تابع - مع الخطيب على المنبر (أحكام وسنن وآداب)

إبراهيم بن الصديق الطنجي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: أحكام الخطيب

 

 

 

ثم إن الموضوع المبحوث فيه الآن ليس المشي أثناء الخطبة؛ فذاك موضوعٌ آخر، وإنما هو سؤال السائل وإجابة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أثناء الخطبة وعدم إنكاره عليه. ولئن كان في هذا الحديث احتمالٌ ألاَّ تكون الخطبة خطبة جمعة كما ذكر الإمام النووي؛ لأنه ليس فيه التصريح بها - فالحديث التالي صريحٌ في خطبة الجمعة، وهو نصٌّ في الموضوع المُعَنْون له.

قال البخاري في "صحيحه": "باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة"، ثم أسند عن أنس بن مالك قال: "أصاب الناس سِنَة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم جمعة؛ فقام أعرابيٌّ فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال؛ فادعُ الله لنا. فرفع يديه، وما نرى في السماء قَزَعَة، فوالذي نفسي بيده ما وضعهما حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيتُ المطر يتحادر على لحيته - صلى الله عليه وسلم -! فمُطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد، والذي يليه.. حتى الجمعة الأخرى!! وقام ذلك الأعرابي - أو قال غيره - فقال: يا رسول الله، تهدَّم البناء وغرق المال؛ فادعُ الله لنا، فرفع يديه، فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجَوْبة... "؛ الحديث.

وقد ذكر الشَّعراني في "كشف الغمَّة"[52] بلا عزو: "قال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الكلام والإمام يخطب، ويرخِّص في تكلُّمه وتكليمه لمصلحةٍ".

والمصادر التي قال إنه نقل منها الأحاديث في أول كتابه كلها مصادر معروفة، وهي الأصول المتداولة في الحديث، باستثناء بعضها، فإن صحَّ هذا الحديث فيكون قاطعًا لكل نزاع، ولكن دون معرفة درجته خَرْط القَتاد كما يقولون، ثم إن الكلام عندما يجلس الخطيب على المنبر وأثناء الأذان وقبل شروعه في الخطبة جائزٌ عند الجمهور، سواءٌ بالنسبة إلى الخطيب أو بالنسبة إلى المصلِّين، ومنعه الحنفيَّة كما سيأتي.

أما بالنسبة إلى الخطيب؛ فقد فعل عثمان بن عفان ذلك في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو خليفة، ولا شك أن عددًا من الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا حاضرين، فلم يُنقل أنه أنكر عليه؛ ففي "مصنف عبدالرزاق"[53] عن موسى بن طلحة: "رأيتُ عثمان جالسًا على المنبر يوم الجمعة والمؤذِّنون يؤذِّنون، وهو يسأل الناس عن أسعارهم وأخبارهم"؛ قال المحدِّث حبيب الرحمن الأعظمي بهامشه: "أخرجه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. قاله الهيثمي".

وأما بالنسبة إلى المصلِّين؛ ففي "مدوَّنة سحنون"[54]: "قال ابن القاسم: رأيتُ مالكًا والإمام يوم الجمعة على المنبر قاعدٌ، ومالك متحلِّق في أصحابه قبل أن يأتي الإمام وبعدما جاء، يتحدَّث ولا يقطع حديثه، ولا يصرف وجهه إلى الإمام، ويُقبل هو وأصحابه على حديثهم كما هم حتى يسكت المؤذن، فإذا سكت المؤذن وقام الإمام للخطبة تحوَّل هو وأصحابه إلى الإمام فاستقبلوه بوجوههم. قال ابن القاسم: وأخبرني مالك أنه رأى بعض أهل العلم ممَّن مضى يتحلَّق يوم الجمعة ويتحدَّث؛ فقلت لمالك: متى يجب على الناس أن يستقبلوا الإمام يوم الجمعة بوجههم؟ قال: إذا قام يخطب، وليس حين يخرج".

وهذا هو المعمول به في المذهب، كما في "المختصر" ممزوجٌ بالدَّرْدير: ""وككلام" مَنْ غير الخطيب؛ فإنه يحرم "في" حال "خطبته" لا قبلهما، ولو حال جلوسه، ولذا قال: "بقيامه"؛ يعني: حال قيامه والشروع في التكلُّم بهما".

قال الدسوقي: "قوله "قيامه": الباء للظرفيَّة، وهي متعلِّقة بمحذوف صفة "لخطبتَيْه"، أي: الكائنتَيْن في حال قيامه، لا أنه بدل من خطبتَيْه، لإيهامه أن بالقيام لهما يحرم الكلام ولو من غير أخذ في الخطبة، وليس كذلك؛ أي أنه وإن قام للخطبة ولم يخطب بالفعل فالكلام مباحٌ".

وبالنسبة إلى بقية المذاهب قال ابن قُدامة[55]: "فصلٌ: لا يُكره الكلام قبل شروعه في الخطبة وبعد فراغه منها، وبهذا قال عطاء وطاوس، والزهري، وبكر المُزَني، والنَّخعي، ومالك، والشافعي، وإسحاق، ويعقوب، ومحمد، وروي ذلك عن ابن عمر، وكرهه الحَكَم، وقال أبو حنيفة: "إذا خرج الإمام حرم الكلام"، قال ابن عبد البر: "إن عمر وابن عباس كانا يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام، ولا مخالِف لهما من الصحابة. ولنا: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قلتَ لصاحبك والإمام يخطب: أنصت؛ فقد لَغَوْتَ))، فخصَّه بوقت الخطبة"، وقال ثعلبة ابن أبي مالك: "إنهم كانوا في زمن عمر إذا خرج عمر وجلس على المنبر، وأذَّن المؤذِّنون - جلسوا يتحدَّثون، حتى إذا سكت المؤذِّنون وقام عمر سكتوا فلم يتكلَّم أحدٌ، وهذا يدلُّ على شهرة الأمر بينهم، ولأن الكلام إنما حَرُمَ لأجل الإنصات للخطبة، فلا وجه لتحريمه مع عدمها". وقوله: "لا مخالف لهما من الصحابة"، قد ذكرنا عن عمومهم خلاف هذا القول".

وأما كلام الخطيب بعد نزوله من المنبر وقبل الصلاة؛ فقد تقدَّمت إشارة الحافظ ابن حجر إليه في نقل الحطَّاب عنه؛ حيث ذكر حديث أنس: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكلّم بالحاجة إذا نزل من المنبر"، ولفظه في "المدوَّنة": "ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل عن المنبر يوم الجمعة فيكلِّمه الرجل في الحاجة، ثم يتقدَّم إلى مصلاَّه فيصلِّي"، وقد أخرجه أبو داود[56] والترمذي[57]، والنَّسائي[58]، وابن ماجه[59]، وفيه كلامٌ من جهة وهم جرير بن حازم في كون ذلك كان في صلاة الجمعة، ولكن الحافظ ابن حجر سكت عن رواية الجمعة كما تقدَّم، وقد اشترط في مقدمة "الفتح" أنه لا يسكت إلا عن الصحيح والحسن، كما أن الحافظ العراقي رجَّح هذه الرواية[60].

وبعد:
فإن الحديث عن خطبة الجمعة شيِّقٌ وممتعٌ؛ لأنه موضوع حيٌّ ومتجدِّدٌ، والواقع أنه في حاجة إلى موسوعة تضمُّ كلَّ الأحاديث والآثار الواردة فيه[61]، ثم جَمْع كل ما كُتب حوله في كتب الفقه والخلاف، وتلخيص المؤلَّفات الخاصَّة فيه، وترتيب ذلك، ثم وضعه بين يَدَي الخطباء دليلاً هاديًا ومرشدًا.

ولولا ضيق الوقت وتأخر الإعلام بتحضير هذا البحث، وكونه جاء في أثناء السنة الدراسية وزحمة الدروس - لاستوعبتُ بقية الموضوعات المتعلِّقة بخطبة الجمعة - وهي كثيرةٌ جدًّا - بحسب الوسع والطاقة، ولكن هذا ما أمكن إنجازه في هذا الوقت القصير. ولعل الله ييسِّر فرصةً أخرى لإتمام بقية الموضوعات، وللحافظ شمس الدين محمد بن طولون الحنفي كتاب "التقريب لشرائط الخطابة وصفات الخطيب"[62]، يظهر أنه توسَّع فيه في هذا الموضوع بحسب نقول السيد محمد مرتضى الزبيدي عنه في شرح الإحياء، ولو وُجِدَ لكان مفيدًا في هذا الباب. 

 

 

------------------------------------
[1]  بحث أُلقي في الملتقى العالمي لخطباء الجمعة (الدورة الثانية)، الذي نظمته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية بمراكش بتاريخ 2، 3، 4 شعبان 1413هـ. 
[2]  2 / 179. 
[3]  2/ 62. 
[4]  في شرح مسلم: 2/ 221. 
[5]  في شرح مسلم: 4/ 126. 
[6]  5 / 475. 
[7]  3 / 422. 
[8]  في فتح الباري: 2 / 331. 
[9]  في سننه: 1 / 352. 
[10]  في مجمع الزوائد: 2 / 184. 
[11]  5 / 1993. 
[12]  في مصنفه: 3 / 192. 
[13]  2 / 206. 
[14]  3 / 205. 
[15]  4 / 527. 
[16]  وهو الشيرازي في المهذب [ م. س]. 
[17]  2 / 114. 
[18]  1 / 150. 
[19]  في فتح الباري: 2 / 328. 
[20]  2 / 204. 
[21]  2 / 59. 
[22]  1 / 156. 
[23]  في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: 2 / 369. 
[24]  في كتاب" أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم": 146. 
[25]  في المغني: 2 / 156. 
[26]  1 / 117. 
[27]  في المجموع: 4 / 528. 
[28]  2 / 170. 
[29]  2 / 172. 
[30]  1 / 120. 
[31]  2/ 65. 
[32]  1 / 150. 
[33]  2 / 237. 
[34]  4 / 523. 
[35]  في المغني: 2 / 168. 
[36]  المجلد: 2 الصفحة 337 فما بعدها. 
[37]  3 / 106. 
[38]  في سننه: 1 / 292. 
[39]  في سننه 3/ 103. 
[40]  في سننه 1/ 354. 
[41]  أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، انظر: مختصر سنن أبي داود للمنذري: 2 / 20. 
[42]  أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: 3 / 218. 
[43]  انظر تفصيل القصة في "معرفة السنن والآثار" للبيهقي2/ 504، و"السنن الكبرى" له: 3 / 221، و" التلخيص الحبير" لابن حجر: 2 / 60. 
[44]  1/ 262. 
[45]  في شرح معاني الآثار: 1 / 368. 
[46]  وقد تحدثت بإسهاب عن هذا المجال والحد الذي يقف عنده، مؤيدا بشواهد من تصرفات الصدر الأول في البحث الذي شاركت به في الملتقى الأول لخطباء الجمعة بالمغرب بعنوان "الخطباء ورجالاتها عبر التاريخ الإسلامي" بدءا من صفحة: 10. 
[47]  في المجموع: 4/ 521. 
[48]  في المغني: 2 / 157. 
[49]  في الإعلام بقواطع الإسلام: 2 / 54 (بهامش كتاب الزواجر). 
[50]  شرح الحطاب على المختصر: 2 / 177. 
[51]  6 / 165. 
[52]  1/ 187. 
[53]  3 / 215. 
[54]  1 / 148. 
[55]  في المغني: 2 / 196. 
[56]  في سننه: 1 / 292. 
[57]  في سننه: 2 / 394. 
[58]  3 / 110. 
[59]  1 / 354. 
[60]  كما في تعليق الشيخ أحمد شاكر على سنن الترمذي: 2 / 395. 
[61]  وقد فعل ذلك بعض المعاصرين، ونشر في دار العاصمة بالرياض. [ م. س]. 
[62]  ذكره ابن طولون نفسه في كتابه الفل المشحون حول أحوال محمد بن طولون "الفلك المشحون في أحول محمد بن طولون" صفحة: 134 مكتبة القدسي – دمشق سنة 1348 هـ [م. س]. 
 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات