أثر التنغيم الصوتي في إلقاء الخطبة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: إلقاء الخطبة

اقتباس

بالجملة التنغيم الصوتي من أهم أدوات التأثير اللغوي التي يجب على الخطيب امتلاك نواصيها، ومعرفة دروبها وسبلها؛ لتوظيف أدائه الصوتي بها؛ لتحقيق أعلى درجات التأثير والإفادة لجمهور المخاطبين، وهذا لا يكون إلا لأولي النهى والأبصار من خطباء الأمة.

 

 

 

يعتبر (الصوت) عالم متكامل، وعلم تخصصي، له درجاته ومميزاته وأوتاره ومستوياته، وهناك أناس لديهم نبرات مميزة من الصوت وهناك أناس يتعاملون مع الصوت كعلم يتفاعلون معه للمرة الأولى، وما بين هؤلاء وهؤلاء يبقى الصوت علماً تخصصياً لا بد لنا من فهمه وفهم أثره في المخاطبين. واليوم سوف نبحث جزئية معينة في علم الصوت، لها تأثير كبير في السامعين، وتحقق أهداف عدة للخطيب والمتحدث، ألا وهي جزئية (التنغيم).

 

يعتبر كثير من علماء اللسان والخطاب أن مصطلح (التنغيم) من المصطلحات الحديثة، حيث أنه يشير إلى التغيرات في الدرجات الصوتية التي تحدث في صوت المتكلم أثناء الحديث المتواصل، وهو ناتج طبيعي عن تذبذب الأوتار الصوتية. ويعتبرون التنغيم من خصائص اللغة المنطوقة إذ إنه يقتصر على التراكيب المسموعة دون التراكيب المقروءة، ويندر أن تخلو منه لغة من لغات البشر.

 

والواقع أن التنغيم الصوتي علم صوتي قديم له أصول هامة وبليغة في اللغة العربية، فقد روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه؛ حتى كأنه منذر جيش يقول: "صبَّحكم مسَّاكم " وفي ذلك دلالة على أهمية مراعاة درجة الصوت ونغمته أثناء إلقاء الخطبة،  قال النَّووي -رحمه الله تعالى-: "يستدل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، ويرفع صوته، ويجزل كلامه، ويكون مطابقًا للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب وترهيب "، قال القرطبي -رحمه الله تعالى-: " كونه -صلى الله عليه وسلم- تحمرُّ عيناه، ويعلو صوته، ويشتدُّ غضبه في حال خطبته، كان هذا منه في أحوال. وهذا مشعر بأنَّ الواعظ حقه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ما يطابقه؛ حتّى لا يأتي بالشيء وضده ظاهر عليه. وأمَّا اشتداد غضبه فيحتمل أن يكون عند نهيه عن أمر خولف فيه، أو يريد أن صفته صفة الغضبان".

 

علم التنغيم عند علماء الغرب والعرب:

مصطلح التنغيم عني به جميع علماء اللغويات واللسانيات من شتى الثقافات واللغات، إذ أنه جزء لا يتجزأ من منظومة الصوت المتكاملة، والتعريفات عند علماء العرب، وعلماء الغرب تكاد تكون متطابقة، والاختلاف في تفسير تأثير التنغيم على السامعين. فمثلاً عند علماء الغرب يرى (ماريو باي) "أن هناك ثلاثة ملامح تدخل في دراسة الجانب الصوتي للكلام كما تستقبله أذن السامع، والموجات الصوتية التي تصحبه وهذه الملامح هي: درجة الصوت، وعلوه، وكيفية تنغيمه، ويرى في تعريف الجانب الثالث وهو التنغيم أنه عبارة عن تتابع النغمات الموسيقية أو الإيقاعات في حدث كلامي معين، وأنه يعين على تمييز أصوات الأشخاص". أما (برتيل مالبرج) فيرى أن التنغيم: "تنوع في درجات الصوت ". ويعرفه (روبنز) بقوله: "إنه عبارة عن تتابعات مطردة من الدرجات الصوتية المختلفة".  في حين يعرفه (دانيال جونز) بقوله: "التغيرات التي تحدث في درجة نغمة الصوت في الكلام ". ويتضح جلياً من التعريفات المتقدمة أن التنغيم في مفهوم هؤلاء الباحثين يدور على وصف التغيرات الصوتية التي تطرأ على صوت المتكلم أثناء استرساله في الكلام.

 

أما فيما يخص علماء العرب فلا يختلفون في تعريفاتهم للتنغيم عن التعريفات الغربية، لكنهم يرون أن الأنماط التنغيمية تعتبر أو تحدد بالنظر إلى شكل النغمة المنبورة الأخيرة – أي بالنسبة إلى نهاية النغمة وصفتها من الارتفاع والانخفاض- فإنها تنقسم على قسمين:1-النغمة الهابطة: وهي تتصف بالهبوط في نهايتها. 2-النغمة الصاعدة الثابتة وهي تتصف بالصعود في نهايتها.

 

وظائف التنغيم:

للتنغيم بهذا الوصف المتقدم وظائف متعددة في عملية الاتصال بين المتكلمين، يأتي في مقدمتها وظيفتان:

الأولى: وظيفة نحوية، إذ يقوم التنغيم ببيان اكتمال الجمل أو عدمه، وهو ما يؤدي إلى تصنيف الجمل إلى أنماطها المختلفة من تقريرية واستفهامية وتعجبية؛ لأن من المعلوم أن لكل جملة نمط خاص من التنغيم في نهايتها.

الثانية: وظيفة دلالية سياقية، حيث ينبئ اختلاف النغمات، وفقاً لاختلاف المواقف الاجتماعية عن وجهات النظر الشخصية من رضا وقبول وزجر وتهكم وغضب وتعجب ودهشة ودعاء... الخ، حيث يقوم التنغيم بأداء هذه المعاني بمعونة السياق العام المتعلق بالظروف والمناسبات التي يلقى فيها الكلام.

 

وبذا يكون عنصر التنغيم ركناً أساسياً في الأداء يتحكم على نحو واضح في تحديد المعنى وتوجيهه، اعتماداً على كيفية نطق الجملة وتنغيمها، إذ إن تغير النغمة قد يتبعه تغير في الدلالة، إذ هو يضفي على التراكيب المنطوقة معاني إضافية، لا يمكن الوصول اليها بمجرد معرفة معاني مفردات هذا التركيب أو ذاك، ولا تفهم غالباً من تركيب الجملة المكتوبة وإنما تكون طريقة نطق تلك التراكيب بصور تنغيمية  مختلفة هي الوسيلة لفهم تلك المعاني الإضافية، وهذه المعاني يقصدها المتكلم تماماً ويريد أن يضع أصبع السامع عليها؛ لأن المتكلم قد يهدف بحديثه –بصورة تنغيمية معينة- إشعار السامع معنى العتاب أو لفت النظر أو الامتعاض أو الحث على أمر مقصود أو إظهار الرضا أو الغضب أو اليأس أو الأمل أو التأثر أو اللامبالاة أو الإعجاب، وغيرها من المعاني التي يكون التنغيم  هو صاحب اليد الطولى التي تمكننا من التعبير عنها، وعن كل المشاعر والدلالات الذهنية المختلفة؛ لأن هذه المعاني جميعاً غير منصوص عليها في متن التراكيب والجمل المكتوبة، وإنما تفهم من خلال السياق الذي يحيط بالتراكيب، وطريقة نطق المتكلم وأدائه الصوتي جزء حيوي من السياق؛ لأن السياق في الاستعمال الشفوي للغة لا ينحصر في الكلام السابق واللاحق بل يشمل التنغيم والإشارات والموقف نفسه.

 

العلاقة بين التنغيم والبلاغة:

 ويظهر مما تقدم جوهر العلاقة بين علم المعاني البلاغي والتنغيم، وذلك من عدة أوجه:

1-كلاهما معنيان بإظهار المعاني الإضافية التي لا تكون مذكورة في بنية الكلام الأصلية وإنما تفهم ضمناً بمعونة السياق والقرائن المحيطة بالمنطوق؛ إذ إن الكلام كثيراً ما يتضمن معاني يرشد إليها سياق الحال الذي قيل فيه.

 

2-التنغيم له تأثير مهم في علم المعاني عموماً؛ لأنه عامل مهم في تمييز الجمـل الخبرية والإنشائية. ومعلوم أن البلاغيين قد عمدوا إلى حصر كل النصوص اللغوية في إطار هذين النوعين من الجمل،  ثم إنهم عمدوا إلى وضع آلية معروفة للتميز بينهما وعلى الرغم من وجود المحددات التي ذكروها؛ فإن المتأمل سيجد فرقاً واضحاً بين نوعي الجمل – الخبرية والإنشائية - يكمن في طريقة نطق كل جملة، إذ إن الجمل الخبرية تختلف عن الجمل الإنشائية في طبيعة تلفظ الأولى عن الثانية؛ لأن الجمل الخبرية تكون نبرتها العامة ميالة إلى قطعية الحدوث وإلى الصرامة في تقرير الأحداث، أما الجمل الإنشائية فإن نبرتها الصوتية تميل إلى نوع من التلطف؛ لأنها يقصد من ورائها التأثير في السامع وحمله على التزام وتنفيذ الحدث المطلوب والاستجابة له. فثمة فارق بين تنغيم الجمل التي يراد منها تقرير الحقائق والجزم بها وهي الجمل الخبرية، وبين تلك الجمل التي يراد منها التأثير في وجدان السامع وشعوره وحمله على الاستجابة والتفاعل مع المتكلم وهي الجمل الإنشائية.

 

3-التنغيم يساعد على تغير الحالة النفسية للمتكلم، فتغير التنغيم في الجمل المتقدمة يستبطن ويتطلب تغيراً في الحالة النفسية والانفعالية للمتكلم؛ لأن من غير المنطقي أن تكون الحالة الانفعالية للمتكلم في الحالين واحدة، وكيف يمكن أن تكون حال الخطيب وهـو يقرر الحقائق والوقائع كحاله وهو يريد أن يؤثر ويستجلب اهتمام السامعين؟! لا يمكن أن يكون الأمر في الحالين واحد. وهذا يقودنا إلى الإقرار بأثر التنغيم في تصنيف الجمل إلى خبرية وإنشائية.

 

أسلوب الاستفهام كنموذج للتنغيم في الخطابة: 

سبق القول إن التنغيم يقوم بوظيفة نحوية هي تصنيف الجمل إلى أنماطها المختلفة من تقريرية واستفهامية وتعجبية، وفي أسلوب الاستفهام يكتسب التنغيم أهمية خاصة؛ إذ يصبح الدليل الوحيد في تمييز الجمل الإثباتية عن الاستفهامية في الجمل التي لم تستعمل فيها أداة الاستفهام، فجملة: (أنت محمد) تحتمل أن تكون جملة استفهامية قد حذفت منها أداة الاستفهام الهمزة وعوض عنها بالتنغيم الصوتي الذي يدل على هذه الأداة المحذوفة. وتحتمل أن تكون جملة إثباتية تقريرية تريد الإخبار بهذه الحقيقة فقط، وما من فيصل بين المعنيين سوى وجود التنغيم واختلاف رفع الصوت وخفضه فيهما، وكل ما عدا التنغيم يبقى في المثال الآنف الذكر على حاله، من ترتيب الكلمات في الجملة وحركات الإعراب والبناء، وكل هذه الأمور الباقية على حالها لا تصلح أساساً للتفريق بين الإثبات والاستفهام، بيد أن التنغيم هو ناحية الخلاف الوحيدة بينهما.

 

بل إن التنغيم قد يكون في بعض النصوص أهم من وجود الأداة لأن هناك العديد من النماذج التي حوت على أدوات الاستفهام وهي في الوقت نفسه لم تحكم على تلك النصوص بأنها استفهامية، مثل قوله- تعالى –: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) [ الإنسان:1]؛ لأن حرف الاستفهام (هل) لا يشير إلى الاستفهام هنا ودلالة التنغيم تقتضي أن يكون معنى الآية تقريراً، ويكون الحرف (هل)  بمعنى  (قد) وهذا ما أكده جمع من المفسرين.

 

وقد تكون أداة الاستفهام موجودة ولكن معنى الجملة يظل متأرجحاً بين الاستفهام والتقرير حتى يأتي التنغيم فيكون فيصلاً حاكماً بين المعنيين، كما يتضح ذلك في الجمل الاستفهامية التي استعملت فيها الأداة (كم). مثل قوله – تعالى –: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) [النجم: 26]، والمعنى: وكثير من الملائكة المقربين رغم جلالهم وعظم خلقهم وكرامتهم على الله لا يملكون شيئاً ولا تغني شفاعتهم عن المشركين. ووقوله – تعالى –: (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) [الأعراف:4]، والمعنى: كثير من القرى قد أهلكناها بتكذيبهم للرسل ومعاندتهم للحق، وهم على أي حال، حتى وهم في القيلولة. والشواهد كثيرة في كتاب اللغة وكلام العرب من شعر ونثر.

 

وقد تتبع أهل البلاغة وعلماؤها الأغراض المجازية للاستفهام فوجدوا أنها تزيد على ثلاثين غرضاً بلاغياً، تدور بين التنغيم الصاعد والهابط.

أولاً: التنغيم الصاعد والاستفهام:

بدا من خلال الاستقصاء والتتبع أن نصيب التنغيم الصاعد كان تسعة عشر غرضاً. فقد أطر التنغيم الصاعد خروج الاستفهام إلى معنى: الاستبعاد والافتخار، والأمر، والتأكيد والتبكيت، والتحذير، والتحضيض، والتذكير، والتشويق، والتعجب، والتعظيم، والتفخيم، والتقرير، والتنبيه، والتهديد، والتهويل، والنفي، والنهي، والوعيد.

 

يلاحظ على مجموعة المعاني الاستفهامية ذات التنغيم الصوتي الصاعد؛ أنها من قبيل المعاني التي يحتاج فيها الخطيب إلى إظهار الثقة والاستعلاء والتأكد مما يقول؛ لأنها في الأغلب تدفع السامع باتجاه الحدث المطلوب وتحمله عليه بنوع من التحضيض والتشويق الممزوج بشيء من الرغبة والشدة والصرامة، ولذا كان من الملائم تماماً لهذه المعاني أن تتأطر بالتنغيم الصوتي الصاعد في نهايته؛ لأنه يعين مجريات السياق على تحقيق هذه المعاني المطلوبة، ويوفر لها الجو المناسب الذي يجعل المخاطب مستجيباً ومتفاعلاً مع هذه النغمة الصاعدة. كما نلحظ ذلك في استفهام التعجب في قوله – تعالى-: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة:28]، فالاستفهام في الآية جاء لمعنى التعجب والمناسب لهذا المعنى هنا أن تكون نغمة الأداء مرتفعة صاعدة؛ لتؤدي إلى إيصال معنى التعجب من هؤلاء الذين يكفرون بالله مع ما يلاحظون من الإماتة والإحياء في الأشياء وفي أنفسهم فكأن تقدير المعنى عجباً منكم على أي حال يقع منكم الكفر بالله مع الدلائل الظاهرة على وحدانيته والمعجزات القاهرة على صدق من اختصه برسالته وقيام الحجج الباهرة على وجوب طاعته وشكر نعمته.

 

ونجد حضوراً مميزاً للنغمة الصاعدة في نهاية جمل الاستفهام التي أريد منها معنى الأمر كما في قوله – تعالى-: (فهل أنتم منتهون)، إذ إن دلالة الأمر واضحة في الآية ونغمة السؤال صاعدة تدعو السامع بصوت ممدود إلى الإذعان والتسليم والانتهاء امتثالاً لأمر الله –سبحانه-، والتقدير (انتهوا).

 

كما نجد نغماً مرتفعاً صاعداً في الاستفهام الذي يراد منه معنى التشويق كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الصف:10]، فقد جاء الاستفهام هنا ليحقق التشويق لدى المخاطب ويستجلب كل اهتمامه حتى يرغبه ويستميله إلى المسارعة إلى اغتنام هذه التجارة المنجية من العذاب الأليم بتنغيم صوتي صاعد، ليحقق للسامع ذلك الاطمئنان الواثق بصدق الوعد. والأمثلة كثيرة على علاقة التنغيم الصاعد بالأغراض البلاغية لأسلوب الاستفهام.

 

ثانياً: التنغيم الهابط والاستفهام:

في حين كان التنغيم الهابط تصحب خروج الاستفهام إلى معنى: الاستبطاء، والاسترشاد، والاكتفاء، والإنكار، والإياس، والإيناس، والتجاهل، والتحقير، والتفجع، والتكثير، والتمني، والتهكم، والتوبيخ، والدعاء، والعتاب. هذه الأغراض تتميز بنوع من تألم المتكلم وتأسفه وتستبطن نوعاً من العتاب في طياتها، ولذا كان التنغيم المتسم بالهبوط في نهاية هذه الأغراض هو المعلم الواضح الذي يميز تلك الأغراض ويؤديها أكمل أداء، كما نلحظ ذلك في خروج الاستفهام إلى غرض العتاب في قوله تعالى في معاتبة خير خلقه -صلى الله عليه وسلم- (عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة: 43]،  إذ إننا نكاد نسمع ذلك التنغيم الهابط الذي عبر به عن ألطف معاتبة فهي معاتبة المحبوب للمحبوب والتي لا يمكن أن نتصورها إلا بذلك التنغيم الهادئ المتعاطف.

 

كما نجد هذا التنغيم الهابط في خروج الاستفهام إلى معنى التمني، إذ إن طلب مالا يدرك لابد أن يكون بتلك النغمة الحزينة التي كلت عن رفع الصوت واستكانت علّها تنال بعض ما تتمنى فنجد تلك النغمة في قوله تعالى على لسان بعض المعرضين عن الحق وهم ينالون الجزاء المحتوم: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا) [الأعراف: 53]، وقد استوثقوا أنهم يطلبون ما لا يحق لهم فكانت نغمة الطلب هابطة وادعة.

 

والتنغيم الهابط يلائم غرض الاستبطاء تماماً، إذ إن هذا الغرض يخفي نوعاً من الحزن والأسى على تأخر مجيء المطلوب، مع اندفاع تام من المتكلم ورغبة صادقة في حصوله على وجه السرعة، فالمتكلم يستبطئ ويتحسر لهذا الاستبطاء ولابد أن هكذا معاني تـتلاءم مع التنغيم الهابط، كما نلحظ ذلك في استبطاء المؤمنين مجيء النصر بعد أن زلزلوا ومستهم البأساء والضراء، كما في قوله – تعالى –: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) [البقرة: 214].

 

بالجملة التنغيم الصوتي من أهم أدوات التأثير اللغوي التي يجب على الخطيب امتلاك نواصيها، ومعرفة دروبها وسبلها؛ لتوظيف أدائه الصوتي بها؛ لتحقيق أعلى درجات التأثير والإفادة لجمهور المخاطبين، وهذا لا يكون إلا لأولي النهى والأبصار من خطباء الأمة.

 

راجع: أسس علم البلاغة: دكتور أحمد مختار عمر.

 

الإيضاح في علوم البلاغة: للخطيب القزويني، تحقيق عبد الحميد هنداوي.

 

التنغيم في التراث العربي: د عليان الحازمي، جامعة أم القرى.

 

التنغيم ودلالته في اللغة العربية: يوسف الجوارنة.

 

دراسات في علم اللغة: دكتور كمال بشر، دار المعارف.

 

أثر التنغيم في توجيه الأغراض البلاغية: مزاحم حسين: مجلة القادسية. 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات