار تجربة انجلترا الناجحة في العالم الإسلامي، وذلك من جهتين مختلفتين: من الشرق بالهجوم على ثغور الدولة العباسية، ومن الغرب بالهجوم على سواحل الدولة الأموية في الأندلس. وقد تباينت الاستفادة السياسية والإستراتيجية بين الدولة العباسية والأندلس تبايناً كبيراً يكشف الوعي الحضاري الذي كان عليه مسلمو الأندلس.

 

أولاً: هجوم الفايكنج على المشرق الإسلامي:

في سنة 332 ه قامت مجموعة من الفايكنج بالهجوم على مدينة (بردعة) على حدود أذربيجان مع بلاد الروس، وهزموا حاميتها، واستولوا على المدينة، ووضعوا السيف في أهلها، فقتلوا منهم الكثيرين، ونهبوا خيراتها وسبوا بناتها، ثم انتقلوا منها إلى مدينة (مراغة) وكانت من أغنى المدن الآذرية، ففعلوا فيها مثل ما فعلوا في بردعة.

 

لما فعل الفايكنج بأهل بردعة، ومراغة، ما ذكرناه، استعظمه المسلمون وتنادوا بالنفير، وجمع أحد القادة المسلمين وهو  (المرزبان بن محمد)  الناس واستنفرهم، فبلغ عدة من معه ثلاثين ألفاً، وسار بهم فلم يقاوم الفايكنج  وكان يغاديهم القتال، ويراوحهم فلا يعود إلا مفلولاً، ولما طال الأمر على المرزبان أعمل الحيلة، فرأى أن يكمن كميناً، ثم يلقاهم في عسكره ويتطارد لهم فإذا خرج الكمين عاد عليهم، فتقدم إلى أصحابه بذلك ورتب الكمين، ثم لقيهم واقتتلوا فتطارد لهم المرزبان، وأصحابه وتبعهم الفايكنج، حتى جازوا موضع الكمين فاستمر الناس على هزيمتهم لا يلوي أحد على أحد، فصاح المرزبان محمد  بالناس ليرجعوا، فلم يفعلوا، لما تقدم في قلوبهم من هيبة الروسية، فعلم أنه إن استمر الناس على الهزيمة قتل الفايكنج أكثرهم، ثم عادوا إلى الكمين، ففطنوا بهم فقتلوهم عن آخرهم، فرجع وحده وتبعني أخوه وصاحب لهما ووطنوا أنفسهم على الشهادة فحينئذ عاد أكثر المسلمين استحياء، فرجعوا وقاتلناهم، ونادينا بالكمين بالعلامة بيننا، فخرجوا من ورائهم، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً منهم أميرهم،  ثم تتابع الأمر حتى أخرجوهم من بلاد الإسلام بالكلية وأعادوهم إلى بلاد الروس مرة أخرى.

 

المهم أن هذا الحدث المفاجئ الذي كان يتوجب على المسلمين أن ينحوا خلافاتهم جانباً، ويتوحدوا أمام خصم خطير معروف بشدة البأس، لم يغير شيئاً من الأحداث المحتدمة في المشرق الإسلامي، فلم يمر سوى شهور على هذا الغزو الفايكنجي لبلاد الإسلام حتى احتل البويهيون الشيعة بغداد، وأهانوا الخليفة العباسي بشدة، وتسلطوا على أهل السنّة، وبالجملة لم يستفيدوا من هذا الحدث التاريخي في شيء.

 

ثانياً: هجوم الفايكنج على الأندلس:

بعد نجاح الفايكنج في احتلال سواحل انجلترا سنة 793 م كان ذلك إيذاناً ببداية عصر سيطرة الفايكنج على غرب أوروبا، حيث احتلوا أيرلندا وجرينلند، وشمال فرنسا عند مصب نهر اللوار والجارون، وبعد أن ثبتوا أقدامهم في سواحل أوروبا الغربية، دفعوا مراكبهم الطويلة باتجاه بلاد الأندلس نظراً للأخبار التي كانت تأتيهم عن ثروات وخيرات الأندلس وحضارتها العظيمة.

 

كانت الأندلس في هذه الفترة تحت حكم عبد الرحمن الثاني الملقب بالأوسط، (فهو الأوسط بين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر)، وقد حكم من سنة (206هـ=821م) وحتى آخر الفترة الأولى (عهد القوة) من عهد الإمارة الأموية، وذلك سنة(238هـ=852م)، وتُعَدُّ فترة حكمه هذه من أفضل فترات تاريخ الأندلس، فاستأنف الجهاد من جديد ضدَّ النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدَّة، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، محبًّاً للعلم، محبًّا للناس. قال عنه المؤرخون: "كان عادلاً في الرعية بخلاف أبيه، جوادًا فاضلاً، له نظر في العلوم العقلية، وهو أول من أقام رسوم الإمرة، وامتنع عن التبذُّل للعامَّة، وهو أول من ضرب الدراهم بالأندلس، وأمر بالزيادة في جامع قُرْطُبَة، وكان يُشَبَّه بالوليد بن عبد الملك، وكان محبًّاً للعلماء مقرِّبًا لهم، وكان يُقيم الصلوات بنفسه، ويُصَلِّي إمامًا بهم في أكثر الأوقات. وكان حَسَنَ الصورة ذا هيئة، وكان يُكثِر تلاوة القرآن، ويحفظ طرفاً من الحديث النبوي، وكان يُقالُ لأيامه أيام العروس، وافتتح دولته بهدم فندق الخمر وإظهار البِرِّ، وتملَّى الناس بأيامه وطال عمره، وكان حَسَنَ التدبير في تحصيل الأموال وعمارة البلاد بالعدل، حتى انتهى ارتفاع بلاده في كل سنة ألف ألف دينار".

 

كان من عادة الفايكنج في الهجوم على البلاد التي يريدون احتلالها أن يبدأ الهجوم أولاً بصورة بحرية، ثم يتحول إلى هجوم بري، لذلك فقد بدأ هجوم الفايكنج على الأندلس من الجهة الغربية، بعد أن خرجوا من سواحل انجلترا في سفنهم الطويلة، ورسوا بها عند مدينة  (أشبونة) ( لشبونة اليوم ) وتقع على سواحل المحيط الأطلسي ب54 خمسين سفينة كبيرة عليها آلاف المقاتلين الأشداء، وكان في المدينة قس صغير يُدعي ألفونسو كان شديد الكراهية للحكم الإسلامي، ويرى فيهم محتلين حكموا أسبانيا بدون وجه حق، وبالرغم أنه تعلم العربية وأصبح من فئة المستعربة وهم الذين تعلموا العربية وتشربوا فنونها إلا أنه كان حاقداً شرساً يبث الكراهية في المجتمع، ألفونسو ساعد الفايكنج أثناء احتلالهم المدينة،  ودلهم على عوراتها وثغراتها، فدخلوا المدينة وعاثوا فيها فساداً وقتلاً ونهباً  ثم غادروها بعد 13 يومًا، بعد مقاومة قادها عبد الله بن حزم وسكان المدينة.

 

بعد أشبونة ركب الفايكنج نهر الوادي الكبير، ومروا على مدن قادس، وشذونة، وكان هدفهم أشبيلية كبرى حواضر الأندلس وأغنى مدنها، بعد أن دلهم الخائن (ألفونسو) على طريق الوصول إليها، ونظراً لضعف الاتصالات وقتها، لم يتسن للسلطة في قرطبة أن تطلع على الأحداث السريعة في غرب الأندلس.

 

عندما فتح المسلمون أشبيلية كانت أسوارها الرومانية القديمة قد تهدمت ولم يحفل الوافدون الجدد بعد تسيدهم لأرجاء الأندلس ببناء أسوار لأشبيلية، مما سهّل على الفايكنج اقتحام المدينة في صفر سنة 230هـ = نوفمبر 844م، فمكثوا فيها سبعة أيام يقتلون وينهبون ويحرقون البيوت والممتلكات لبث الرعب في قلوب الناس، فأطلق عليها الناس اسم (المجوس) ظناً منهم أنهم من عباد النار، خاصة أنهم قد أحرقوا جامع أشبيلية الكبير، كما أنهم خربوا القصور الأموية ونهبوا ثرواتها.

 

وصلت أخبار هجوم الفايكنج إلى الأمير عبد الرحمن الأوسط فأسرع بإرسال السرايا وقوات الإنقاذ لنجدة أهل إشبيلية، وقدم على الخيل عيسى بن شهيد الحاجب، واتصل المسلمون به اتصال العين بالحاجب. وتوجه بالخيل عبد الله ابن كليب وابن رستم وغيرهما من القواد والمتطوعين، وكتب إلى عمال الكور في استنفار الناس؛ فحلوا بقرطبة، ونفر بهم القائد العسكري نصر الفتى.

 

في المقابل أخذ الفايكنج يأتون مراكب على مراكب لشد أزر إخوانهم، وجعلوا يقتلون الرجال، ويسبون النساء، ويأخذون الصبيان، وكانت بينهم وبين المسلمين ملاحم، واعتركوا مع المسلمين، فانهزم المسلمون، وقتل منهم ما لا يحصى. ثم عادوا إلى مراكبهم ثم نهضوا إلى شذونة، ومنها إلى قادس، وذلك بعد أن وجه الأمير عبد الرحمن قواده؛ فدافعهم ودافعوه؛ ونصبت المجانيق عليهم، وتوافت الأمداد من قرطبة إليهم. فانهزم الفايكنج وقتل منهم نحو من خمسمائة؛ وأصيبت لهم أربعة مراكب بما فيها؛ فأمر ابن رستم بإحراقها وبيع ما فيها من الفيء. ثم كانت معركة (تابلادا) الفاصلة بالقرب من أشبيلية يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر سنة 230 هـ = نوفمبر 844 م، قتل فيها منهم خلق كثير، وأحرق من مراكبهم ثلاثون مركبا. وصلب من الفايكنج بأشبيلية عدد كثير، ورفع منهم في جذوع النخل التي كانت بها. وركبت فلول الفايكنج مراكبهم، وساروا إلى أشبونة للسيطرة عليها مرة أخرى ولكنهم فشلوا، فاضطروا للرجوع إلى قواعدهم في شمال فرنسا وسواحل انجلترا مرة أخرى.

 

استفاد مسلمو الأندلس من هذا الحدث التاريخي الهام، فأمر الأمير عبد الرحمن الأوسط بتشييد الأسوار حول المدن الكبرى، وتشديد الحراسات، ثم اتخذ الخطوة الأهم والأبرز في تاريخ دولة الإسلام في الأندلس في العصر الأول إلا وهي تأسيس البحرية الأندلسية. وذلك عندما أمر بإنشاء ترسانة بحرية في أشبيلية صارت بعد ذلك من أكبر ترسانات أوروبا في صناعة السفن.

 

فلم تكن هناك بحرية أندلسية بالمعنى النظامي المعروف منذ بداية الفتح سنة 92هـ حتى عهد عبد الرحمن الأوسط الأموي سنة 230هـ، على الرغم من الجغرافية البحرية لبلاد الأندلس فهي شبه جزيرة يحيط بها الماء من ثلاثة جوانب، ومهارة أهلها في ركوب البحر، وكذلك مهارة الفاتحين المسلمين لها الذين عبروا البحر من أجل فتحها وذلك لأسباب كثيرة حتى وقعت حادثة الفايكنج المذكورة.

 

أخذت البحرية الأندلسية في النمو والازدهار حتى أصبح للأندلس أسطولان: شرقي في البحر المتوسط وقاعدته (المرية)، وغربي في المحيط الأطلس (بحر الظلمات) وقاعدته أشبونة، وفي عهد عبد الرحمن الناصر [300هـ-350هـ] ستصبح البحرية الأندلسية صاحبة اليد العليا في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وبالتالي اكتملت سيادة المسلمين على البحر المتوسط كله، ففي الشرق قامت أساطيل مصر والشام، وفي الوسط أسطول الأغالبة، وفي الغرب أساطيل بني أمية في الأندلس، وفي حماية تلك البحرية القوية نشطت حركة العمران والتبادل التجاري والسفر الآمن وبناء الموانئ والمراسي ودور الصناعة. الجدير بالذكر أن الفايكنج قد حاولوا معاودة الهجوم على الأندلس سنة 355 هـ، وسنة 385 ه، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينزلوا من مراكبهم أصلاً بسبب يقظة البحرية الأندلسية.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات