الخطابة وأثرها في واقع الأمة

مرشد الحيالي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وبعض هؤلاء استغل هذا المنصب الديني الرفيع بالتشهير بعلماء الأمة وفقهائها، والطعن فيهم والرد على من خالفه في رأيه ولا حول ولا قوة إلا بالله، حتى أصبح خطباؤنا علة من العلل في تأخر الأمة وانحطاطها وذلها وفقرها، وأصبح هؤلاء في بعض الأحيان أشد على المسلمين والأمة من أعدائها الخارجين، بل..

 

 

 

 

إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. 

 

إما بعد:

 

فان خير الكلام كلام الله، وخير الهدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعه وكل بدعه ضلاله وكل ضلاله في النار.

 

فهذه كلمات ونصائح وإرشادات أقدمها لأخي الخطيب؛ ليعمل بها ويطبقها عندما يعتلي منبرا، أو يصعد شرفا ليخطب ويذكر، وأرجو أن يجد الخطيب ما يسد حاجته في الخطابة، لأن ما يقوله واعظ هو نفسه ما يقوله الآخر, وإن اختلف الأسلوب والتعبير، وقد كنت مترددا في كتابة هذا الموضوع ولكن هنالك جملة أمور دفعتني إلى الكتابه منها:

 

أولا: أني مارست الخطابة قرابة عشر سنين؛ حتى تعرفت على معظم الأخطاء القولية والفعلية لدى الخطباء.

 

ثانيا: معرفتي التامة لما للخطبة من أثر هام في هداية الأمة، وعلاج معظم الانحرافات والأمراض الاجتماعية التي تصاب بها الأمة سواء ما يتعلق منها بالعقيدة أو السلوك، وأرجو أن تكون هذه الكلمات والأسطر نافعة للخطيب الذي هو حديث عهد بالمنبر أو من قطع شوطا فيها، عسى أن يجد فيها ما يدعوه إلى تصحيح خطأ وقع فيه، أو ينمي مواهبه الثقافية والدينية، ويطور من أسلوبه وأدائه الخطابي وبالله التوفيق.

 

وسيجد القارئ ذكر بعض أخطاء صدرت من بعض الخطباء في هذا الوقت، وأرجو أن يعذرني فيها, فأني ذكرتها للاستشهاد ولتقريب المعلومات، ولم أقصد من ورائها التجريح ولا التشهير والله من وراء القصد، وأرجو من الله -عز وجل- أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم ولا يجعل لأحد فيه شيئا.

 

منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى-:

 

يعرف كل متأمل لأحوال الأنبياء وسيرهم أن دعواتهم قامت على ثلاث قواعد وركائز هي أساس منطلقهم في الدعوة إلى الله آلا وهي: التوحيد، والإتباع, والتزكية.

 

وأعظم هذه الأصول على الإطلاق هي توحيد الله وإخلاص العبادة له، والذي تضمنه غالب سورة القرآن، والذي هو موضوع الصراع الذي دار بين الأنبياء وبين خصومهم من المشركين المكذبين، ولا يزال هذا الصراع قائماً, ولعله يستمر إلى الله أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولقد انطلقت دعوات هؤلاء الأنبياء وعلى رأسهم أولي العزم من منطلق واحد وهو توحيد الله الذي هو أعظم القضايا التي حملوا معانيها إلى الإنسانية في جميع الأحوال. 

 

وعلى رأس هؤلاء الأنبياء محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد بدأ بما بدأ به الرسل من الدعوة الى إخلاص عبادة الله، وأول ما طرق مسامعهم قوله لا إله إلى الله، وتذكر كتب السير والتاريخ أن الرسول لاقى أشد الإيذاء والسخرية من قومهم، ووجهت إليه شتى الافتراءات والتهم والتي كانت في بعض الأحيان أشد من وقع السياط والسهام، واحتمل -صلى الله عليه وسلم- في سبيل نشر الإسلام وتبليغ الدعوة ما لا تحتمله النفوس الأبية.

 

فقد ذكر أهل السير أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمد إلى الناس من بني ثقيف وأشرافهم فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم من نصره الإسلام، والقيام معه على من خالفه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة، وقال الآخر: آما وجد الله أحداً أرسله غيرك؟ وقال ثالث: والله لا أكلم أبدا، لئن كنت رسولا من عند الله لأنت أعظم خطرا من أن ارد عليك, ولئن كنت تكذب على الله ما كان ينبغي لي أن أكلمك. وهذا يدل على أن ما لاقاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سبيل نشر الدعوة من سخريه واستهزاء أعظم من كل بلاء.

 

وقد استمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سبيل نشر هذا المبدأ الأسمي صابرا محتسبا على كل أنواع الأذى والسخرية، وسلك من أجل ذلك جميل الطرق والوسائل التي تمكنه من إيصال الدعوة إلى الناس كافه، ومن هذه الطرق:

 

أولا: دعوته للأقربين والاجتماع بهم: فقد أخرج أحمد عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "لما أنزل الله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214] أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصفا والمروة، فصعد عليه ثم نادى: يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا بني عبد المطلب, يا بني فهر, يا بني كعب: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا نعم، قال: فأني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟ فأنزل الله (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد: 1]".

 

ثانيا: ذهابه إلى الأماكن التي يجتمع فيها الناس كالأسواق مثلا،  فقد أخرج أحمد عن ربيعه بن عباد وكان جاهليا فأسلم, قال رأيت رسول الله في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: "يا أيها الناس: قولوا لا إله إلى الله تفلحوا، والناس يجتمعون حوله، ووراءه رجل وضيء الوجه ذو ضفيرتين يقول: إنه صابئ كاذب, يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: إنه عمه أبو لهب".

 

ثالثا: رحلته إلى الأماكن البعيدة: وقد رحل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف فدعاهم إلى الله فلم يجيبوه؛ بل آذوه الإيذاء الشديد،  وأغروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- سفهاءهم، فآذوه ورموه بالحجارة حتى سأل الدم على رجليه الشريفتين.

 

رابعا: تكليفه لمن أسلم من أصحابه أن يبلغ الناس، وذلك أن الأنصار لما آمنوا برسول الله، واطمأنت نفوسهم إلى دعوتهم، وأيقنوا بها بعث إليهم الداعية مصعب بن عمير يعلمهم الإسلام، فلم يزل يقرأ عليهم القرآن، ويشرح لهم معاني الحق حتى لم يبق دارا من دور الأنصار ألا وأسلم ودخل في دين الله.

 

خامسا: إرساله -صلى الله عليه وسلم- الرسل والرسائل إلى ملوك العالم: فقد بعث رسول الله مع عمرو بن أميه الضمري الى النجاشي كتابا، وبعث إلى هرقل عظيم الروم يدعوه إلى الإسلام، وبعث رسالة إلى كسرى عظيم الفرس يدعوه إلى الإسلام، وأرسل رسول الله رسائل مشابهه الى أهل نجران، والى ملك اليمامة، والى ملوك الأرض يومئذ يدعوهم إلى الإسلام، فهو -صلى الله عليه وسلم- لم يفوت فرصه تمكنه من أن يبلغ رسالة ربه إلا وفعلها سواء كان ذلك بالاتصال الشخصي أو بالاتصال الجماع، أو بإرسال الكتب والرسائل لكي لا تبقى لإنسان على وجه الأرض حجه عليه في أنه لم يبلغه دعوة الله -عز وجل-.

 

وهذا النهج أي التأكيد في الدعوة على التوحيد وإخلاص العباده لله الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة ظل مستمرا كما بيناه آنفا حتى بعد انتقال الرسول إلى دار الهجرة وبناء دولة الإسلام، فكانت الآيات التي تنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تؤكد على التوحيد، وتختم بأصل من أصوله.

 

وبفضل هذا التأكيد على التوحيد ومعانيه، والتربية الحقة صفت نفوس الصحابة، وأصبحوا في المقدمة،  ومكنتهم تلك التربية من تحمل أعباء الرسالة والعمل في سبيل الإسلام في ربوع الأرض وإرجاء المعمورة، ولهذا وجب على المسلم خطيبا كان أو واعظا أن يؤكد في دعوته على هذا الأصل وهو الإيمان بالله وباليوم الأخر، ولا يغفل عنه أبدا لأي اعتبار لأن هذا هو الأصل، فإذا استقام هذا الأصل سهل على الناس الاقتناع لبقية فروع الدين، وأحكام الشريعة الغراء، وإذا لم يستقم ذلك رفض الناس ذلك ولو زخرف لهم القول وحسنه، وصعب عليه إقناعهم بغيره.

 

وهذا الأمر لازم للواعظ والمرشد في دعوته بالنسبة لصفين من الناس:

 

أولا: ضعاف الإيمان من المسلمين والذين لم يستقم الإيمان في نفوسهم، ولم تتشرب قلوبهم به، والذين يظهر منهم العصيان والمخالفات الشرعية، وسلوك طرق الغواية، واستثقال التكاليف الشرعية، فهؤلاء يحتاج الواعظ منهم إلى أن يرشدهم إلى غاية عظيمه من ابتغاء مرضاة الله، وأن ما عنده خير لمن اتقى ولا يظلمون فتيلا.

 

ثانيا : الذين لا يظهر عليهم ارتكاب الكبائر والموبقات, فهو لازم لهم أيضا لأن هذا التأكيد المستمر يقيهم في المستقبل ألوان الانحراف المختلفة فيما لو تعرضوا لها، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولذلك ينبغي على الخطيب أو الواعظ أن لا يستجيب لأهواء الناس ورغباتهم فيبتعد في بعض الأحيان عن التأكيد على التوحيد، ويكثر الكلام فيما لا فائدة فيه تعود على دينهم ودنياهم، ونتيجة ذلك بقاء الإمراض الشرك بأنواعه وأقسامه، مما يعرض الناس إلى البعد عن الإسلام، أو السير على غير علم وهدى، ومن ثم بقاء الداء،  والبدء في البنيان من الفرع لا من الأساس.

 

وعلى الواعظ والخطيب أن يتفقه في هذا الأمر، ويجعله نصب عينيه ويركز عليه في مواضيعه ومواعظه حتى يكون موفقا في عمله، مقتديا بإمام الأنبياء سيدنا محمد، وتكون دعوته على بصيرة وعلم وهداية.

 

الأصل في الدعوة هو التبليغ بالقول:

 

من المعلوم أن الغرض من بعثه الرسل هو إخراج الناس مما هم فيه من الجهالة إلى نور العلم والإيمان، وقد اختار الله -عز وجل- لهذه المهمة الشاقة أناس هم الصفوة المختارة من البشر، وأرسلهم الله في أقوامهم مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليبين لهم وليكون مرجعاً عند الاختلاف والتنازع لتقوم الحجة الرسالية على الناس كافه.

 

ولما كان الغرض من التبليغ وإيصال المعاني السامية المطلوبة إلى الناس ليفهموه ويعملوا به، ويطبقونه حتى يسعدوا في حياتهم وبعد مماتهم وهذا لا يحصل إلا بالقول والكلام، فالقول إذا هو الوسيلة الهامة في تبليغ الحق إلى البشرية جمعاء، وكان تبليغ الرسل لرسالات ربهم إنما هو بالقول قال سبحانه وتعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59]، وكان تبليغ رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- بالقول أيضا قال تعالى : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) [الأعراف: 158], وإلى جانب ذلك فقد منح الله العقل للإنسان ليفهم التكليف، وليدرك ما في التكاليف الشرعية من خير، وما حوته من حكمة، ثم ما جاءت به الرسل الكرام من التعاليم والأوامر وما جاءوا به من الدين القويم والمنهج السليم يلاءم ألفطره السليمة قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه عن ربه: "إني خلقت عبادي حنفاء:, أي على الفطرة.

 

وقد أمر الله جميع الأمم من لدن آدم -عليه أفضل الصلاة والسلام- إلى يومنا هذا وحتى تقوم الساعة بطاعة الأنبياء والانقياد لأوامرهم، وعدم مخالفتهم، وقد قص الله علينا حال الأقوام السالفة التي كذبت الرسل وما حل بهم من عذاب شديد في الدنيا، ومن عقوبات ربانيه وما ينتظرهم في الآخرة من العذاب الشديد، وقد كانت خطابات الأنبياء لأقوامهم تتميز بأمرين هامين يجدر بالخطيب والواعظ ملاحظتهما:

 

أولا: لقد تميزت خطاباتهم بالوضوح التام الذي لا لبس فيه ولا غموض، ولهذا أرسل الله الأنبياء بألسنة أقوامهم وبلغاتهم حتى يفهموا ما يقولون لهم، وما يدعوهم إليه قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم: 4], فعلى الواعظ أن يكون كلامه واضحا تمام الوضوح، ويكون خاليا من الألفاظ المعقدة، وليس معنى وضوح الكلام هو وضوحه لدى الخطيب أو الواعظ فليس هذا هو المقياس بل المقياس هو وضوح الكلام لدى الناس وعند الجمهور، تقول عائشة:-رضي الله عنها- في بيان وصفه وعظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان كلام رسول الله كلاما فصلا بينا ظاهرا, يفهمه كل من يسمعه، وكان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم".

 

ثانيا: وكذلك كانت خطابات الأنبياء تتميز باللطف بالقول، ونجد من كلامهم ما يثير رغبة الناس في سماع الكلام، وعمل الخير، وما يقمع فيهم نوازع الظلم والجهل والغرور، قال تعالى في ذكر المحاورة التي جرت بين إبراهيم الخليل وبين أبيه دعوته إلى الحق (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) [مريم: 41 - 44].

 

فانظر -رحمك الله- كيف أن إبراهيم الخليل استعمل في خطابة مع أبيه ما يدعوه إلى الاستجابة للحق، وما يقمع في نفسه نوازع الشر، وأنه ناداه بصفه الأبوة وبين له أنه يريد له الخير، وهذا أدعى إلى الاستجابة والقبول، وعندما قال له أبوه (لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم: 46], رد عليه الخليل قائلا: (سَلَامٌ عَلَيْكَ) [مريم: 47]، كما قال في صفة المؤمنين (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63], ومعنا (سَلَامٌ عَلَيْكَ) أي: إما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة، (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم: 47], ولكن سأسأل الله ان يهديك ويغفر ذنبك.

 

ولهذا ينبغي على الواعظ أن يستعمل في خطابة ألين الألفاظ وأحسنها، ولا بأس أن يستعمل الواعظ في خطابة ما يستثير همم الناس, وأن يذكر ضمن ذلك طيب النسب وكرم الأصل على شرط أن لا يخرج ذلك إلى حد المداهنة والنفاق وكتمان شيء من الحق, فإن هذا من أنواع النفاق المذموم, وإنما القصد من ذلك تشويق المدعوين الى قبول الحق والالتزام به، وقد ثبت في السيرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذهب إلى منازل قوم يقال هم بنو عبد الله فدعاهم إلى الإسلام، وكان من ضمن ما قال لهم: "يابني عبد الله: إن الله -عز وجل- قد أحسن اسم أبيكم". أي فعليكم أن تحسنوا الإجابة والقبول.

 

الخطبة نوع من أنواع القول:

 

أنواع القول وطرق الإرشاد في عصرنا كثيرة وعديدة ولكن الخطابه هي أشد هذه الطرق تأثيرا في النفوس، وخاصة إذا كانت صادره من قلب مخلص، وعقل سليم، وكان لصاحبها من طلاقة اللسان وحسن البيان ما يحسن أن يعبر به من المعاني الصحيحة بألفاظ وجيزة.

 

وقد كانت الخطابة أسلوبا قديما في الجاهلية، حيث يجتمع الناس عاده في سوق عكاظ، ويتبارى الشعراء والوعاظ في إلقاء ما عندهم من شعر ونثر، ولما جاء الإسلام زادها جمالا ورونقا، واشترط لها شروطا معينة، وألزم المسلمين بالإنصات لها إلى أمور أخرى موجودة في مظانها.

 

والخطابة تكون عاده لجمع من الناس قد لا يعرفهم الخطيب، أو يعرف بعضهم، ولا أقصد بالخطابة خطبه الجمعة فقط بل حتى في الميادين العامة، وفي الأماكن التي يتجمع فيها الناس، وحصر الخطابة في يوم الجمعة وفي المساجد وإن كان له تأثير واضح إلا أنه ضئيل لأن من يحضرون المساجد قليل بالنسبة إلى من لا يحضرون، وهكذا كان حال سلفنا الأول فقد كانت الخطابه والوعظ على المنبر وفي المسجد لكل مناسبة و ظرف وذلك مثل الاستسقاء، وعند نزول المصائب وعند الانتصار في الحروب وغير ذلك، ولكن للأسف أصبحت الخطابة في عصرنا وفي البلاد الإسلامية مقصورة على ما ذكرناه، بل وأصبحت هذه الخطابه وظيفة رسميه يحفظها الخطيب من الورقة قبل يوم ثم تلقى على المنبر وينتهي الأمر، لا يعالج فيها الخطيب مشاكل الناس الاجتماعية فيبقى الظالم ظالما، والعاصي عاصيا والمنافق منافقا.

 

وفي البلاد الإسلامية -بفضل الله- آلاف المساجد، وفيها الكثير من الخطباء ولكن للأسف قل فيهم من يحسن الإرشاد والوعظ، ويستطيع أن يأخذ بزمام القلوب فيأخذها إلى عزها ونجاحها وفلاحها في الدارين، وترى بعض هؤلاء يخطب خطبا ويتكلم كلاما يعلو أذهان السامعين ولا يفهم ذلك ربما إلا العلماء، وبعض هؤلاء يتكلم بالمسائل الدقيقة ليقال ما أقدره على البيان، وأقواه في الفصاحة واللغة، حتى سمعت بعض هؤلاء الجهلة يتكلم بما عرف عند الصوفية من التجليات والكشوفات، وذكر ضمن ذلك من المنامات التي لا سند لها، والقصص والخرافات المكذوبة، وقد يكون بعض هؤلاء الحاضرين مع عدم فهمه للكلام قد يكون مرتكبا للكبائر، تاركا لكثير من الفرائض والأوامر، وسمعت بعضهم أيضا يتكلم عن الصلاة ويقول فيها ثلاثون فرضا وهي كذا وكذا..... وفيها سبعون واجبا. ...، وفيها ثلاثون سنة.

 

وبعض هؤلاء استغل هذا المنصب الديني الرفيع بالتشهير بعلماء الأمة وفقهائها، والطعن فيهم والرد على من خالفه في رأيه ولا حول ولا قوة إلا بالله، حتى أصبح خطباؤنا علة من العلل في تأخر الأمة وانحطاطها وذلها وفقرها، وأصبح هؤلاء في بعض الأحيان أشد على المسلمين والأمة من أعدائها الخارجين، بل ومن دعاة الغي ولكن أقول ذلك حتى لا ينتشر البلاء وتعم الفوضى، وفي الآونة الأخيرة سمعنا أن بعض البلاد الإسلامية أخرجت أكثر من خمسين خطيبا من مساجدهم بدعوى عدم كفاءتهم الوظيفية، لما لهؤلاء الخطباء من التأثير والتوجيه الصحيح الطيب على الناس والله المستعان لا رب غيره.

 

هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوعظ والإرشاد:

 

إمامنا في الوعظ والخطابة هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل هو إمام الأنبياء وخطيبهم إذا وفدوا، وهو أول من رقى المنبر من أجل إرشاد الحائر، وهداية الضال، وتقويم الخطأ،  ثم سلك من بعده الخلفاء الراشدون نفس الهدي في التوجيه والإرشاد.

 

ولما كان المنبر له الأثر البالغ في صلاح الأمة وجمع كلمتها وإعزاز الحق وإزهاق الباطل، أحببنا في هذا الفصل أن نذكر هديه -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة ليكون الخطيب على بينة من أمره، فيسلك سبيله في الدعوة والإرشاد قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].

 

وإليك ذلك من كتاب زاد المعاد, يقول ابن القيم -رحمه الله- :

 

"خطب -صلى الله عليه وسلم- على الأرض وعلى المنبر وعلى البعير وعلى الناقة، وكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش, يقول: صبحكم ومساكم, ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين, ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: أما بعد, فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.

 

وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، وأما قول كثير من الفقهاء إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم فيه سنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- البتة، وسنته تقتضي خلافه وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد لله وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد وهو اختيار شيخنا -قدس الله سره-.

 

وكان يخطب قائما، وفي مراسيل عطاء وغيره أنه كان -صلى الله عليه وسلم- إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس, ثم قال: السلام عليكم, قال الشعبي: وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك. وكان يختم خطبته بالاستغفار وكان كثيرا يخطب بالقرآن،  وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت: "ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس". وذكر أبو داود عن ابن مسعود: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا تشهد قال: الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا". وقال أبو داود عن يونس أنه سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة, فذكر نحو هذا إلا أنه قال : "ومن يعصهما فقد غوى".

 

قال ابن شهاب: وبلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا خطب: "كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت، ولا يعجل الله لعجلة أحد ولا يخف لأمر الناس ما شاء الله لا ما شاء الناس يريد الله شيئا، ويريد الناس شيئا ما شاء الله كان ولو كره الناس ولا مبعد لما قرب الله ولا مقرب لما بعد الله ولا يكون شيء إلا بإذن الله".

 

وكان مدار خطبه على حمد الله والثناء عليه بآلائه وأوصاف كماله ومحامده، وتعليم قواعد الإسلام وذكر الجنة والنار والمعاد والأمر بتقوى الله، وتبيين موارد غضبه ومواقع رضاه فعلى هذا كان مدار خطبه. وكان يقول في خطبه : "أيها الناس إنكم لن تطيقوا -أو لن تفعلوا- كل ما أمرتم به ولكن سددوا وابشروا".

 

الخطبة في كل وقت حسب الحال:

 

وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم، ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة ويذكر فيها نفسه باسمه العلم. وثبت عنه أنه قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء".

 

ولم يكن له شاويش يخرج بين يديه إذا خرج من حجرته، ولم يكن يلبس لباس الخطباء اليوم لا طرحة ولا زيقا واسعا.

 

صفة منبره -صلى الله عليه وسلم- :

 

وكان منبره ثلاث درجات فإذا استوى عليه واستقبل الناس أخذ المؤذن في الأذان فقط، ولم يقل شيئا قبله ولا بعده, فإذا أخذ في الخطبة لم يرفع أحد صوته بشيء البتة لا مؤذن ولا غيره.

 

التوكؤ على العصا:

 

وكان إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها، وهو على المنبر كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب، وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك، وكان أحيانا يتوكأ على قوس، ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف وهذا جهل قبيح من وجهين أحدهما: أن المحفوظ أنه -صلى الله عليه وسلم- توكأ على العصا وعلى القوس. الثاني: أن الدين إنما قام بالوحي، وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك ومدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف.

 

العارض في الخطبة:

 

وكان إذا عرض له في خطبته عارض اشتغل به ثم رجع إلى خطبته، وكان يخطب فجاء الحسن والحسين يعثران في قميصين أحمرين فقطع كلامه فنزل فحملهما, ثم عاد إلى منبره ثم قال صدق الله العظيم: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15], رأيت هذين يعثران في قميصيهما فلم أصبر حتى قطعت كلامي فحملتهما.

 

وجاء سليك الغطفاني وهو يخطب فجلس فقال له : "قم يا سليك فاركع ركعتين وتجوز فيهما", ثم قال وهو على المنبر: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما".

 

وكان يقصر خطبته أحيانا ويطيلها أحيانا بحسب حاجة الناس، وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة، وكان يخطب النساء على حدة في الأعياد ويحرضهن على الصدقة والله أعلم". انتهى المقصود من إيراده.

 

يليه -إن شاء الله- ما ينبغي أن يكون عليه الخطيب من صفات وأخلاق.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
مرشد الحيالي
27-07-2017

جزاكم الله خيرا واحسن اليكم