عبر وأسرار من قصة خليل الرحمن في النار

أ زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

لم يكن نبي الله إبراهيم -عليه السلام- بحاجة لتلك النار العظيمة؛ ولكن الشيطان يؤز أولياءه والحقد أصحابه لينزلوا بحملة الحق أقسى العقوبات؛ لا لشيء إنما لشفاء غليلهم ولإرهاب الآخرين؛ فلا...

الحمدلله المتفرد بالخلق والتدبير، المتصرف في خلقه وكونه بما يشاء، فعال لما يريد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس، وفضل بعضهم على بعض، ثم الصلاة والسلام على صاحب الحنيفية السمحة والتوحيد الخالص، أبي الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء إبراهيم -عليه السلام-، والصلاة والسلام على إمام الأتقياء وولي الأصفياء وسيد الأنبياء؛ نبينا محمد وأصحابه والتابعين؛ وبعد:

 

أيها الأفاضل: اهتم القرآن الكريم بالقصص كثيرا، وأخذت منه حيزا كبيرا تكاد تكون ثلثه تقريبا، وسلك القرآن منهجا فريدا في سرد قصصه حيث لم يعتمد أسلوبا واحدا أو طريقة معينة؛ بل صرَّفها بأساليب مشوقة ومتنوعة وأعادها بطرق محببة وجاذبة، ثم إنه بيَّن أن تلك القصص لم تكن سدا للفراغ أو كانت للتسلية؛ بل حملت في طياتها عبرا وفي معانيها أسرارا؛ فدعانا الوحي للاستفادة منها وحثنا للاتعاظ بها.

 

وقد كانت قصة خليل الرحمن -إبراهيم -عليه السلام- من القصص البارزة في كتابنا الكريم؛ حيث تناولت قصته جوانب عديدة من حياته. وما يعنينا هنا هو صورة من جانب البلاء الذي تعرض له -صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم-؛ وهي قصته في النار، كما في قوله تعالى: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 68 - 71].

وسنحاول -مستعينين بالله العليم- أن نستلهم من فوائدها ونقتبس من فرائدها:

أولها: عدول قوم إبراهيم -عليه السلام- إلى القوة بعد عجزهم عن إثبات حجية آلهتهم وصحة عبادتها؛ فوجهوا إلى بناء بنيان وإضرام النار فيه ثم رمي داعية التوحيد بالمنجنيق فيها، وهكذا سلوك المعاندين والمستكبرين عن الحق.

 

ثانيها: المؤمن الحق لا يقف مكتوف الأيدي صامت اللسان متجمد الإحساس حين يرى حرمات الله تنتهك؛ بل يصدع بالحق ويقيم العذر ويجادل بالحسنى ويقدم الحجة والبرهان؛ لتفنيد ما عليه الناكبون عن الحق المتخبطون في ظلمات المعاصي؛ ومن أولئك الصادعين بالحق إبراهيم -عليه السلام-.

 

ثالثها: لقد كان يسع إبراهيم -عليه السلام- الصمت والمهادنة أو التخفي والهرب لينجو بنفسه من بطش قومه؛ ولكن من يبلغ عن الله دينه إذا سكت القدوات وأتباعهم؟ ولو أن كل صاحب حق وسعه السكوت لما انتشر دين الله في الأرض ولما سمع به الآخرون، ولما وصل حتى إلينا، ولتوقفت دعوة كل نبي عند نفسه وانتهت بموته.

 

رابعها: التزام دين الحق والدعوة إليه ومفاصلة الأهل الأوثان ومنابذتهم وتسفيه ما هم عليه ضريبته باهظة؛ تصل أحيانا للقتل أو الحرق وفوق ذلك ودونها؛ كما فعل بإبراهيم -عليه السلام-.

 

خامسها: حين يتعلق الأمر بالعقيدة والتوحيد والإيمان وفي مقابله الكفر والوثنية والشرك ترخص النفوس والأرواح وتكسد المتاع والأموال وتهون الذرية والأهل والإخوان.

 

سادسها: حين يلاقي أنبياء الله ورسله والصديقون صنوف الأذى وألون التنكيل فيحرقون ويقتلون ويسجنون ويهجَّرون فيثبتون؛ فإن ثباتهم ذلك يبعث الحياة في نفوس الأتباع ويبقي نور الحق مشعا بين تلك الظلمات.

 

سابعها: الله خالق الأسباب ومسبباتها، وهو المتحكم بها سبحانه المتصرف فيها، ولا يكون شيء في خلقه وكونه إلا بأمره، ولا يخرج شيء عن إرادته وسلطانه؛ ومن ذلك ما ينزل على العبد من البلاء والمحن.

 

ثامنها: لله في خلقه وكونه سنن لا تتبدل، ولو شاء القدير لبدل سننها وغير قدرها؛ فينزع من السكين خاصية الذبح فلا يقطع، ومن البحر خاصية الغوص فلا يغرق، ومن الحوت خاصية المضغ والهضم فلا يطحن ويفتت، ومن النار خاصية الأذى فلا تحرق، وهكذا.

 

تاسعها: ليس من أحد نال في سبيل الله والدعوة إليه ومنابذة الباطل وأهله بلاء مثلما ناله أنبياء الله، وكلما كان العبد بأنبياء الله ورسله أكثر اتباعا وتأسيا كلما زاد بلاؤه.

 

عاشرها: من أشد أنواع البلاء أن يجعل الله في طريق دعوتك من الأقربين من يكذبك ويعاديك ودعوتَك؛ في الوقت الذي كان يفترض أن يكونوا من أول المتبعين والمساندين، وهكذا الأنبياء ومنهم إبراهيم -عليه السلام-؛ فقد كان أبوه أول المعاندين والمعادين.

 

الحادية عشرة: عدم إيمان الأقربين بك وبما جئت به من أهم أسباب إعراض الغير عنك؛ فمنطقهم يقول لو كان صادقا وما جاء به حقاً لصدقه أهله وعشيرته؛ فهم أولى الناس به وأسبقهم؛ ولكن لما كان كاذبا لم يصدقوه.

 

الثانية عشرة: أعظم عباد الله إيمانا وأقواهم توكلا عليه واستعانة به أنبياؤه ورسله، وإبراهيم رغم قبح قومه وجبروتهم وتوعدِهم له؛ إلا أن يقينه بربه لم يضعف وتوكله عليه لم يفتر؛ بل كان على يقين أن ربه حافظه وناصره؛ فلم يزل قائلاً: (حسبنا الله ونعم الوكيل).

 

الثالثة عشرة: جبريل -عليه السلام- هو صاحب المهمات الكبيرة في المواقف الصعبة والساعات الحرجة؛ وفي قصة إبراهيم -عليه السلام- كان حاضرا؛ ولكن إبراهيم كان راجيا تدخلا إلهيا مباشرا لأن غير الله محتاج له مهما عظم ومنهم جبريل -عليه السلام-؛ فالجميع يستمد من القوي العزيز قوته وإرادته.

 

الرابعة عشرة: نفس العبد وماله وما يملك ملك لله -تعالى- وهي عنده وديعة وهو فيها مستأمن؛ ولكن متى ما بذلت في سبيل الله رخيصة خالصة؛ فالله خير من يجزي ويشكر فسيدافع عنه وينصره، وإن قدَّر عليه مكروها فسيحيي ذكره ويجعله مثلا حسنا للآخرين، ويرفع مقامه في الدارين.

 

الخامسة عشرة: قدَّر الله ألا نصير من البشر لنبيه إبراهيم؛ فسخر سبحانه الهوام لنصرته؛ فالجميع هب ليطفئ النار عنه إلا الوزغ فإنه كان ينفخها وشرع لنا قتله ورتب الثواب على ذلك.

 

السادسة عشرة: للحق أنصار ومحبون من الجن والإنس، وكل ما خلق الله يذعن لله ويسبح بحمده، وجميعها جند من جنوده تقوم بأمره وتنفذ حكمه.

 

السابعة عشرة: لم يكن نبي الله إبراهيم -عليه السلام- بحاجة لتلك النار العظيمة؛ ولكن الشيطان يؤز أولياءه والحقد أصحابه لينزلوا بحملة الحق أقسى العقوبات؛ لا لشيء إنما لشفاء غليلهم ولإرهاب الآخرين؛ فلا تسول نفوس البعض لاتباعهم.

 

الثامنة عشرة: قوة ثبات أهل الإيمان وأولهم أنبياء الله ورسله وجلدهم في سبيل إظهار الحق وإبطال نقيضه؛ وحتى لو وجدوا في سكوتهم رخصة صوناً لأنفسهم؛ إلا أنهم يثبتون ثباتا يعجز عنه غيرهم؛ فهم القدوة للبشر فإذا سقطوا في مثل هذه المواقف فمن يثبت دفاعا عن الحق في مواجهة الباطل؟!.

 

التاسعة عشرة: اعتمد قوم إبراهيم والنمرود على جندهم وآلهتهم فاستعانوا بضعيف؛ بينما استعان خليل الرحمن بالقوي المتين؛ فصير نارهم التي كان الطير يسقط من قوة لهبها بردا وسلاما؛ حتى أذهلت جميعهم.

 

العشرون: ما ألطف الله بأوليائه وكم هو رحيم بهم؛ حيث أبطل سبحانه من النار خاصيتها (الإحراق)، ثم حولها بردا، ولما كان في البرد أذية لخليله جعلها عليه سلاما.

 

الحادية والعشرون: أراد قوم إبراهيم -عليه السلام- بإحراق إبراهيم أن يثبتوا لأنفسهم أحقية عباداتهم وسطوتهم؛ فكان العكس كسر الله كبرياءهم وجعلهم من الأسفلين الأخسرين.

 

الثانية والعشرون: يلجأ الطغاة دائما إلى التعبئة الخاطئة ضد خصومهم، ودائما ما يستخفون قومهم ويجيشونهم ضد من يكشف خطأهم ويفضح فسادهم؛ وهكذا سلك قوم إبراهيم حتى جعلت المرأة تنذر لأن قضي لها ما تريده لتأتين بحطب لإحراق هذا الراغب عن آلهتهم.

 

الثالثة والعشرون: صحيح أن هذه المعجزة الإلهية العظيمة والخارقة لم يؤمن معها بإبراهيم -عليه السلام- سوى ابن أخيه لوط -عليه السلام-؛ لكنها أبهرت الجميع بما فيهم النمرود مما جعله يتساءل بكل صغار عن هذا الرب الذي هذه قدرته؛ فكان الجواب (ربي الذي يحي ويميت)، كما أبهرت أباه؛ حتى قال (نعم الرب ربك يا إبراهيم).

 

الرابعة والعشرون: العناد والجحود غالباً ما يكون سيد الموقف لدى الطغاة؛ فمع هذه المعجزة العظيمة التي كانت لهذا النبي القدوة؛ إلا إنه لم يؤمن من قومه سوى لوط -عليه السلام-؛ وكان المأمول أن يؤمن الجميع بعد رؤيتهم لهذه الآية العظيمة الباهرة.

 

الخامسة والعشرون: لم تنته تضحيات خليل الرحمن عند نفسه التي بذلها في النار في سبيل إحقاق الحق؛ بل كانت هذه أول التضحيات؛ فقد تبع ذلك هجرته فراراً بدينه من موطنه الذي ولد فيه ونشأ (بابل العراق)، وها هو اليوم يرحل عنها بزوجته وولد أخيه لوط إلى أرض حوران الشام المباركة؛ فأرض الكلدانيين العراق لم تعد مسكناً للإيمان ولا أرضاً خصبة للتوحيد.

 

أيها الأفاضل: من يمعن النظر في كتاب الله القرآن عامة وفي قصصه خاصة سيجد نفسه بين كم هائل من العبر والحكم، وبحر عميق من العجائب والفرائد، ومخزون عظيم من الأسرار واللطائف؛ تقويهِ إيماناً وتقومه سلوكاً وترشده فكراً وتصلحه حالاً وتسعده قلباً وتهديه طريقاً وتكسبه رفعة وتمنحه ثواباً وتجزيه رضاً وجنة.

 

فأمعنوا النظر في آياته ودققوا التأمل في معانيه، وأكثروا الجلوس إليه ومعه وفيه وله؛ فهو مفتاح كل سعادة، وهجره سبب كل شقاوة، وما رفع من رفع إلا ببركته والاهتمام به، وما وضع من وضع إلا ببعده وهجره.

 

نسأل الله -الكريم- أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وصلاح أحوالنا وذرياتنا. اللهم اجعلنا من التاليين لكتابك المتدبرين له العاملين بأحكامه القائمين بحدوده.

 

وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات