الأسد الباسل ‘ألب أرسلان‘ أعظم القادة الاستراتيجيين وقاهر البيزنطيين

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

كان "ألب أرسلان" مؤمناً صادقاً غيوراً يعلم أن الله -عز وجل- سوف ينصره؛ لأنه على الحق وعدوه على الباطل، وكان من عادة هذا السلطان الصالح أن يصطحب معه في غزواته وحملاته الجهادية العديد من العلماء والفقهاء والزهاد؛ كقيادة روحية ومرجعية دينية، وكان معه في هذه المرة الفقيه الكبير...

 

 

 

من السنن التاريخية الجارية في قيام الدول والممالك والسلطنات: اختلاف جيل التأسيس والقيام عن جيل التوسع والانتشار، فمرحلة الاعداد والتكوين عادة ما تكون طويلة مليئة بالمشاق والمواقف الصعبة والانتصارات والانكسارات، والعمل فيه قاصر على الانتقال من مرحلة الدعوة والقبيلة والعشيرة إلى مرحلة الدولة، وعادة ما تكون مرتبطة بشخص معين إليه تطير الشهرة وتنسب الدولة وربما يشتق اسم الدولة من اسمه، في حين أن مرحلة التوسع والانتشار عادة ما تكون مرتبطة بعمل استراتيجي ومنهجي من أجل تأمين الحدود الاستراتيجية للدولة وحمايتها من الأخطار المحتملة.

 

وبطلنا الذي نحن بصدد عرض سيرته، وتفقد دفتر أحواله، ومعرفة أهم انجازاته يعتبر المؤسس الحقيقي لدولة من أكبر وأعظم الدول الإسلامية، كما أنه واضع لبنات الفكر الاستراتيجي الذي سار عليه معظم القادة العسكريين والسياسيين العالميين من بعده، على رغم من رحيله في سن مبكرة، ومكوثه عشر سنوات فقط في كرسي الحكم، ولكنه ترك أعمالاً عظيمة وانتصارات عالمية بوأته مكانة سامقة في تاريخ الإسلام.

 

ظهور السلاجقة وسنن الاستبدال والتدافع:

 

من يقرأ التاريخ الإنساني يجد فيه كثير من العبر والعظات التي هي نتاج طبيعي لتفاعل السنن الربانية في الكون والخلق، وتداخلها في الأحداث الكبرى في المسيرة البشرية.

 

وفقه هذه السنن من الأمور الهامة في حياة المسلمين أفرادًا وأممًا؛ لأن هذه السنن من أهم دعائم بقاء الأمم واستمرارها وتمكنها وظهورها، وهذه السنن لا تعرف جورًا ولا محاباة، فهي جارية على خلق الله جميعًا؛ مؤمنهم وكافرهم، فأيما أمة أو جماعة أو أفراد استوفوا شروطها وعملوا بمقتضياتها جرت عليهم السنن وجودًا وعدمًا، سلبًا وإيجابًا، ومن أعظم هذه السنن: سنة الاستبدال، وسنة التدافع، والتي جعلها الله -عز وجل- لحفظ دينه ونصرة شرعه واستمرار مسيرة الصراع بين الحق والباطل.

 

في أواخر القرن الرابع الهجري وبداية الخامس كان العالم الإسلامي على موعد جديد مع عمل وتفاعل لسنة الاستبدال والتدافع في الأمة الإسلامية.

 

فبعد أن ترهلت الخلافة العباسية وضعفت وخفت قبضتها عن أطرافها كان من الطبيعي أن تظهر قوى جديدة تملأ هذا الفراغ السياسي الناشئ عن تدهور كيان الخلافة العباسية، وللأسف القوى الجديدة التي ظهرت كانت قوى طائفية معادية لجمهور المسلمين، ونقصد بها القوى والكيانات الشيعية التي ظهرت في أوائل القرن الرابع الهجري، وأعظمها خطراً وضرراً، الدولة "البويهية" في شرق العالم الإسلامي، والدولة الفاطمية العبيدية الخبيثة في غرب العالم الإسلامي، وكلاهما قام بدور الكماشة في حصار الخلافة العباسية السنية وتوجيه الضربات السياسية والدينية لها حتى صارت الخلافة العباسية في أسوأ حالاتها وأضيق مجالاتها وتلاشى نفوذها بصورة لم تحدث في التاريخ.

 

كان من الطبيعي وفقاً لعمل السنن الربانية في الكون والخلق أن لا يترك الله -عز وجل- تلك الكيانات السرطانية دون مدافعة من كيانات سنية جديدة وفتية قادرة وهو ما حدث مع ظهور السلاجقة في مشرق العالم الإسلامي.

 

وينتمي السلاجقة إلى قبيلة "قنق"، وهي إحدى قبائل الغز الثلاثة والعشرين الذين يُشكلون فرعاً من الأتراك، ولقد بدأت هذه القبائل منذ النصف الثاني من القرن السادس الميلادي سلسلة من الهجرات الكبيرة إلى أرض الأناضول لأسباب متعددة، ربما تكون قلة الغذاء والأراضي بشكل رئيسي، لكن أثناء الهجرة استقرت القبيلة لفترة من الزمن في "جرجان" و"طبرستان"، وعمل أفرادها هناك في خدمة ملك تركي وثني يُدعى "بيغو"، وكان منهم سلجوق بن دقاق الذي كان من كبارهم وحصل على رتبة "سباشي" أو "قائد الجيش" عند الملك التركي، وبسبب قوة "سلجوق" وتبعية أفراد القبيلة الكبيرة له، وطاعتهم لأوامره، فقد بدأ "بيغو" يَقلق حول سيطرته على الجيش التركي وخشيَ من "سلجوق"، حتى أنه بدأ يُدبر لقتلهِ، وعندما علم "سلجوق" بالأمر جمع قبيلته ورحل إلى مدينة "خجندة" قرب نهر "سيحون" في حيث كان الحكم الإسلامي سائداً في المنطقة، وهناك أعلن إسلامهِ وأخذ يُحارب الأتراك الوثنيين في منطقة تركستان، وقد دخلت هذه العشيرة في الإسلام أثناء عهد زعيمها ومؤسِّس السلالة "سلجوق بن دقاق" سنة 350 ه/ 960 م.

 

طريق السلاجقة لم يكن مفروشاً بالورود، بل اضطروا للدخول في معارك حامية مع جيرانهم الوثنيين والمسلمين على حد السواء، وكان السلطان العظيم محمود بن سبكتكين متوجساً منهم بسبب حداثة عهدهم بالإسلام وأرومتهم التركية، فهم في الأصل من قبائل كانت تعيش على السلب والنهب والإغارة على الجيران، لذلك طردهم من بلادهم واستعمل معهم القوة، وبعد موته سنة 421 ه سار ولده مسعود على نفس النهج، فقاتلهم وانتصر عليهم عدة مرات، ولكن في النهاية انتصروا عليه في معركة "دانكان" الشهيرة سنة 429 ه التي تعتبر البداية الحقيقية لدولة السلاجقة.

 

أصبح السلطان "طغرلبك" أول سلطان لدولة السلاجقة وهو الذي قاد السلاجقة لمحاربة البويهيين من سنة 430 ه حتى استطاع تطهير خراسان والهضبة الفارسية منهم وأكمل مشروعه في محاربة الشيعة بدخول بغداد والقضاء على آخر ملوك بني بويه بعد أكثر من مائة سنة من تحكم الشيعة في الخلافة العباسية السنية، فرد "طغرلبك" الاعتبار للمذهب السني ومقام الخلافة العباسية، ولكن لم يطل المقام ب "طغرلبك" بعد ذلك فمات سنة 455ه، بعد أن ترك دولة كبرى للسلاجقة ولكنها محاطة بالأخطار والتهديدات والأعداء من كل مكان، وخلفه من بعده الأسد الباسل والقائد الاستراتيجي العظيم: "ألب أرسلان".

 

البدايات الصعبة:

 

هو السلطان الكبير والملك العادل عضد الدولة أبو شجاع "ألب أرسلان" محمد بن جفرى بك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق التركمانى، ومعنى: "ألب أرسلان" بالتركية الأسد الباسل، وكان حقاً منذ شبابه وقبل ولايته أسدا باسلاً شجاعاً يستعين به عمه "طغرلبك" في المهام الصعبة والجسيمة، وكان في منزلة القائد العام للجيوش "السلجوقية"، وهو دون الثلاثين من العمر، وقد كلفه عمه "طغرلبك" بأهم منصب في الدولة "السلجوقية" ألا وهو منصب: حاكم إقليم خراسان المضطرب، فأبدى كفاءة وحزم وعزم شديد في مواجهة التحديات والصعوبات الكثيرة، خاصة وأن دولة السلاجقة كانت ما زالت بعد في مراحلها الأولى رغم قوتها وشبابها.

 

لم يكد "ألب أرسلان" يستلم منصب السلطان حتى دبت خلافات طارئة داخل البيت السلجوقي، حيث ثار عليه بعض أقربائه منهم أخوه سليمان وعمه "قتلمش" ذلك أن سليمان كان هو الشقيق الأكبر ل"ألب أرسلان"، وكان عمه يضمر في نفسه تولي عرش السلاجقة خلفاً لأخيه "طغرلبك"، لذلك توافقت الارادتان على حرب "ألب أرسلان"، فاضطر "ألب أرسلان" مكرها أن يقاتل الخارجين عليه، وقد نصره الله -عز وجل- على خصومه على الرغم ما إن عمه قتلمش قد حاربه بتسعين ألفاً، في حين "ألب أرسلان" كان في اثني عشر ألفاً فقط، ولما علم "ألب أرسلان" نبأ مقتل عمه في المعركة بكى بشدة وتأسف على نهايته .

 

وقد اعتمد "ألب أرسلان" في الوزارة على أحد أشهر وزراء الإسلام نظام الملك، وكان وزير صدق يكرم العلماء والفقراء، ولما عصى الملك شهاب الدولة قُتُلمش، وخرج عن الطاعة، وطمع في أخذ الملك من "ألب أرسلان" وكان من بني عم "طغرلبك"، فجمع وحشد واحتفل له "ألب أرسلان" فقال له الوزير: "أيها الملك لا تخف فإني قد استخدمت لك جنداً ليلياً يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء والصلحاء"، فطابت نفسه بذلك.

 

"ألب أرسلان" واستراتيجية البناء:

 

"ألب أرسلان" ورث دولة مترامية الأطراف واسعة الأرجاء تمتد من سهول التركستان إلى ضفاف دجلة، بها الكثير من المدن الكبار والأقاليم الواسعة والشعوب المتباينة، لذلك فلقد كانت مسألة قيادة هذه الدولة في غاية الصعوبة وتحتاج لاستراتيجية حكيمة وقيادة قديرة، وزادت المهمة صعوبة بوجود قوتين كبيرتين معاديتين للدولة "السلجوقية"، الإمبراطورية البيزنطية في الشمال والشرق، والدولة الفاطمية العبيدية الخبيثة في الغرب، لذلك اتبع استراتيجية حكيمة من خلال اتباع الخطوات الآتية:

 

أولاً: استعمال العدل: إن للبناء أسباباً وللاستمرار عوامل ومعطيات من تناولها وعمل بها تم له البقاء والصمود حتى حين، وهذا ما أدركه السلطان "ألب أرسلان" جيداً، فسار في رعيته سيرة حسنة صالحة ضمنت له رضا الناس عنه، فقد كان "ألب أرسلان" كريماً، رحيماً، شفوقاً على الرعية، رفيقاً على الفقراء باراً بأهله وأصحابه ومماليكه، كثير الدعاء بدوام النعم عليه، كثير الصدقات، لم يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة، فلا يأخذ من أموال الرعية إلا ما حل للدولة من خراج وزكاة، له سياسة عظيمة مع ولاته وعماله، فلقد كتب إليه بعض الوشاة في وزيره "نظام الملك" فاستدعاه ثم قال له: "خذ إن كان هذا صحيحاً، فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم"، كما كان "ألب أرسلان" شديد الحرص على حفظ مال الرعية فلقد بلغه يوماُ أن أحد مماليكه قد أخذ إزاراً لأحد الناس ظلماً، فأمر بصلبه حتى يرتدع باقي المماليك عن الظلم، وهكذا نرى هذا القائد الحكيم قد أدرك بفطرته القيادية أسباب البقاء فسار على طريقها واتبعها خير إتباع.

 

ثانياً: تولية الأكفاء: حجر الزاوية في نجاح أي استراتيجية وجود الكفاءات اللازمة لتطبيق هذه الاستراتيجية وإدخالهم حيز النفيذ بصورة صحيحة تضمن النجاح، وهذا ما اعتمده "ألب أرسلان" عندما عهد بالوزارة في دولته إلى شخص من طراز فريد، فلقد استخدم "ألب أرسلان" في منصب الوزارة وهو أهم منصب في الدولة رجلاً قديراً كان سبب سعادة الدولة "السلجوقية"، وهو الوزير العظيم "نظام الملك" الذي جمع بين العلم والورع والحنكة السياسية والمقدرة القيادية، وحب العلماء والصالحين والزهاد، ولقد استمر نظام الملك وزيراً طوال حكم "ألب أرسلان" وولده ملك شاه من بعده أي استمر من سنة 455 هجرية 485 هجرية.

 

وهذا يؤكد على مدى أهمية البطانة الصالحة والرجال الأكفاء في المناصب الحساسة، فكم من وزيراً وقائد أضاع أمته أما بجهالة أو عمالة أو طمع في الدنيا؟ وكم عانت الأمة الإسلامية من رجال وسُد إليهم الأمر وهم من غير أهله، فضاعوا وأضاعوا وضلوا وأضلوا؟

 

ثالثاً: تصفير المشكلات: كما قلنا من قبل طريق السلاجقة لم يكن مفروشاً بالورود، فلقد اصطدموا بالعديد من الأطراف التي لم تكن على وفاق مع السلاجقة.

 

فعندما ظهرت القبائل "السلجوقية" اصطدمت بقوة مع الدولة السبكتكينية التي كانت تسيطر وقتها على خراسان وسهولها التركستان والسند، ودارت بين السلاجقة ومحمود بن سبكتكين ثم ولده مسعود معارك كثيرة وطاحنة استمرت قرابة الخمسين سنة في صراع بدا للعيان أنه لن ينتهي أبداً، حتى جاء الأسد الباسل إلى السلطة وقرر حسم هذا الصراع الطويل واستطاع "ألب أرسلان" أن يتألف خصمه اللدود الدولة السبكتكينية بأيسر السبل بأن صاهر سلطانها على ابنته فزوجها لابنه إياز، ونفس الأمر استخدمه مع خصومه من الخوارزميين، فقد صاهر سلطان الدولة الخوارزمية (بلاد ما وراء نهر جيحون) على ابنته أيضا، فزوجها لابنه الآخر "تكش"، وهكذا استطاع "ألب أرسلان" أن يؤلف خصومه وألد أعدائه وجعلهم أقرباه وأهله، وهذا من قمة الذكاء الاستراتيجي للقائد المحنك.

 

أما خصومه من القبائل التركمانية وهم من أشد خصوم السلاجقة رغم الاتفاق العرقي بين الطرفين فالسلاجقة أصلاً من التركمان، ولكن هذه القبائل الموجودة في منطقة الأناضول أو آسيا الصغرى كانت تعيش على السلب والنهب والإغارة على المسلمين والرومان على حد السواء، فقرر "ألب أرسلان" استغلال هذه الطاقة الهجومية عند هذه القبائل في الإغارة على الدولة البيزنطية وحدها دون المسلمين، وتوظيف الطاقات الكبيرة لدى هذه القبائل الثائرة لصالح الدولة المسلمة، وهو ما نجح فيه "ألب أرسلان" باقتدار، حتى أصبحت هذه القبائل هي أكبر تهديد يواجه الدولة البيزنطية وعنصر قلق دائم لها خاصة في منطقة  أرمنية.

 

رابعاً: الهدف الاستراتيجي: يعتقد البعض أن العثمانيين هم أول من وضع فتح القسطنطينية كهدف استراتيجي لدولتهم، في حين أن الأسد الباسل "ألب أرسلان" هو أول من وضع هدف فتح القسطنطينية ومعه أيضا فتح مصر (لإسقاط الفاطميين)، فلقد كانت الدولة "السلجوقية" الكبيرة تقع بين عدوين كبيرين كلاهما يتربص بهذه القوة الجديدة، العدو الأول: الإمبراطورية البيزنطية عريقة العداء مع المسلمين، والعدو الثاني: الدولة العبيدية الخبيثة في مصر.

 

وكان "ألب أرسلان" في الحقيقة يريد أن يفتح مصر أولاً وذلك لعدة اعتبارات، منها :تخليص العالم الإسلامي من حالة الفوضى القيادية في ظل وجود خلافتين كلاهما يدعى الأحقية والشرعية.

 

ومنها: القضاء على منبع تصدير الشرور والضلالات والاغتيالات في الأمة الإسلامية.

 

سلم المجد:

 

من أجل التفرغ لفتح مصر والشام كان لابد على الأسد الباسل "ألب أرسلان" أن يؤمن حدوده مع الأقاليم الأرمينية والجورجية التابعة للدولة البيزنطية والمتاخمة لبلاده، وكان كما ذكرنا آنفاً قد استعان بقبائل التركمان ووجه طاقاتهم القتالية لصالح المسلمين، فأغاروا على هذه الحدود وقاموا بدورهم في إضعاف القوى الدفاعية للدولة البيزنطية، ولكن هذه الغارات المقطعة لم تصرف همة الأسد "ألب أرسلان" لئن يسدد ضربة موجعة للدولة البيزنطية تنشغل بها حيناً من الدهر ريثما يقوم هو بمشروعه الكبير في فتح الشام ومصر وإسقاط الدولة العبيدية الخبيثة.

 

هذه الضربة قام بها الأسد الباسل "ألب أرسلان" بعد انتهائه مباشرة من خلافاته الطارئة مع عمه "قتلمش" حيث توغل بجيوشه إلى قلب الأناضول قاصداً مدينة قيصرية الغنية التي فتحها "ألب أرسلان" في ربيع الثاني سنة 456 هجرية وغنم منها غنائم عظيمة، ثم قام "ألب أرسلان" بحملة كبيرة ضد الأقاليم النصرانية المجاورة لحدود دولته، وقاد جيشه نحو جنوب أذربيجان واتجه غرباً لفتح بلاد الكُرج (جورجيا الآن) والمناطق المطلة على بلاد البيزنطيين وكان سكان الكرج يكثرون من الغارة على أذربيجان فأصبحوا مصدر قلق لسكان المنطقة، وانضم إليه وهو في مدينة "مرند" في أذربيجان أحد أمراء التركمان ويدعى طغتكين، وكان دائم الغارة على تلك المنطقة، عارفاً بمسالكها، واجتاز الجيش السلجوقي نهر الرس، في طريقه إلى بلاد الكُرج، وفصل "ألب أرسلان" أثناء زحفه قوة عسكرية بقيادة ابنه ملكشاه، ووزيره نظام الملك هاجمت حصوناً ومدناً بيزنطية منها حصن سُرماري.

 

ومدينة "مريم نشين" الحصينة وفتحها واستمرت فتوحاته الكبيرة في الأراضي الأرمينية، ويبدو أن ملك الكُرج هاله التوغل السلجوقي في عمق المناطق الأرمينية فهادن "ألب أرسلان" وصالحه على دفع الجزية، ونتيجة لهذا التوغل السلجوقي أضحى الطريق مفتوحاً أمام السلاجقة للعبور إلى الأناضول بعد أن سيطروا على قلب أرمينية، فأغاروا على المناطق الحدودية واستولوا على دروب الأمانوس في عام 459 ه.

 

جرى كل ذلك ولم يبذل الإمبراطور البيزنطي جهداً كبيراً لمقاومة هذه الغارات مما شجعهم على التوغل في عمق الأناضول فوصلوا إلى نيكسار، وعمورية في عام 461ه وإلى قونية في العام التالي، وإلى قونية القريبة من ساحل بحر إيجه في عام 463 ه، وشكل فتح السلاجقة لبلاد الكرج والقسم الأكبر من أرمينية تحدياً لبيزنطة وبخاصة بعد أن أدرك الإمبراطور البيزنطي أن "ألب أرسلان" يصبغ غزوه للبلاد بصبغة الجهاد الديني، وهو يطبع المناطق المفتوحة بالطابع الإسلامي، مما جعل نشوب الحرب بين المسلمين والبيزنطيين أمرًا لا مفر منه وهو ما حدث في معركة ملاز كرد الشهيرة.

 

بعد نجاح "ألب أرسلان" في فتح أرمينية البيزنطية والكرج قرر الأسد العودة إلى الهدف الأول وهو فتح الشام ومصر، فتوجه إلى شمال الشام الذي كان به العديد من أمراء المسلمين الموالين للدولة البيزنطية وأيضا موالين للدولة الفاطمية، وهاجم "ألب أرسلان" القلاع البيزنطية في الرها وأنطاكية وقيسارية، وأخضع بني شداد في حران وبني عقيل في الموصل وكان ولاؤهم للفاطميين، ثم عبر نهر الفرات واتجه إلى مدينة حلب ومنها إلى نفوذه كي يحمى ظهره من الخطر الشيعي حيث كان أميرها محمود بن صالح شيعياً فاطمياً فألزمه خلع طاعة الفاطميين والدعاء للخليفة العباسي.

 

ثم أرسل قائد الترك أتسز بن أوف الخوارزمي في حملة إلى جنوب الشام فانتزع الرملة وبيت المقدس بدلاً من الفاطميين العبيديين، ولم يستطيع الاستيلاء على عسقلان التي تعتبر بوابة الدخول إلى مصر، وبذلك أضحى السلاجقة على مقربة من بيت المقدس، وفي سنة 462ه، ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم إلى السلطان يخبره بإقامة الخطبة للخليفة القائم وللسلطان، وإسقاط خطبة حاكم مصر العبيدي، وترك الأذان ب "حي على خير العمل" فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار، وقال له: "إذا فعل أمير المدينة كذلك أعطيناه عشرين ألف دينار".

 

معركة ملاز كرد الأسطورية:

 

في هذه الفترة الذهبية للدولة الإسلامية والتي كان فيها الأسد الباسل ناشراً رايات الجهاد على عدة جبهات، كانت الدولة البيزنطية تضطرم بروح انتقامية عارمة وتبحث عن القيادة القادرة على رد عادية السلاجقة والقبائل التركمانية التي أنهكت القوى الدفاعية للإمبراطورية العجوز ولقد وجدت الدولة البيزنطية ضالتها في القائد العسكري الشاب "رومانوس" ديوجين" الذي لمع نجمه بعد عدة انتصارات حققها في القتال ضد البوشناق في بلغاريا فانعقدت عليه الآمال وحطت عنده الرحال خاصة بعد ثلاثة انتصارات متتالية على بعض أمراء المسلمين في الفترة ما بين سنة 461 هجرية 463 هجرية، فتربع إمبراطوراً على بيزنطة وتلقب ب"رومانوس" الرابع، وأخذ في التحضير لعمل عسكري ضخم ضد المسلمين ينهي بها وجودهم في منطقة آسيا الصغرى والجزيرة وشمال الشام.

 

وبالفعل بعد عدة شهور من توليه العرش البيزنطي بدأ العمل في سد المنافذ التي استخدمها السلاجقة في التدفق على أراضي الإمبراطورية، كما سعى إلى احتلال بعض المواقع الاستراتيجية في بلاد الشام والجزيرة الفراتية، وشن ثلاث حملات ضد إمارة حلب في الشام ثم الجزيرة فاستولى خلالها على مدينة "منبج" ثم قام في الثالثة بالهجوم على أرمينية الإسلامية، فاستولى على كثير من الحصون وشحنها بالمقاتلين واستعد لمعركة حاسمة لم يكن يدرى أنها بالفعل ستكون حاسمة وللأبد، ولكن للدولة الإسلامية وليس للإمبراطورية البيزنطية.

 

حشد "رومانوس" كل ما استطاع من القوى اللازمة لتحطيم الأمة الإسلامية، واستعان بالفرق الفرنجية من غرب أوروبا كمرتزقة في جيشه واستعان أيضا بالقبائل الروسية وكانت حديثة عهد بالنصرانية وانضم إليه كثير من الأرمن والجورجيين وتضخم جيشه حتى وصل لأكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل وفي نيته قلع الأمة الإسلامية من أساسها ومحو الإسلام كدين والمسلمين كأمة، ومن شدة ثقته بالنصر قام بتوزيع المناصب والولايات في الأقاليم الإسلامية على قادته ورجال دولته، مغرور خدعه الغرور.

 

وصلت الأنباء للسلطان "ألب أرسلان" وكان وقتها في مدينة خوى من أعمال أذربيجان، ومعظم قوته العسكرية موزعة تجاه بلاد الشام لفتحها وإنهاء الوجود الفاطمي الخبيث بها، ورغم ذلك قرر الزحف باتجاه الجيش العملاق لوقف تقدمه بأرض الإسلام، في حين واصل "رومانوس" زحفه حتى وصل إلى مدينة "ملازكرد" (وتنطق أيضا منازجرد ومنازكرد) وهي بلدة حصينة تقع على فرع نهر مرادسو بقلب الأناضول وهذه المدينة ما زالت موجودة حتى الآن بتركيا.

 

الأسد الباسل والقيادة الحكيمة:

 

انطلق الأسد الباسل بمنتهي السرعة مستغلاً خفة حركته لقلة جيشه، وذلك لنجدة المدينة المحاصرة، وجاءت أول بشارات النصر عندما التقت قوات الاستطلاع المسلمة بطلائع الروم، وكانوا من القبائل الروسية، فانتصر المسلمون ووقع قائد الروم الروسي: "بازيلكوس" في الأسر.

 

ورغم هذا الانتصار المشجع إلا إن "ألب أرسلان" الذي كان يقدر مدى الفارق الكبير بين الجيشين أرسل إلى "رومانوس" يطلب الهدنة، ولكن هذا الطلب جعل "رومانوس" يغتر بكثرته وتفوقه في العدد والعدة ورد على طلب السلطان بالهدنة بأن قال: "لا هدنة إلا في "الري" والري هي عاصمة الدولة "السلجوقية" ولم يعلم "رومانوس" أنه بذلك قد كتب نهايته ونهاية دولته البائسة.

 

لما وصل هذا الرد المستفز للأسد الباسل "ألب أرسلان" حميت عزيمته واشتعلت الغيرة على الإسلام في قلبه واستوثق الإيمان في نفسه وتأكد من صحة عزم هذا الصليبي على إبادة الأمة الإسلامية وقرر التصدي له وحده وبمن معه من جنود، على الرغم من التفاوت الشاسع بين الجيشين فالروم البيزنطيون وحلفاؤهم أكثر من ثلاثمائة ألف، والمسلمين في خمسة عشر ألف فقط لا غير.

 

كان "ألب أرسلان" مؤمناً صادقاً غيوراً يعلم أن الله -عز وجل- سوف ينصره؛ لأنه على الحق وعدوه على الباطل، وكان من عادة هذا السلطان الصالح أن يصطحب معه في غزواته وحملاته الجهادية العديد من العلماء والفقهاء والزهاد كقيادة روحية ومرجعية دينية، وكان معه في هذه المرة الفقيه الكبير/ أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الذي قال ل"ألب أرسلان" هذه العبارة الرائعة: "إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله -تعالى- قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون الخطباء فيها على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر".

 

وبالفعل استجاب الأسد الباسل لهذه النصيحة الغالية التي تشرح بأوجز العبارات أسباب الانتصار المادية والمعنوية، فالمجاهدون يحتاجون تماماً للدعاء مثلما يحتاجون إلى السيف والرمح، وفي يوم الجمعة 25 ذي القعدة 463 هجرية 26 أغسطس 1071 ميلادية قام "ألب أرسلان"، وصلى بالناس وبكى خشوعاً وتأثراً ودعا الله -عز وجل- طويلاً، ومرغ وجهه في التراب تذللاً بين يدي الله، واستغاث به، ثم لبس كفنه وتحنط، وعقد ذنب فرسه بيديه، ثم قال للجنود: "من أراد منكم أن يرجع فليرجع فإنه لا سلطان هاهنا إلا الله".

 

ثم امتطى جواده ونادى بأعلى صوته في أرض المعركة: "إن هزمت فإني لا أرجع أبداً فإن ساحة الحرب تغدو قبري"، وبهذا المشهد الذي ينفطر له أقسى القلوب وتخشع أمامه أشقى النفوس استطاع "ألب أرسلان" أن يحول 15 ألف جندي إلى 15 ألف أسد كاسر ضاري.

 

وعند الزوال اصطدم الجيشان و"ألب أرسلان" على رأس جيشه يصول ويجول كالأسد الهصور ودارت معركة طاحنة في منتهي العنف حاول البيزنطيون حسم المعركة مبكراً مستغلين كثرتهم العددية الضخمة، ولكن ثبات المسلمين أذهلهم وأنساهم كل المعارك التي خاضوها من قبل حتى أصيب الروم بالتعب والإرهاق وذلك عند غروب الشمس، فحاول "رومانوس" الانسحاب إلى الخلف قليلاً للراحة ومواصلة القتال في اليوم التالي، وعندها انتهز الأسد الباسل الفرصة وشد بكامل جيشه على الرومان حتى أحدث بصفوفهم المنسحبة ثغرة، أنسال منها سلاح الفرسان الإسلامي إلى قلب الجيش البيزنطي وأمطروهم بوابل من السهام المميتة فوقعت مقتلة عظيمة وانكشفت صفوف البيزنطيين وركبوا بعضهم بعضاً وفرت الفرق الفرنجية المرتزقة من أرض المعركة ووقع في الأسر أعداد كبيرة منهم الإمبراطور "رومانوس" نفسه.

 

نتائج "ملازكرد":

 

أ- تعتبر معركة "ملازكرد" من المعارك الفاصلة في التاريخ ويسميها بعض المؤرخين باسم الملحمة الكبرى، وتعد أكبر نكسة في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية وأصبحت الأراضي البيزنطية تحت رحمة السلاجقة، وبذلك يكون السلاجقة قد تابعوا الجهاد الذي قام به المسلمون ضد الروم.

 

ب- لم يكن هذا الانتصار انتصاراً عسكرياً فقط بل كان انتصاراً دعوياً للإسلام، إذ انتشر السلاجقة في آسيا الصغرى عقب معركة "ملازكرد" وضموا إلى ديار الإسلام مساحة تزيد على (400) ألف كم، عم الإسلام تلك الجهات منُذ ذلك الوقت ولم يكن دخلها أبداً من قبل، فإن هذه المرحلة من تاريخ الإسلام كانت مرحلة امتداد وتوسع أيضاً ولم تكن مرحلة جمود وتوقف كما يتصور كثير من الناس ممن يقرؤون التاريخ الإسلامي على عجالة ويتوقفون عند نهاية العصر العباسي الأول ويجملون العصر الثاني بكلمات تدل على الضعف والتفكك والتوقف، وخصوصاً إذا ذهبنا إلى المغرب والأندلس حيث دولة المرابطين السنية التابعة للخلافة العباسية، فبعد ست سنوات من معركة "ملازكرد"، أي في عام (469ه)، استطاع المرابطون في المغرب أن يفتحوا عاصمة إمبراطورية غانا "كومبي صالح"، وأن يفرضوا الإسلام على جميع البلاد، وقد وافق ملك غانا "تنكامنين" على الدخول في الإسلام والخضوع لسلطان المرابطين، وقد دخل كثير من الشعب في الإسلام أيضاً، وبذا تكون ديار الإسلام قد امتدت في إفريقيا على مساحة جديدة تقرب من نصف مليون كيلو متر مربع وفي الوقت نفسه فقد اتسعت ديار الإسلام في الجنوب الشرقي في الهند وفتحت مساحات واسعة من شمال تلك البلاد.

 

ج- ومن نتائج "ملازكرد" أن قضى السلاجقة على التحالف البيزنطي الفاطمي، واضطرت بيزنطة إلى مصالحتهم، أما أرمينية فقد زالت منها الإدارة البيزنطية بعد أن هجرها سكانها وخضعت المدن الأرمينية للسلاجقة، كما انهار نظام الدفاع البيزنطي الذي تولاه أمراء التخوم، وبذلك تعرض نظام الثغور لضربة قاسية لاسيما أن بيزنطة لجأت بعد المعركة إلى إنزال حاميات من الجند المرتزقة في أرمينية، ولم تحاول الاستعانة بالسكان الأصليين.

 

د- تُعد معركة "ملازكرد" أشد ما وقع في التاريخ البيزنطي من كوارث، بل إنها أكبر كارثة حلت بالإمبراطورية البيزنطية حتى نهاية القرن الخامس الهجري، وجاءت دليلاً على نهاية دور الدولة البيزنطية في حماية النصرانية من ضغط الإسلام، وفي حراسة الباب الشرقي لأوروبا من غزو المسلمين، وتراءى للصليبيين فيما بعد أن البيزنطيين فقدوا على أرض المعركة ما اتخذوه من لقب حماة العالم النصراني، وبررت هذه المعركة ما جرى من تدخل الغرب الأوروبي؛ لأن بيزنطة لم يعد بوسعها حماية العالم النصراني في الشرق وأصبحت عاجزة عن أن تُلقي بجيش في المعركة لأعوام عديدة.

 

كما أن هذه المعركة مهدت الطريق ويسرت السبل للقضاء على سيطرة البيزنطيين على أكثر أجزاء منطقة آسيا الصغرى، مما ساعد على القضاء على الدولة البيزنطية نفسها، بعد ذلك على أيدي الأتراك العثمانيين.

 

 لقد حقَّق "ألب أرسلان" هدفه إذ كفل الحماية لجناح جيشه، وأزال خطر التقارب بين بيزنطة والفاطميين، وانصرف بعد ذلك لمواصلة القتال في إقليم ما وراء النهر حيث قضى نحبه عام (465ه)، ولم ينفذ ابنه وخليفته في الحكم "ملكشاه" إلى آسيا الصغرى، غير أن رعاياه من الأتراك اتخذوا من سهول وسط آسيا الصغرى، مراعى تنتجعها الأغنام، وعهد إلى ابن عمه سليمان بن قُتلمش بأن يستولي على هذا الإقليم لصالح الأقوام التركية، وقد قام سليمان بتأسيس سلطنة سلاجقة الروم في الأناضول وهم أول المسلمين اصطداماً بالحملات الصليبية سنة 489ه.

 

نهاية الأسد الباسل:

 

إن المرء ليعجب حقاً من خواتيم أبطال الإسلام وعظمائهم الذين خاضوا غمار الكثير من المعارك وطلبوا الموت من كل مظانه وتعرضوا له في جميع مواطنه ووقفوا له في كل سبيل طلباً للشهادة، ثم يأتيهم حمام الموت غدراً بيد عميل أو خائن أو طامع أو حاسد أو مأجور وهذا ما حدث للأسد الباسل وهو في ريعان شبابه 41 سنة، وهو في قمة ظفره وتمكنه وعلو شأنه حتى حاز بحق لقب سلطان العالم وسلطان الدنيا والدين.

 

وذلك عندما قام أحد الخارجين عليه واسمه "يوسف الخوارزمي"، وكان ممالئاً مع فرقة الباطنية الحشاشين بطعنه سكين مسموم، والسلطان يعاتبه على جرائم ارتكبها، لتنتهي هكذا في لحظة حياة هذا الأسد بطعنة غادر مجرم، ليهلل لموته كل أعداء الإسلام شرقاً وغرباً وتلتقط الدولة الفاطمية أنفاسها ويهدأ روعها بعدما أوشكت على السقوط والتهاوي تحت ضربات الأسد ولقد قتل الأسد "ألب أرسلان" في 10 ربيع الأول سنة 465 هجرية، وبمصرعه ظهرت الأطماع والشرور ورفع أعداء الإسلام رؤوسهم.

 

فرحم الله الأسد الباسل ورفع قدره في عليين، وأخلف على الأمة من هو مثله، يصنع صنيعه، ويفري فريه في أعداء الأمة.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات