القرار الجديد للهيئة وتاريخ العلماء مع الدولة

سليمان بن حمد العودة

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

لكن المتتبع للتاريخ وحوادثه يرى في الآونة الأخيرة تسارعاً بما يسمى في (الإصلاح) والإصلاح مصطلح مشترك كل يزعم وصلاً به، ولكن الميزان الذي يحتكم إليه في قبوله أو رفضه هو نصوص الوحيين (الكتاب والسنة)، والذي ينص نظام الحكم في المملكة العربية السعودية على تعظيمهما وتحكيمهما والصدور عنهما؛ فهل وجد خلل أو تجاوز لأعظم ..

 

 

 

الحمد لله ربط الأمن بالإيمان(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، والصلاة والسلام على نبي الأمة وقد أُنزل عليه (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).

 

وبعد: فحين نعود للتاريخ فمن المؤكد أن الدولة السعودية الأولى قامت على تعاقد وتعاهد بين الإمامين محمد بن سعود، ومحمد بن عبدالوهاب رحمهما الله، ومهما اختلف المتخصصون أيهما استفاد أكثر من الآخر (السياسي أم الدعوي) فمن المؤكد كذلك أن كلاً منهما استفاد من الآخر، فما انتشر صيت المؤسس الأول محمد بن سعود داخل الجزيرة وخارجها وما ثبتت أركان دولته إلا بفضل الله أولاً، ثم بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وفي المقابل ما كان لدعوة الشيخ أن تنتشر وتبلغ الآفاق وأن تتجاوز كيد الخصوم إلا بفضل من الله أولاً، ثم بدعم وحماية الدولة السعودية الأولى.

 

وحين نقفز مراحل التاريخ لنصل إلى الدولة السعودية الثالثة نجد كذلك علاقة وتعاوناً بين المؤسس الملك عبدالعزيز يرحمه الله والعلماء، وكذلك نقول استفاد كل طرف من الآخر، وحظي العلماء بمكانة واستتب الأمن في الجزيرة، وانتشرت الدعوة وتفرق العلماء في آفاق الجزيرة يدعون إلى الله، ويؤسسون لأماكن العلم وحلقاته، ومهما شابت هذه العلاقة من فتور أو خلاف لظروف وأسباب في فترة محددة، فقد كانت السمة العامة الود والتناصح والمشورة والطاعة، وإظهار أعلام الشريعة.

 

ومات المؤسس يرحمه الله واستمر أبناؤه من بعده على نهجه في حكم البلاد، يقدرون العلماء ويستشيرونهم، ومهما قيل عن ضعف متدرج في هذه العلاقة حيث برز من ينافس العلماء في المشورة، وصدرت قوانين وأنظمة لم يُستشر فيها أهل العلم، ووقع في الدولة ممارسات ونشأت مؤسسات لا يقرها العلماء، فإن السمة الغالبة هي المشورة والتعاون والتناصح والسمع والطاعة، وللحق فثمة مكتسبات ومؤسسات لما يُسمى بـ(المؤسسة الدينية) لا يكابر في وجودها إلا جاهل أو حاقد، ولا تزال سمت المنهج السلفي ظاهرة حتى الآن -وإن وجد ما ينافسها أو يسعى لهدم بنيانها-، وسنة الصراع بين الحق والباطل قديمة متجددة.

 

لكن المتتبع للتاريخ وحوادثه يرى في الآونة الأخيرة تسارعاً بما يسمى في (الإصلاح) والإصلاح مصطلح مشترك كل يزعم وصلاً به، ولكن الميزان الذي يحتكم إليه في قبوله أو رفضه هو نصوص الوحيين (الكتاب والسنة)، والذي ينص نظام الحكم في المملكة العربية السعودية على تعظيمهما وتحكيمهما والصدور عنهما؛ فهل وجد خلل أو تجاوز لأعظم بند في نظام الحكم؟ وأين مواقع العلماء في الدولة مؤخراً؟.

 

الحق أن أعظم التجاوزات كانت في فترة حكم سابقة، وقد ساد فيها نوع نفرة بين العلماء والأمراء، حتى إذا حكم الملك سلمان -وفقه الله- استبشر الناس خيراً وتنفس العلماء وغيرهم الصعداء، وعبر المفكرون عن هذه الفترة بتسميتها (الدولة السعودية الرابعة)، وتفاءل الناس خيراً بالقرارات الصادرة والإصلاحات التي تمّت، ثم جاءت (عاصفة الحزم) لتكون بلسماً شافياً لا لشعب المملكة فحسب، بل ولأهل السنة عموماً، الذين ضاقوا ذرعاً بممارسات الرافضة، وتغلغل الصفوية في عدد من بلدان المسلمين، كما جاء التحالف الإسلامي العسكري ليبشر بوحدة عربية وإسلامية مقابل التهديدات الإقليمية والدولية، ويرسل رسالة للعالم أننا قادرون على حماية أنفسنا وعلى جمع كلمتنا.

 

وفي ظل هذه المرحلة كان التخطيط والتأسيس لمرحلة قادمة في (التحول الوطني) وحيث لا يصح الحكم على هذا التحول قبل ممارسته ومعرفة إيجابياته وسلبياته، إلا أن هناك شعوراً بأن هذا التحول قد يصاحبه دخول شركات كبرى يحمل أفرادها قيماً وأفكاراً غريبة على البلد، حتى فسَّر البعض قرار إلغاء صلاحيات الهيئات الجديد (بالقبض والضبط) مسايرة لهذا التحول، وتنازلاً عن ضبط القيم لأجله.

 

وأياً ما كان صحة هذا التفسير أو غيره لصدور هذا القرار، فالذي اتفق عليه عامة الناس وخاصتهم، علماؤهم وعامتهم، ونخبهم وسواهم .. أن القرار قد استعجل في إصداره، ولم يُستشر أهل العلم والحسبة فيه، واستعجل كذلك في متابعة تنفيذه، ولم يمر كغيره من القرارات السيادية المهمة ويدرس عبر حلقات طبيعية (كمجلس الشورى) ووجد المختصون في الأنظمة وسواهم مداخل على هذا القرار، ومن هنا توجّه العلماء وطلبة العلم وعموم الناس لولاة الأمر بطلب إلغاء هذا القرار، الذي اعتبر ضربة للمؤسسة الدينية في البلد، حيث تمثل الهيئة حصناً مهماً (تُقلص صلاحياته، ويهمش رجاله، سبقه إضعاف (لتعليم البنات) بدمجه بتعليم البنين، ومهما اختلفت وجهات النظر في هذا (الدمج) إلا أنه كان خطوة اعتبرها العلماء -حينها- غير مسبوقة، ولم يستشر العلماء فيها، وأعقب ذلك خطوة ثالثة تُحسب كذلك في إضعاف مؤسسات الدولة الدينية، حيث جرى تعديل في بعض (أنظمة القضاء)، وأعظم من ذلك تم فصل ونقل مجموعة من القضاة في سابقة على استقلال القضاء وحماية جناب القضاة.

 

وخلاصة القول: وبعد استعراض شيء من علاقة العلماء بالدولة، وبعد صدور القرار المزلزل فإن العقلاء باتوا يتخوّفون من مستقبل تُطلّ فيه الفتنة، وينذر بالاختلاف والفرقة.

 

ومن هنا لزم التذكير والتنبيه للأمور التالية:

 

1- التمكين في الأرض أحد أركانه الكبرى (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)، ومن المغالطة أن يقال إن بقاء الهيئات -وهي الجهة الرسمية للأمر والنهي- بعد هذا القرار قادرة على مزاولة دورها بما يرضي الله ورسوله، ويحارب الرذيلة، وليس يخفى أن لعن بني إسرائيل كان سببه (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) .

 

2- العلماء وطلبة العلم والمحتسبون عمق للدولة والمجتمع بعددهم وقدرهم، فهم يمثلون شريحة كبرى في مجتمعنا المحافظ، لا يقف عند حدود طلبة العلم الشرعي، بل يتجاوزه إلى كل غيور على دينه وحرمات وأمن بلده، وهم كذلك محل الثقة في فتاواهم وتوجيهاتهم وقد منحتهم الدولة وحدهم حق (الفتيا، وبلاغ الدعوة، والقيام بشعيرة الاحتساب، والنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).

 

3- وهؤلاء العلماء وطلبة العلم والدعاة هم سند الدولة ومحل ثقتها في الأزمات بعد الله تعالى، وقد أثبتت الأحداث صدق مواقفهم مع الدولة حين الأزمات (وفي حادثة الحرم، وأزمة الخليج، والتحذير من مسلك الإرهاب بغلوه القاتل للأنفس والمدمر للممتلكات، أو بجفائه وحربه لقيم البلد والسخرية بعلمائه، ومؤسساته الشرعية، أو بمذهبيته المرتبطة بأجندة خارجية، كانت (حنين) نموذجاً لها) هذه وغيرها نماذج لمواقف العلماء مع ولاة الأمر في حماية البلد من مهددات أمنه وقيمه.

 

وهذا التاريخ المتميز للعلماء مع الدولة لا يليق أن يكافأ بمثل هذه القرارات المستعجلة.

 

4- وفي المقابل فأهل العلمنة والتغريب وأصحاب الشهوات والأهواء نكرات برزت، وأصحاب ولاءات وأجندة خارجية ليسوا محل ثقة المجتمع، ولا هم بالنصحة لولاة الأمور، وحقهم أن يُلجموا وأن يوضع حدٌ لمكرهم وأن يُتفطن لأهدافهم، وماذا بعد اعتبارهم لشعيرة من شعائر الإسلام(الحسبة) (أذى) ينبغي إماطته عن الطريق؟ بزعمهم.

 

5- بلادنا حرسها الله مستهدفة من عدد من الدول والنحل، ومحسودة على أمنها واجتماع كلمة شعبها، وهذه القرارات غير المدروسة سبب للفرقة والاختلاف والبلبلة، تتيح فرصة للمتربصين، ويراهن عليها المفسدون، ومن الحكمة ألا نعطي الفرصة لهؤلاء وأولئك.

 

6- ومع استنكار القرار الجديد للهيئات، فالعقلاء وأهل الغيرة – وفي مقدمتهم العلماء وطلاب العلم وأهل الدعوة الاحتساب – كانوا ينتظرون تطويراً ودعماً للهيئات بتحويلها إلى وزارة، ودعمها بالمال والرجال.

 

7- وبعد هذا القرار المزلزل بات بعض الناس يقول: هل نحن مقبلون على مرحلة جديدة في منظومة التحول الوطني، وهل من مصلحة البلاد والعباد الحدّ من صلاحيات الهيئات والمؤسسات الشرعية، والاستغناء عن مشورة العلماء ونصحهم؟ تلك رؤية ورؤية أخرى أكثر تفاؤلاً تقول: إن الأمر سيعود إلى نصابه فتاريخ الملك سلمان مع العلماء، ووجوب السمع والطاعة عند العلماء كل ذلك مدعاة للفأل الحسن.

 

8- وهذه (النازلة) وما قد يتبعها فرصة لتوحيد كلمة أهل العلم واجتماع رأيهم، وأن يقوموا لله مثنى وفرادا لتقديم النصح والمشورة لمن ولاه الله أمرهم، لا يكتفون بإرجاع مثل هذا القرار المستعجل، بل يضعون أيديهم مع الدولة في حماية البلد من المخاطر، واستصلاح مؤسساتها وتطوير آليات أدائها، تطويراً لا يتجاوز حدود الشرع، ولا يرفض التحديث المنضبط.

 

9- ومن دلالات الحدث (العميقة) أن مجتمعنا فيه خيرٌ عظيم، فرجالات (الهيئة) يألمون، مع أن القرار الجديد يخفف من معاناتهم ومخاطرهم، والمجتمع بأطيافه المختلفة وتخصصاته المتنوعة يتحول إلى رجال (حسبة) يتحركون، ويكتبون، وينكرون، وولاة أمرنا لا يخرجون عن هذه الخيريّة، وهم يقدّرون هذه المشاعر الصادقة ويعيدون للهيئات هيبتها وصلاحياتها، وما خابت أمة ولا مجتمع تحيا شعيرة الأمر والنهي في ذاكرتها.

 

10- ومسك الختام يُذكر الجميع بتقوى الله وحسن الظن به، فله الأمر من قبل ومن بعد، وهو أغير لدينه وحرماته منا، فلا يأس ولا قنوط، ولا قول منكر، ولا فعل يستنكر، مع بقاء العمل المثمر والرجاء الأمثل، والصبر الجميل، فالعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا يستخفّنكم الذين لا يوقنون.

 

اللهم احفظ بلادنا من كل سوء واجمع كلمتنا على الحق واكفنا شر الأشرار وكيد الفجار ووفق ولاة أمرنا لفعل الخيرات وإنكار المنكرات.

 

 

أ.د. سليمان بن حمد العودة

جامعة القصيم

17-7-1437هـ

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات