الأمراض الحضارية.. تغييب الكفاءات ودوره في انهيار المجتمعات -الجزء الثاني

محمد الأمين مقراوي الوغليسي - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وهذا مؤشر قابل للقياس، فإن سيطر المترفون الذين أطغاهم المال، وأفسدهم البطر، وغرقوا في الشهوات البدائية والملذات البهيمية، على الحياة كان ذلك دليلا على توجه الحضارة أو الدولة أو المجتمع نحو الانهيار الكبير، والانهيارات الجبلية الكبرى تبدأ بانهيارات صغرى، وكذلك الأمر في الحضارات والمجتمعات.

في الجزء الأول ركزنا على حقيقة يحاول المستشرقون والحداثيون نفيها عن الإسلام، وهي حقيقة الكفاءة كقيمة ونظام في التصور الإسلامي، وأثبتنا أن الإسلام يرسخ في النفوس قدسية العمل، ويحظر كل ما يمس بهذا المعنى، بدليل حثّه على العمل حتى عند بداية فناء العالم، كما يعمق ارتباط الرقي الحضاري بتناغم قدسية العمل مع نظام الكفاءة، ثم تحدثنا عن التوجه الواضح للدين الحنيف في صناعة الفرد الناجح في دنياه ودينه.

 

وفي هذا الجزء نتناول قضية عملية خطيرة، وهي أثر غياب وتغييب نظام الكفاءات في المجتمع البشري عموما، والإسلامي خصوصا، من خلال ضرب أمثلة حقيقية من الواقع ومن التاريخ، حتى يثبت مفهوم الكفاءة في العقل المسلم.

 

ولعل من الملحوظات التي يتفق حولها الكثير من الخطباء أن عالم الخطابة في العالم الإسلامي يعاني بشدة من قضية غياب الكفاءة والكفاءات، ولهذا يأتي هذا الجزء الثاني ليبين خطورة فقدانها في حياة الأمة الإسلامية.

 

كيف تنهار المجتمعات والحضارات؟

والمتبع لأحداث التاريخ يذهل من الوقائع الكثيرة التي تؤيد هذه الحقيقة المطلقة، فلم تحدث حرب أو أزمة أو صراع أو خراب في حضارة من حضارات البشر إلا وكان السبب المباشر فيها تغييب الكفاءات بعد زوال قيمة الكفاءة، التي تعد أحد الكليات التي تقوم عليها الحضارات، ويحدث ذلك عندما يتولى شؤون الدين والدنيا المترفون، وهم رؤوس الشرّ داخل المجتمع : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء:16]، والمترفون هم أصحاب المسؤوليات الكبرى، من الحاكم إلى الوزراء، إلى الضباط، وصولا إلى رجال المال، وسبب تخصيص القرآن المترفين بالذكر في هذا الموضع، هو أن شؤون الحياة ترجع إليهم، بينما الناس تبع لهم في ذلك.

 

وهذا مؤشر قابل للقياس، فإن سيطر المترفون الذين أطغاهم المال، وأفسدهم البطر، وغرقوا في الشهوات البدائية والملذات البهيمية، على الحياة كان ذلك دليلا على توجه الحضارة أو الدولة أو المجتمع نحو الانهيار الكبير، والانهيارات الجبلية الكبرى تبدأ بانهيارات صغرى، وكذلك الأمر في الحضارات والمجتمعات.

 

سنن الله في غياب الكفاءة:

سنن الله لا تحابي أحدا، وللبرهنة على ذلك نضرب مثالا من التاريخ الإسلامي، وآخر من خارج الدائرة الإسلامية، كانت سفن الأسطول البحري الجزائري الذي أنشأه الأخوان عروج وخير الدين بربروس، تسيطر على البحر الأبيض المتوسط لقرون، وقد ساهمت في نجدة مسلمي الأندلس، وتحرير الساحل المغاربي، وساهمت حماية التجارية الإسلامية، والحجاج من هجمات الأوروبيين، وشاركت في معارك كثيرة خاضتها الخلافة العثمانية، إلى أن ضعف هذا الأسطول الإسلامي سنة 1571م، إثر هزيمة الأسطول العثماني والجزائري، هذا الأخير تضرر بشكل كبير، لكنه لم ينته تماما، ليسقط هذا الأسطول في معركة خليج نافارين باليونان عام 1827م، إلى جانب الأسطول المصري والعثماني؛ لتعلن فرنسا عامها عزمها احتلال أرض الجزائر، تنفيذا لاتفاق إكس لاشابيل الذي اتفقت فيه القوى الصليبية على تحييد القوة البحرية للجزائر، والتي كانت الذراع الضاربة للخلافة العثمانية في البحر المتوسط؛ تمهيدا لتفكيك الخلافة العثمانية؛ ليتحقق الأمر فعلا بعد ثلاث سنوات، أي سنة 1830م، والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا كان يفعل المسلمون يومها في الخلافة العثمانية وفي الجزائر، خاصة مع تيقنهم من جديّة التهديدات الفرنسية والانجليزية والروسية بإسقاط الخلافة العثمانية، خاصة التهديد الفرنسي الصريح والرسمي؟

عند البحث في المسألة اتضح أن انهيار قيم الكفاءة كان أحد الأسباب المباشرة في تعرض هذا البلد إلى احتلال صليبي دام 132 سنة، تقول الدكتورة وهيبة بوزيفي متحدثة عن أسباب سقوط الجزائر في براثن الاحتلال لفرنسي: "تخلف صناعة السفن الجزائرية و مهارة الأسطول قياسا إلى التقدم الصناعي الهام الذي أحرزته مثيلاتها في دول الغرب، والمهارة الفنية التي اكتسبتها الأساطيل الأوروبية.

 

وعلى صعيد آخر ارتكبت الجزائر خطأ فادحا يتمثل في تخليها عن الصناعة البحرية -كانت تصنع بواخرها الحربية بنفسها- نظرا لانشغال التقنيين والمهندسين والفنيين بالحرب، وكذلك بسبب تنازلها عن غابات الكرستا الموجودة ببجاية لفائدة التجار اليهود وفي مقدمتهم بكري وبوشناق، حيث أقدم هذين الرجلين على بيع أخشاب الغابات إلى انجلترا التي اهتمت بصناعتها البحرية وكرست كل جهودها لتطويرها، وعليه فالجزائر توقفت عن الصناعة البحرية وبريطانيا ضاعفت المجهود"، إذن التخلف الصناعي، وغياب الكفاءات التي تسيّر موارد البلد، وسيطرة اليهود على الموارد الطبيعية، كان سببا في هذا الاحتلال، بمعنى أن كل هذا لم يكن ليحصل لولا أن الأمور أُسندت لمن لا يمتلكون كفاءات، بعد سيطرة المترفين، والخونة على الاقتصاد، وهو ما يفسر عدم الاهتمام بصيانة الأسطول، وإعادة بنائه، ووضع برامج صناعة احتياطية.

 

من جهة أخرى يجب الاعتراف أن سبب نجاح الأسطول الجزائري في بسط سيطرة المسلمين على البحر الأبيض المتوسط حوالي ثلاثة قرون كان بسبب الكفاءات التي تقوده، فالأخوين بربروس، المولودين في اليونان التي كانت خاضعة للخلافة العثمانية، كانا ثمرة أسرة مسلمة مميزة، تربت على الجهاد البحري والفروسية، فكانت الأهداف بالنسبة لهؤلاء القادة واضحة، نهضة الأمة، والدفاع عن مصالحها، لكن مع مرور الزمن وتسلط الانتهازيين على القيادة البحرية، انهارت الروح الإسلامية، وحلّ محلّها الجشع والطمع، فصار معظم القادة مهتمين بجمع المال والغنائم، وهنا يتأكد المعنى الذي ذكرناه في الجزء الأول، وهو أن غياب الكفاءات مؤشر قطعي على توجه المجتمع إلى حتفه الحضاري، وتراكمات هذا الضعف جعلت الخلافة العثمانية تدفع الثمن، والذي كان سقوطا مدويا؛ إذن فليتأمّل المسلم كيف يسهم غياب نظام الكفاءات في انهيار الحضارات والمجتمع.

 

وحتى يتضح المعنى أكثر، نضرب مثالا آخر رهيبا على فداحة التلاعب بقيمة الكفاءة، وإقصاء نظام الكفاءات، فالتجهيزات الفرنسية لاحتلال الجزائر كانت قد تمت شهر ماي 1830م، ورغم أداء بعض الصالحين من العسكريين لمهماتهم التجسسية في رصد الحملة الفرنسية، وإخبار حاكم الجزائر وقتها "الداي حسين"، إلا أن الرجل استمر في الاستخفاف بالأمر، حتّى أنه ليخيل لمن كانوا في وقته أن الرجل يمتلك أعظم جيش في العالم، والغريب في الأمر أن الجزائر منذ تحطم أسطولها تعرضت لحصار دام ثلاث سنوات، خرجت منه فرنسا مفلسة وبديون ضخمة، وخرجت الجزائر بأضرار بسيطة، لكن الذي قلب الأمور في الأخير هو عنصر الكفاءة.

 

إقصاء الكفاءات وعلاقته بخراب الدول:

عندما اجتمع الداي حسين باشا حاكم الجزائر بالعسكريين، وعرضت عليه خطتان، الأولى كانت لصهره ابراهيم آغا –المعين خلفا لقائد الجيش يحي آغا الذي أعدمه الداي حسين باشا، وكان ضعفها العسكري واضحا، والثانية للقائد الكبير الباي أحمد، وكانت خطته تضمن الفتك بالجيش الفرنسي.

 

كان صهر الحاكم يرى أن على الجزائر أن تنصب المدافع وتضرب السفن الفرنسية من الشاطئ، بينما كان القائد العسكري الفذ الباي أحمد يرى ترك الفرنسيين ينزلون إلى الشاطئ وسحبهم لغرب العاصمة إلى منطقة خطيرة تسمى واد مزفران ثم الانقضاض عليهم، وفي حال قرر الفرنسيون التوجه لقلب العاصمة يتم ضربه من الخلف.

 

لكن الصدمة كانت في اختيار الداي حسين خطة صهره الضعيف عسكريا وفكريا، وتهميشه لخطة القائد الفذ أحمد، ومما قاله: ابراهيم أغا للقائد أحمد بعد مناقشات حادة: " نكم لا تعرفون التكتيك الأوروبي، إنه يتعارض كل المعارضة مع تكتيك العرب"، وسنرى أن وضع رجل تافه على رأس الجيش كان سببا مباشرا في هزيمة ساحقة ستغير مجرى التاريخ.

 

فالحملة الفرنسية تجهزت بأسطول ضخم مرعب، يحوي على آلاف الأطنان من الألبسة والأغذية، وأدوات شق الطرق، مع مئات المدافع، وذخيرة قدرها: 5 ملايين خرطوشة، وأكثر من 280 ألف كلغ من البارود، و36500 جندي يشكلون نخبة الجيش الفرنسي، ويقودهم 17 جنرالا من ذوي الكفاءات العالية، صحبة 40 مترجما خبيرا، إذن فالكفاءات التي خططت للحملة الاستعمارية الفرنسية كانت تدرك أهمية احترام نظام الكفاءات، بدليل إكمال الاستعدادات بشكل كامل منتصف شهر ماي، أي قبل شهرين من الإبحار نحو الجزائر.

 

مقابل هذه الجاهزية العالية المستندة إلى احترام الكفاءة في التخطيط والعمل والإسناد، نجد أن الجزائر التي أهملت صناعتها العسكرية، وتخلت عن تجارتها لليهود، لم تكن مستعدة إطلاقا لما سيحدث، مع أن تقارير الجواسيس الجزائريين والأوروبيين –دقيقة في أرقامها وحتى في ذكر مكان نزول الحملة- أكدت الاستعدادات الفرنسية، لكن كل ذلك لم يكن لينفع؛ لأن المسؤوليات أُسندت وفقَ نظام المحاباة، لا وفق نظام الكفاءات –أعدم الداي حسين باشا يحي الآغا أفضل قائد عسكري في تلك الفترة، بسبب وشايات كاذبة ما انعكس سلبا على الجيش بعد ذلك، وقد كان يقيم تدريبات يومية للجيش والمدفعية،-، ونتيجة لذلك كانت الأرقام تشير إلى ارتكاب جريمة حقيقية بحق الجزائر، يقول المؤرخ الكرغلي حمدان خوجة، والذي عاصر تلك الفترة، وهو يتحدث عن المسؤولين في بلاط الداي حسين باشا: ".. كما أن حاشيته كانت تشتمل على كثير من الأشخاص ممن ليس لهم مباديء، ولا تجربة ولا شجاعة.."، وهذا كلام واضح في أن التعيينات لم تكن تستند إطلاقا إلى نظام الكفاءات، ثم يتحدث عن استعدادات قائد الجيش: ".. كان الآغا ابراهيم صهرا للباشا، لكنه لم يكن قائدا ممتازا في يوم من الأيام، ولم يكن يعرف الشيء الكثير من التكتيك  العسكري.. وهو رجل لا منطق له ولا كفاءة." هذا الكلام واضح كل الوضوح في أن إسناد قيادة معركة فاصلة ضد فرنسا لرجل تافه لا يملك كفاءةً سيكون له ما بعده، ورغم المعلومات الدقيقة التي حصل عليها إلا أنه: ".. لم يُعدّ أي شيء، ولم يتخذ أي نوع من التدابير، ولم يعط أي أمر" يقول حمدان، ومن عجائب غياب نظام الكفاءات في الدولة أن العاصمة لم يكن فيها جيش؛ لأن الداي كان قد صرّح معظم الجنود، وأما الخيالة والفرسان وجنود القبائل فلم يحضروا إليها؛ لأن الأوامر لم تصدر بعد من قائد الجيش، إذن من الذي كان موجودا حول هذا القائد؟ يجيب حمدان وهو شاهد على ذلك: " .. فإن الجيش الذي كان يحيط بهذا الآغا لم يكن موكنا  إلا من سكان متيجة(رعاة يتشغلون في سهول متيجة)، الذين لا يعرفون سوى بيع الحليب، لقد سمعت من يقول لهذا الأبله أن له تحت تصرفه خمسة آلاف سارق سيعملون ليلا على مفاجأة الفرنسيين في جميع الأنحاء ويجعلونهم يتحاربون فيما بينهم."، لم يحفر هذا الآغا الخنادق، وكان يشرف على 12 مدفع، ووزع على الجنود 10 خرطوشات بارود فقط، ويقول المؤرخون إن هذا القائد التافه كان قد سرق كل المكافآت المالية التي بذلها الباشا لأجل تشجيع الجيش، ولتتأكد خطورة غياب الكفاءة قيمة ونظاما، في المجتمعات والدول، نستأنس بما قاله مؤرخ تلك المعركة حمدان خوجة: ".. اقتنعت بنفسي أن إيالة قيادة الجيش أسندت لرجل لا يعرف الفن العسكري، واعتبرت الإيالة (الجزائر كانت تابعة للخلافة العثمانية) قد ضاعت"، وعن إعدام أحد أكفأ العسكريين في العالم الإسلامي يحي الآغا يقول: " وعندما فقدت الإيالة يحي آغا تنبأ كل عاقل بانهيار الجزائر".

 

لقد سُقنا هذا المثال التاريخي لنبرهن على حقيقة مرعبة، مفادها: تغييب الكفاءة والكفاءات سبب مباشر لانهيار المجتمعات والدول، فقد وقعت الجزائر في احتلال مدمر دام 132 سنة، وفقد المسلمون حينها البحر الأبيض المتوسط وتوقفت تجاراتهم، وسقطت تونس والمغرب، وانتشرت النصرانية في افريقيا بعد أن اقتسمت أوروبا الدول الافريقية التي كانت تنعم بالإسلام، وفقدت الخلافة العثمانية كل ما كان لها في افريقيا خاصة المغرب الإسلامي، ليزداد ضعفها وتنهار في 1924 انهيارا مدويا، دفع المسلمون جرّاءه ثمنا كبيراً.

 

نظام الكفاءات الطريق نحو الريادة:

إن الفشل الذي أصاب أغلب المشاريع الدعوية والسياسية والتجارية والصناعية والثقافية والإعلامية والرياضية في العالم الإسلامي يرجع في الحقيقة إلى غياب الكفاءة كقيمة حياتية، وكنظام في مفاصل الدولة، ولو استقصينا في كل مشروع عن القائمين عليه لوجدنا أن سياسة التعيينات والتسيير بُنيت على الحظوظ والمحاباة والوساطات الآثمة. ومن أراد أن يعرف نهاية مشروع أو مجتمع أو دولة فليبحث عن وضع الكفاءة وقيمتها فيها.

 

وآخر ما نختم به هذا المقال أن على المسلمين أن يهتموا بإسناد أمورهم للأكفأ في كل مجال وحقل خاصة في مجال التربية والإعلام والسياسة، فذلك طريق نجاتهم وسيادتهم، وأن تغييب الكفاءات وإحلال المحاباة والتسيب مكانها طريق نهايته الخراب والدمار والموت والمذلة.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات