تنمية ملكة الاستحضار

سليمان بن ناصر العبودي

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ومعنى الإفادة من المباحثة بين الأقران تحصيلا لملكة الاستحضار أشار إليه عدد من العلماء، فمن ذلك ما أشار إليه الرافعي -رحمه الله- في رسائله بقوله: "المناقشة من أنفع الوسائل في تثبيت المسائل في الذهن وقلما ينسى الإنسان مسألة ناقش فيها"، وأشار لهذا المعنى من قبل عمر بن عبدالعزيز --رحمه الله-- وأومأ إلى أثره على الاستحضار بقوله: "ما رأيت أحدا لاحى الرجال إلا أخذ بجوامع الكلم" قال يحيى بن مزين: "يريد بالملاحاة ههنا المخاوضة والمراجعة على وجه التعليم والتفهم والمذاكرة والمدارسة".

 

 

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

ظل التصور القديم للعالم بأنه صاحب الهدر المعلوماتي وأن أعلم أهل الأرض هم أكثرهم حفظا وأقدرهم على سرد المقطوعات الطويلة وهذِّها من بدايتها إلى نهايتها شعرا ونثرا..؛ ظل ذاك التصور مهيمنا على شغاف  القلب ومتوغلا في حنايا  النفس؛ وهو نتيجة لمعادلة صغيرة ومباشرة بأن  العلم هو كتب ونصوص فمن استوعبها حفظا فهو الأعلم بها، إلا أن هذا التصور السابق أمست تزاحمه نماذج أخرى بددت وهجه، وأخذت جذوع التوهمات حول حقائق  العلم تهتز وتسَّاقط أوراقها شيئا فشيئا مع كل نموذج جديد، فلا شكّ أن الحفظ من أهم أركان  العلم وأعظم وسائله، ولا يتصور أصلا أن يوجد عالم لم يتكئ على محفوظ يتأمل فيه وينفق منه متى شاء؛ إلا أن المفارقة حينما تجد اثنين يشتركان في الحفظ ويستويان في مقداره لكنهما يفترقان افتراقا هائلا في استثماره وتوظيفه عند الحاجة إليه؛ فكم من حافظ للقرآن لا يخرم منه حرفا، يعجز عن سرد بضع آيات صريحة في كفر المشركين مع غزارة النصوص وصراحتها في ذلك المقصد فهي لا تحتاج إلى مهارة استنباط أو دفع للتعارض أو جمع بين النصوص لاستخراج دلالة ضمنية من مجموعها؛ بينما ترى عالما جليلا كالشيخ ابن باز -رحمه الله- تستبق النصوص القرآنية إلى شفتيه استباقا كلما أراد أن يحاضر أو يجيب عن موضوع ما ويزيل بسرعة استحضاره للنص المطلوب ظلام جهل السائل كما يزيح الصبحُ عن الأفقِ إهابَ اللَّيل!

 

هذه المفارقة التي تلوح كثيرا في مجامعِ  العلم تقودنا إلى إبراز تمييز ذكره بعض  العلماء في كتب التراجم وأكثروا من الإشارةِ إليه، فحينما يريدون الإبانةَ عن علم العالم ويتغلغلون في سرد مميزاته كالحفظ والفقه وسعة الاطلاع على العلوم فإنهم يُردِفون ذلك أحيانا بالحديث عن مقدرته على الاستحضار واستثمار المحفوظ حين يحتاجه فيميزون الحافظَ من المستحضر، وأكثر من رأيته يشير لذلك ويعتني به هو الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في ما جمعه من تراجم في  كتابَيه (الدرر الكامنة) و(إنباء الغمر) فتجده يقول عن صاحب الترجمة مثلا: (كان كثير الاستحضار) أو (كان عجبا في الاستحضار) ونحوها، وربما عطف الاستحضار على الحفظ مغايرةً بينهما لا من باب عطف المثيل على مثيله كما سيتضح، وربما ذكر الاستحضار بدون الإشارة إلى الحفظ أو مقداره أساسا، فعلى سبيل المثال قال عن  ابن كثير: "كان كثير الاستحضار قليل النسيان جيد الفهم" وحينما ساق في إنباء الغَمْرِ ترجمتَه لشيخه العراقي ذكَرَ الهيثمي -رحمهما الله-، فوصف أحدَهما بالامتياز على الآخر بالحفظ وامتياز الآخر عليه بالاستحضار، فقال: "وصار الهيثمي لشدّة ممارسته أكثر استحضارا للمتون من شيخه حتى يظن من لا خبرة له أنه أحفظ منه" فابنُ حجر يرى أن العراقي أحفظ، والهيثمي أكثر استحضارا.

 

 

هناك وهم شائعٌ لدى بعض الناس وذلك بجعلهم الاستحضار فرعا عن الفهم وملازما له، ويجعلون ثمةَ تقابلا بين الحفاظ من جهة، والفقهاءِ المستحضرين من جهةٍ أخرى، فمن كان موصوفا بالفهم فهو مستحضرٌ دوما، وهذا ليس صحيحا بهذا الإطلاق، فلا شك أن عمق الفهم معين على الاستحضار، لكنه ليس ملازما له بالضرورة، وقد قال ابن حجر عن أحد فقهاء  الشافعية في وقته: "حفظ التنبيه في ثمانية أشهر، وحفظ كثيرا من المختصرات .. وكان قليل الاستحضار إلا أنه جيد الذهن حسن التصرف" فابن حجر --رحمه الله-- يصف هذا الفقيه الذي عاصره بكثرة المحفوظ وجودة الفهم وحسن التصرف إلا أنه رغم ذلك قليل الاستحضار لما يحفظه، فيظل لسانه رابضا معتقلا في الحنَك حين حاجته إلى الانطلاق!

 

وأنت إذا أجلت طرفك في المناظرات المنقولة في كتب أهل  العلم تجد أن المتناظرين في مسألة لا يشترط أنهما يتفاوتان في المعطيات  العلمية، وإنما كثيرا ما يقرأ أحدهما على الآخر دليلا -هو نصٌّ في المسألة- يشتركان في حفظه قبل التناظر لكنه يغيب في لجّة الموقف، وأصلُ هذه الظاهرة المألوفة يحصل لكل أحد مهما بلغ من متانة التأصيل وقوة الرسوخ، فينقطع عن  اللسانِ في لحظةٍ ما مددُ  القلب وتختفي عن ناظري المرء منارة الدليل فلا يراها مع شدة معرفته لها قبلُ، فإذا ذُكِّرَ المرءُ ذكَرَ وثابَ إلى الدليل، كما غابت آية (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..) وآية (إنك ميت وإنهم ميتون) عن فاروق الأمة في الموقف العصيب وأدركها حين تلاها الصديق -رضي الله عنهما- فقال: "ما شعرت أنها في كتاب الله" فالعلم الإنساني يحضر ويغيب كما يقول  ابن تيمية -رحمه الله- في توصيف نقص علم الإنسان: (وإن كان علمه في نفسه، فليس هو أمرا لازما للنفس لزوم الألوان للمتلونات، بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل، وقد ينساه ثم يذكره، فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخرى".

 

وليس الشأن في الحديث عن طبيعة هذه الظاهرة وكونها جبلَّةً لعلم الإنسان، لكن الحديثَ هنا في هذه المقالة العابرة عن قدرة الإنسان على تجاوز قدرٍ ولو يسيرا من هذه الجِبِلَّة بتقنيات سأشير إلى بعضها، لكني أود أن أسترسل قليلا في إيراد بعض النماذج التي تكشف بجلاء تفاوت الناس في الاستحضار مع اشتراكهم في الحفظ وقد أوردتُ مثالا لاستحضار الآيات، فسأورد مثالا لاستحضار الحديث، ثم مثالا لاستحضار أشعار العرب.

 

أما المثال الأول فقد وقفت امرأة على مجلس فيه أكابر المحدثين: يحيى بن معين وأبو خيثمة زهير بن حرب وخلف بن سالم وغيرهم.. فسمعتهم يقولون: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورواه فلان وما حدث به غير فلان.فسألتهم  المرأة عن الحائض تغسل  الموتى -وكانت غاسلة- فلم يجبها أحد منهم، وجعل بعضهم ينظر إلى بعض، وبينما هم كذلك إذ أقبل عليهم الإمام أبو ثور، فقيل لها: عليك بالرجل الـمُقبِل، فالتفتت إليه وقد دنا منها فسألته فقال: نعم تغسل الميت لحديث عثمان بن الأحنف عن القاسم عن  عائشة أن  النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: أما إن حيضتك ليست في يدك. ولقولها: كنت أفرق رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالماء وأنا حائض. قال أبو ثور: فإذا فرقت رأس الحي بالماء فالميت أولى به.

 

اللطيف في الخبرِ أن المحدِّثين الذين شهدوا هذه المحاورة بين أبي ثور و المرأة السائلة؛ قالوا على الفور عن الحديث الذي رواه أبو ثور: نعم رواه فلان، ونعرفه من طريق كذا، وخاضوا في الطرق والروايات، فقالت  المرأة متعجبةً منهم: فأين كنتم إلى الآن؟!

 

وأما الثاني: فقد رأى  هارون الرشيد مرةً في بعض أسفاره نارًا تضطرم بالليل من بعيد، فقال لمن معه من علماء اللغة وهم الأصمعي والكسائي واليزيدي: أنشدوني في هذه  النار، وهؤلاء الثلاثة الذين سألهم الرشيد هم أقحاح اللغة وأوعيتها الكبرى في ذلك الزمان، فأنشد الأصمعيُّ عدةَ أبيات، ولم يذكر اليزيدي والكسائي في  الوقت شيئًا ولم ينبسا بشطر بيت؛ فلما فرغ الأصمعيُّ من إنشاده؛ قال اليزيدي والكسائي للرشيد: والله يا أمير المؤمنين: ما أنشدك شيئًا إلا وقد عرفناه، ولكنه أحضرُ ذِهنًا مِنَّا.

 

من أنعمَ النظر في النماذج السابقة فإنه لا ينازع في كون عامة النماذج المذكورة ليست متعلقة تعلُّقًا أوليَّا باستنباط المعاني الغائرة في بطون الأدلة، وإنما هي في مجملها نصوصُ الأدلة، وقد راعيتُ ذلك في انتخاب النماذج؛ لأن الاستنباط قدر زائد على الاستحضار، والاستنباط هو استحضار مركّب من استذكار الدليل والدلالة، وإن كان يراعى أن مخرجاتِ  العلم لا يمكن أن تكون ثمرة خصلةٍ واحدةٍ من خصالِه كالاستحضار أو الحفظ أو الفهم أو الاستنباط، لكن تغلب على بعض المواقف خصلةٌ على أخرى، وليس المراد بهذا الاستحضار هو استحضار ألفاظ النصوص وإن كان ذلك أكمل صور الاستحضار، وإنما يتضمن حديثنا هنا استحضار الألفاظ والمعاني.

 

وقد أجَلْتُ بصري في الكثير مما كتب في هذا الموضوع ووجدت أن البحر الذي تصب فيه أنهار الحلول المطروحة له جانبان: أما الأول فهو مساءلة المادَّة المُدخَلة وتقليبها على وجوه مختلفة، وأما الثاني فهو تفعيل النظرة  الشاملة، وسنبحر على ضفافهما قليلا دون توغلٍ في الأعماق:

(1) مساءلة المادة المدخلة وتقليبها على وجوه مختلفة:

المعلومات التي يختزنها طالب  العلم أيام الطلب وأزمنة التحصيل هي مواد مصمَتة (خام)، وهي على سبيل المثال نصوص قرآنية، أو أحاديث كتاب أحكام، أو  قصائد مطوَّلة دخلت الذهن قطعةً واحدة، ودخولها بهذه الصورة يعرقل استثمارها عند الحاجة إليها ويجعلها غير قابلة للتجزئة والفرز والتفريق واستخراج النص المطلوب لحظة الاحتياج إليه ما لم تخضع لتقنية المساءلة الدائمة، وتتخذ هذه المساءلة أشكالا متعددة إما كثرة التأمل الذاتي للمعارف المختزنة في تلافيف العقل ومحاولة كشف النظائر وبيان الفروق كما يقول أبو عبدالله  ابن القيم--رحمه الله--: "وكلما اشتغل الفكر به؛ ازداد الشعور به والبصيرة فيه والتذكر له" والقراءة بلا تأمل ولا تفكر ولا إعمال للذهن هي مجرد إرهاق للعينين والرقبة، وإمَّا المباحثةُ للأقران ومدارستهم على ما سيأتي بيانه، والمحصَّل من تقنية المساءلة شحذُ الذهن ونفضُ الغبار الذي يسرع في التراكم فوق سطح المعارف إن ظلّت مطمورةً حبيسةَ الفؤاد؛ ثمة تحفّز عقلي يجده طالب  العلم زمن المدارسة  العلمية وتوثّب روحي لحظة التناظر بين الأقران بالمعارف، وهذه الحالة الانفعالية للنفس هي وحدها الملائمة لتمهيد طريق معبَّد تنثال منه المعارف من الذهن تِباعا عند الحاجة إليها لاحقا، بخلاف حال ذلك المنزوي حينما يقرأ ويحفظ باسترخاء تام في زاوية مكتبته فإنه كثيرا ما تبقى أرض معارفه بِكرا لم تشقّها معاول البحث والمساءلة؛ فربما انتهى إلى ما عبّر عنه ابن قاضي شهبة في كتابه طبقات  الشافعية عن حال أحدهم بأنه "كان في أول أمره ذكيا فطِنا، رأيتُ خطوط فضلاء ذلك العصر في طبقات السماع تصفه بالحفظ ونحوه من الصفات  العلمية، ولكن لما رأيناه لم يكن في الاستحضار ولا في التصرف بذاك فكأنه لما طال عمره استروح وغلبت عليه الكتابة فوقف ذهنه".

 وتأملْ التحليلَ الذي ذكره ابن قاضي شهبة بأن سبب ضمور الاستحضار: الاسترواحُ وغلبةُ الكتابة؛ فوقفَ الذهن! وسببُ الإفادة من المباحثات في الاستحضار -كما سبق- هو أن طالب  العلم يظل ساعة النقاش مسخرا جميع طاقته وموظفا كاملَ حواسِّه لاستذكار كل ما لديه قبل المباحثة ولضبط كل ما يقوله مُناظِرُه أثناءها ولتداركِ كل ما فاته بعدها، فهذا الجو المتحفز هو أكثر الأجواء قابلية لرفع مستوى الانتفاع بالمعارف المدخرة، وهذا متصل بما تذكره الخبرة الحديثة في مجال علم الذاكرة في ما يسمونه بــ(الموقف الانفعالي): بأن الأحداث والخبرات المشحونة انفعاليا (بانفعالات سلبية أو إيجابية) يسهل تذكرها أكثر من الخبرات التي لم ترافقها مثل هذه الانفعالات، وهو ما سماه بعض الباحثين في هذا المجال بـ (الذاكرة الانفعالية).

 

ومعنى الإفادة من المباحثة بين الأقران تحصيلا لملكة الاستحضار أشار إليه عدد من  العلماء، فمن ذلك ما أشار إليه الرافعي -رحمه الله- في رسائله بقوله: "المناقشة من أنفع الوسائل في تثبيت المسائل في الذهن وقلما ينسى الإنسان مسألة ناقش فيها"، وأشار لهذا المعنى من قبل عمر بن عبدالعزيز --رحمه الله-- وأومأ إلى أثره على الاستحضار بقوله: "ما رأيت أحدا لاحى الرجال إلا أخذ بجوامع الكلم" قال يحيى بن مزين: "يريد بالملاحاة ههنا المخاوضة والمراجعة على وجه التعليم والتفهم والمذاكرة والمدارسة".

 

حينما يريد أحد الكتابة عن ملكة الاستحضار ووسائل تنميتها، فإنه لا يستطيع أن يغيب عن ذهنه تلك الظاهرة التيمية المذهلة في الاستحضار التي بهرت علماء القرن السابع والثامن وطفقوا يتفننون في تصويرها ونقلها إلى القرون الآتية بعبارات تفيض إعجابا وانبهارا واندهاشا، وإذا أردت أن تقارب تصور تلك الظاهرة فتذكر أن الذين نقلوها بإعجاب تامٍّ هم أئمة الحفظ وفطاحلة العلوم، ويعنينا في هذا المقال أن ننقل ما يتعلق بملكة الاستحضار؛ فيقول الذهبي في ذكر استحضار  ابن تيمية للنصوص القرآنية: "وله في استحضار الآيات من القرآن وقت إقامة الدليل بها على المسألة قوة عجيبة"، وقد اجتمع ب ابن تيمية العلامة  الشافعي المتفنن أبي الفتح ابن دقيق العيد فسُئِلَ عنه بعد اجتماعه به كيف رأيته؟ فقال: "رأيت رجلاً سائر العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء منها ويترك ما شاء"، لا ريبَ أن وراء هذه الاستحضار المبهر ذاكرة وقَّادة ومواهب جبليَّة، لكني شديد الاحتفالِ بسببٍ يلحّ عليَّ كلما تذكرت هذه الإطراءاتِ العريضة؛ إنَّ معارف أبي العباس -رحمه الله- لم تكن يوما حبيسة فؤاد ساكن، وأسيرة مكتبة معزولة، ولم تكن مرتبطة بقاعة أكاديمية مغلقة، أو ببحث ت رقية جانبي، أو بدرس أسبوعي محكوم الفقرات والسؤالات، وإنما مذْ طرَّ شاربُ الصبي الحرَّاني إلى أن وخَطَه الشيب شيخا للإسلام ومعارفُه تتعرض لمعاول الاستخراج الدائمة والمباحثة المستمرَّة، لم يقتصر ذلك على زمن كهولته بل حتى زمن اليفاعة كما يقول عن مناظرته للمتكلمين أيام صباه: "وأذكر أني قلت مرةً لبعض من كان ينتصر لهم من المشغوفين بهم - وأنا إذ ذاك صغير قَرِيبُ العهد من الاحتلام – كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل إمَّا فِي الدلائل وإما في المسائل" بل -وياللطافة- لم يقتصر في نزح معارفه على ساعات اليقظة؛ بل حتى حينما خلدَ للنوم استمر الصبي في مساءلة المعارف؛ كما يقول: "كنت أرى في منامي ابن سينا وأناظره، وأقول له: أنتم تزعمون أنكم عقلاء العالم وأذكياء الخلق، وتقولون مثل هذا الكلام الذي لا يقوله أضعف الناس عقلا.." إني لا أستطيع كلما قرأت مسيرته  العلمية إهدار هذا العامل الجوهري في تجويد معارف أبي العباس وجعلها على طرف الثمام يأتي بها كلما أرادها بصورة أدهشت الحفاظ والأئمة؛ لذا فحينما قال ابن دقيق العيد عن  ابن تيمية العبارة السالفة التي أوردتها؛ قيل له: فلم لا تتناظران؟ قال: لأنه يحب الكلام وأحب السكوت.

 

إن المرادَ بمساءلة المادَّة المدخلة تحويل المادَّة المصمتة إلى إجابات مجزَّأة قابلة للاستخراج عند الحاجة، فليست مقتصرةً على وسيلتي التأمل والمناظرة وإنما كل ما أفاد الطالبَ كثرة حرثِ المادّة وبعثِها، فقطوف الاستحضار تزداد نضجا ودنوَّا، ويمسي حال طالب  العلم بكثرة الممارسة كما يقول ابن حجر عن الهيثمي: "وصار كثير الاستحضار للمتون جدا لكثرة الممارسة".

 

أما ما يتعلق بتقليب المادة  العلمية على وجوه مختلفة فلأنَّ الطالب يُدخل المادة ابتداءً في سويداء قلبه قطعةً واحدةً، ومِنْ ثَمَّ تمسي أيسر طريقة عليه لاستخراج شاهد منها هي تلاوتها قطعةً واحدة، فإذا أراد أن يستشهد بالآية العاشرة من سورة النبأ اضطرَّ لتلاوة السورة من أوَّلها حتى يصل إلى محل الشاهد، وإذا همَّ بالاستشهاد بالبيت الثامن في باب الفاعل اضطر للإنشاد من أول الباب إلى أن يظفر ببغيته، وأفضل ما يعين على تجاوز هذه الظاهرة الطبيعية هو تقليب المادة  العلمية في الذهن على وجوه مختلفة، والتنويع في الإدخال على  القلب لتسهيل اختلاس الشاهد من خبايا الذهن لحظة احتياجه، ولهذا التقليب طرائق لا تحصى كثرةً، فمثلا لو تبارى مجموعة من الطلبة الحفاظ على استخراج آيات  الجنة في جزء ربع القرآن الأخير، أو آيات  الملائكة في القرآن، أو تسابق ثلَّة من حفاظ الزاد على سرد مسائل باب ما لا على ترتيب الماتن وإنما على ترتيب أدلة المسائل في الظهور مثلا، أو عمد حافظ المعلَّقات على استخراج أبيات متعلقة ببعض المواضيع نحو أبيات  الإيمان أو الشك بالبعث لدى شعراء المعلقات لكان لذلك أثره البين على ملكة الاستحضار لهذه الشواهد، وسيلحظ الحافظ ابتداءً نوعا من التعسر أثناء استخراج الشواهد كأنما هو يمشي في طريقٍ مستوعر مليء ب الحجارة ثم مع مضيّ  الوقت والاصطبار يتمرس الذهن على نزفِ المعارف، ومن طرائق تقليب المادة  العلمية على وجوه مختلفة حفظ الشواهد ضمن سياقاتها التداوليَّة؛ فمن الملاحظ أن حفظ أحاديث الأحكام من سياقاتها الفقهية يعين على ذكر الصورة والحكم والدليل معا، وكذا حفظ الشاهد اللغوي ضمن سياقه المرتبط بالشاهد والمناسبة يعين على تذكر ذلك كلِّه، وهذا أيضا ما تذكره الخبرة الحديثةوفق ما يسمى عندهم بمبدأ (الاقتران والاشتراط)  فالسياق الذي يجري فيه تعلم مادة ما يساعد في استحضارها واسترجاعها كاملةً، ومن الشواهد المجربة في ذلك ما فسره عبد الوهاب المسيري في تعليل قوة استحضاره لكونه دائما يضع (كل معلومةٍ أو حدثٍ داخل نمط؛ فاسترجاعه يكون سهلا).

 

ومن طرائق تقليب المادة  العلمية على وجوه مختلفة التي كان يفعلها بعض  العلماء: إيراد آية ثم تحفيز أذهان الطلبة واستفزازها لذكر كل ما يتعلق بها نحوا أو فقها أو تفسيرا، ولا تصلح هذه الطريقة النافعة في تنمية ملكة الاستحضار إلا بإزاء شيخ متمكن، وهي ما كان يفعلها الشيخ إبراهيم بن عبدالرحمن بن جماعة في تمرينه لطلابه، قال ابن حجر عنه: "ذكر لي القاضي جلال الدين البلقيني، أنه حضر دروسه، ووصفه بكثرة الاستحضار. قال: وكانت طريقته أنه يلقي الآية أو المسألة، فيتجاذب الطلبةُ القولَ في ذلك والبحث، وهو مُصْغ إليهم، إلى أن يتناهى ما عندهم، فيبتدئ فيقرر ما ذكروه، ثم يستدرك مَا لم يتعرضوا له، فيفيد غرائب وفوائد".

 

وتجد  العلماء من القرون الأولى لديهم عنايةً بمسألة استحضار  العلم ويتفنون في تقليب المادة  العلمية على وجوه مختلفة، فهذا الإمام  البخاري -رحمه الله- يورد في صحيحه في باب "قول الله تعالى تعرج  الملائكة والروح إليه وقوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب" حديثَ  الخوارج، فيبين الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أن الحديث جاء في بعض رواياته غير الرواية التي ذكرها  البخاري في الباب المذكور لفظة: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء" فقال الحافظ: "وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة لكنه جرى على عادته في إدخال الحديث في الباب للفظة تكون في بعض طرقه هي المناسبة لذلك الباب يشير إليها ويريد بذلك شحذ الأذهان والبعث على كثرة الاستحضار".

 

(2) تفعيل النظرة الكلية:

المعارف في كافة الحقول غزيرة التفاصيل كثيرة التشظِّي ولاسبيل للإحاطة بها كلِّها واستحضارها عند الحاجة إليها، فإن "الفروع لا حدَّ لها تنتهي إليه أبدا" كما يقولُ ابنُ عبدالبر في جامِعِه، لكنْ مِن نعم الله على الطالبين أن جعل لكل حقلٍ معرفيٍّ قواعدَ جامِعة تطوق أطرافه وتلمُّ شعثَه ولولا ذلك ما استطاع عالمٌ أن يصل إلى مبتغاه ويحصِّلَ مطلوبه، وقد أشار  العلماء كثيرا إلى أهمية الاعتناء بالقواعد الكلية توطئةً لاستحضار التفاصيل الكثيرة، كما يقول الزركشي: "إن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة, هي أوعى لحفظها, وأدعى لضبطها" وكما يقول أبو العباس  ابن تيمية: "لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل" وقد كان -رحمه الله- شديد الاحتفاء بالكليات وردّ الفروع الكثيرة إليها والتوكيد عليها في كل الفنون التي يتطرق إليها؛ كما يقول أحد الخبراء الكبار بكتبه وهو العالم عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- في ذكر أعظم مميزات كتب  ابن تيمية: "من أعظم ما فاقت به غيرها..الاعتناء بالتنبيه على القواعد الكلية, والأصول الجامعة, والضوابط المحيطة في كل فنٍّ من الفنون التي تكلم بها" وبالتالي فمن أساليب تحصيل ملكة النظرة الكلية هو كثرة القراءة والنظر في أمثال كتب  ابن تيمية، وستلاحظ مع مرور  الوقت أن الضوابط والقواعد لا تقتصر على ما يسميه  العلماء بالقواعد، نحو القواعد الفقهية وقواعد  التفسير وقواعد الصفات ونحوها -وإن كانت تدخل فيها أصالةً- وإنما لا تنتثر حبات الفروع في أي حقل إلا من خيط قاعدة كلية عَلِمها مَنْ عَلِمَها وجهِلها من جهِلها، والحاذق هو الذي يستعلي أثناء المطالعة عن الإغراق في جزئيات الأبواب بحثا عن القاعدة الناظِمَة، فإذا أمسك بها إما استنباطا ذاتيا خاضعا للاختبار والتجربة أو تنصيصا من أحد المحقِّقينَ؛ أصبحَ شديد الاحتفاءِ بها وبذل أغلب جهده أثناء التعلم والحفظ والمطالعة والاسترجاع في الارتكاز عليها، فيختصر على نفسه مسافات زمنية شاسعة، وكلما ارتحلتْ –لاحقا- من ذهنه التفاصيل المبعثرة اتكأ على الكلِّيَّات التي تمرس بها؛ فتصطفُّ الجزئيات في خاطره تِباعا.

 

فيكون لديه خلال النظر في المسائل عنايةٌ بالآيات التي هي أصول المسائل، وعنايةٌ بأحاديث الباب، وعنايةٌ بالقواعد الحاكمة، وإذا اشتغلَ بالفقه مثلا يكون لديه عناية فائقة بضوابط الأبواب تسهيلا لاستحضار الفروع التي لا تنتهي، والضوابط الفقهية أخصّ من القواعد الفقهية، كما يقول ابن نجيم في الفرق بين الضابط والقاعدة: (القاعدة تجمع فروعا من أبواب شتى، والضابط يجمعها من باب واحد) وذكَرَ لهذا أمثلةً.

 

وهذه النظرة الكلية المطلوبُ تفعيلُها ليست حكرا على مجال العلوم الشرعية فحتى الأطروحات الفكرية والشخصيات والكتب إن لم توضع أصولها المجملة وروافِدها ومحركاتها الداخلية في بضعة سطور -ولو ذهنيا- فإن جزئياتها الصغيرة تضمحلُّ وتتلاشى مع تتابع حوافر الزمن على الذهن، وقد رأيت أحد المتمرسين على تفعيل النظرة الكلية يستحضر مجمل الإشكاليات والتفاصيل والموارد والإضافات فيما يقرؤه في الحقل الفكري باستحضار مثير للاندهاش؛ هذا رغم شكواه الدائمة من ضعف ذاكرته، والسبب الذي أدركته لاحقا هو تمرُّسُه في تفعيل النظرة الكلية المحلِّقة فوق زحام التفاصيل الصغيرة، وتحصيل هذه النظرة الكلية نافع في استحضار حتى الجزئيات التي لم يطالعها الناظِر، وكما يقول  ابن القيم بأن "العالِم ينتبه للجزئيات بالقاعدة الكلية" وهو نافع أيضا في كشف التناقضات والانحيازات المضمرة في ثنايا الأطروحات لكن الذي يعنينا هنا هو أثرها في تنمية ملكة استحضار الفروع المنبثَّة.

 

وتفعيلا لتقنية النظرة الكلية المستعلية على تفاصيل هذا المقال فأقول -تذييلا ختاميا- بأن العالِمَ ليس هو في عدد ما حفظه من نصوص وما جرَده من معارف ولكن فيما انتفع بها منها مهما كانت قليلةً، وقد رأيتُ مَن يُذكر بغزارة الحفظ تَنِدُّ عن خاطره أجلى الشواهد، ومَن يحفظ قدرا يسيرا لكنه أحسنَ استثماره في كلّ مناسبة، وليس هذا تحفيزا على تقليل المحفوظ، وإنما القصد الحث على الانتفاع بما يملكه الإنسان كَثُرَ أم قلَّ،وبعض الناس يعتقد أن فكرة التحفيز على التَّقليل من المحفوظ هي فكرة معاصرة جاءت بها النظريات العصريَّة في التعلُّم، وأن الأقدمين لم يُحفظ عنهم إلا الحثّ على الاستكثار من الحفظ بينما تجد وصية مالك بن أنس لابني أخته أبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس حينما رآهما مُشتغلَينِ بعلم الحديث، فقال لهما: "أراكما تحبان هذا الشأن –جمع الحديث وسماعه- وتطلبانه" قالا: نعم. قال: "إن أحببتما أن تنتفعا به وينفع الله بكما فأقلَّا منه وتفقها".

 

وهذه ملكة الاستحضار هي أهمُّ الملكات التي ينبغي لطالب  العلم الاعتناء بتطويرها، فإنه  طلب العلم ليعرف الجواب حال الحاجة إليه، فإذا لم يستحضر الدليل أو لم يذكر المعلومة التي بين جنبيه؛ فاتتْ عليه الثمرة التي كان يرتجيها، وعليه أن يبادر لتنمية هذه الملكة كيلا يقف الذهن مع طولِ زمان الأخذ، وتذوي ملكات العقل تدريجيا، فهي بطبيعتها سريعة الركود والاسترواح، وكما يقول الجاحظ بأن العقل "أطول رقدة من  العين، وأحوج إلى الشحذ من السيف، وأفقر إلى التعاهد، وأسرع إلى التغير.."  ومن أعظم وسائل تنمية ملكته في استحضار المعارف أمران: أما الأول فهو مساءلة المادَّة المُدخَلة وتقليبها على وجوه مختلفة، وأما الثاني فهو تفعيل النظرة  الشاملة.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات