بوتين والفلاسفة الثلاثة: كيف نفهم عقلية القيصر الدموي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

بوتين السوفياتي القومي المتحمس لأمجاد الامبراطورية البائدة، وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه "أكبر كوارث القرن العشرين "، وهو يؤمن بذلك حقاً. وقد نذر حياته السياسية لتصحيح ما يعتبره تحولاً مخيفاً وغير عادل للأحداث، سببه، في رأيه، الغرب. وتكمن خطته البعيدة في استعادة الأصول الجيوسياسية التي فقدت مع انهيار الاتحاد السوفياتي والانتقام من القوى الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، بسبب ما يعتبره إذلالاً ومأساة تبعت ذلك.

 

 

 

في سنة 1991 وقف جورج بوش الأب في أروقة الأمم المتحدة متباهياً بالانتصار الكبير الذي حققه الغرب بقيادة الولايات المتحدة على المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، ومعلناً في نفس الوقت انتهاء حقبة الحرب الباردة وبداية عالم جديد ينفرد فيه الأمريكان بقيادة العالم، وذلك في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك أقاليمه الواسعة، وهو الحدث الذي اعتبره ضابط المخابرات الروسي وقتها " فلاديمير بوتين " أنه الكارثة الجيوسياسية الأكبر في تاريخ القرن العشرين، وأن المسئول عنها هو الغرب.

 

واليوم وبعد عقدين من انتهاء الحرب الباردة الصورة تغيرت إلى حد كبير، فالطائرات الروسية المقاتلة تخترق دفاعات حلف الناتو في الأجواء المحيطة من النرويج إلى البرتغال، والقرم تم احتلالها وإعادة ضمها للوطن الأم، وكذلك جزء من جورجيا، وتم التدخل في أوكرانيا ووقف إجراءات الغرب وترتيباته لضمها لمعسكره، وسوريا تم احتلالها وإحباط ثورتها الشعبية بكل وحشية، والأسطول الروسي توغل في شرق البحر المتوسط معيداً إجراءات الستينيات، واستحوذ جنون المكارثية على ساسة بوتين، ووصل التدخلات الروسية لمستوى التدخل في الانتخابات الأمريكية والتأثير في نتيجتها بعد إعلان الاستخبارات الفيدرالية عن امتلاكها لأدلة جدية تؤكد ضلوع روسيا في العبث بجداول الناخبين وقرصنة أجهزة التصويت.

 

حدة الانقلاب الروسي وهاجس التدخلات الروسية المتنامي أصاب المراقبين بحالة من الصدمة، بسبب تسارع وتيرة التدخلات، واصطباغ التدخلات الروسية في معظم الأحيان بنعرات الأيديولوجية السوفيتية البائدة، مما حداهم للبحث عن تفسيرات عن هذا التطور الكبير في سياسات روسيا التوسعية، ومحاولة قراءة عقلية بوتين لفهم تطورات الموقف الروسي حيال الأزمات الدولية والإقليمية.

 

بوتين والأيديولوجية البائدة:

لو أردنا أن نصف بوتين في سطر واحد فهو: "الزعيم الروسي الأكثر إيديولوجية منذ ستالين، وسياسته الخارجية متأثرة جداً باقتناعات راسخة بقدر روسيا وعلاقاتها مع الغرب ومهمتها التاريخية ".

 

ليس من الحقيقي أن حاكم موسكو القوي "بوتين" يريد إحياء الإمبراطورية السّوفييتية وتجديد التركة الستالينية ! بل أنه يقدم نفسه قيصراً روسياً تقليدياً يريد إنقاذ "الحضارة المسيحية الأصيلة"، التي فرط فيها الغرب "المنحط" فكرياً وأخلاقياً لتنكره لجذوره الدينية، وذلك تحت قيادة الولايات المتحدة للعالم الغربي . والحقبة الليبرالية القصيرة التي مرت بها روسيا بعد نهاية الحرب الباردة (في عهد الرئيس السابق بوريس يلتسين) قد انتهت، وأن روسيا البوتينية قد عادت إلى حقبة الرسالة الأيديولوجية بمرتكزات قومية ومنظور كوني.

 

بوتين السوفياتي القومي المتحمس لأمجاد الامبراطورية البائدة، وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه "أكبر كوارث القرن العشرين "، وهو يؤمن بذلك حقاً. وقد نذر حياته السياسية لتصحيح ما يعتبره تحولاً مخيفاً وغير عادل للأحداث، سببه، في رأيه، الغرب. وتكمن خطته البعيدة في استعادة الأصول الجيوسياسية التي فقدت مع انهيار الاتحاد السوفياتي والانتقام من القوى الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، بسبب ما يعتبره إذلالاً ومأساة تبعت ذلك.

 

بوتين ليس مجرد لاعب بلا رحمة في الساحة الدولية، أو منشغل بالسلطة والمال، أو حالم بإعادة روسيا الى المسرح الدولي، بل بات قائداً يركز اهتمامه على الأفكار الخلاقة . بوتين أضحى مقتنعاً بأن الليبرالية مرض معد، وأن قيم مجتمعات أوروبا الغربية ومؤسساتها المختلفة تمثل تهديداً حقيقياً للمجتمع والدولة الروسيين، وهو ما يجعله يتطلع بشغف ونوستالجيا إلى مرحلة ما قبل 1914، عندما كانت روسيا دولة أوتوقراطية، لا يستقبل الثوار أو يشجع على الثورات.

 

فبوتين يعتبر الثورة في أوكرانيا تعبيراً عن كل شيء خاطئ ومشوش في أوروبا، بما فيه تجاهلها المتعمد لطموحات روسيا الجيوسياسية، ولهذا فهو على أتم الاستعداد للتضحية حتى بمصالح البلاد الاقتصادية، وعن روسيا كجزء من أوروبا، مبينا أنه لا يبدو مستعداً لخوض اللعبة وفق القواعد الأوروبية، وهو لا يخاف العزلة التي يهدده بها الأميركيون والأوروبيون، بل بالعكس، هو يبحث عنها ويريدها. وبالجملة فإن سياسة بوتين الخارجية ستستمر أولاً في رفض القيم الحداثية الأوروبية، كما سيعمل بلا كلل من أجل رسم حدود جديدة بين أوروبا والعالم الأوروبي.

 

التحول الروسي بدا تدريجياً منذ بداية دخول الرئيس بوتين للمشهد السياسي (سنة 2000)، واتضحت معالمه في السنوات الأخيرة، وقد عكسه بقوة خطاب بوتين إلى البرلمان الروسي في ديسمبر 2013 عندما تحدث لأول مرة بصراحة عن فلسفة الدولة الرسمية التي أطلق عليها النزعة المحافظة الروسية، وهي الخيار المطروح عالمياً مقابل النموذج الحداثي الغربي، وفي خطابه المذكور، اعتبر بوتين أن النزعة المحافظة الروسية ليست مناوئة لقيم التقدم، ولكنها تعتبر أن التحول ليس خيراً بذاته، ولذا لا بد أن يستند إلى معين أصيل من القيم الثابتة التي تحمي الأمة من الضياع والفوضى.

 

 الفلاسفة الثلاثة وتأسيس عقلية بوتين:

النزعة التي شكلت العقلية البوتينية ترتكز إلى ثلاثة مكونات هي: عقيدة محافظة تقليدية لها خلفيات داخلية، ونظرية «الطريق الروسية» الموروثة عن القومية السلافية، ومشروع المستقبل الأوروأسيوي.

 

في المكون الأول، يلاحظ أن القيادة الروسية الجديدة أعادت الاعتبار للحقبة السوفييتية ليس من منظور أيديولوجي ماركسي، ولكن باعتبارها عكست في طابعها الإمبراطوري هوية المشروع التاريخي الروسي. والمرجع النظري الأهم الذي يستند إليه بوتين هنا، هو الفيلسوف الروسي «إيفان إيلين» المتوفى سنة 1954، وهو فيلسوف محافظ متخصص في فكر هيجل عرف بنزعته العدائية للديمقراطية الأوروبية التي طرح في مقابلها مسلك ما أسماه "الديكتاتورية الديمقراطية الوطنية" القائمة على قيم "المسؤولية والخدمة العمومية"، أي ما ترجمه بوتين بمقولة "الديمقراطية السيادية". و"إيلين" هو نفسه الذي أطلق العبارة الشهيرة حول الجيش الروسي، واصفاً إياه بأنه هو "مقوم وحدة الشعب الروسي والمعبر عن إرادة وشرف الدولة الروسية ".

 

ولقد كان إيفان إيلين المرجع النظري الأهم بالنسبة للرئيس الروسي، الذي استشهد بمقولاته مرارا في خطابه السنوي للمجلس الفيدرالي وكذلك في خطابه عن حالة الدولة.

 

ولرد الاعتبار لهذا الفيلسوف، قام بوتين بإعادة جثته من سويسرا، واستعادة أرشيفه من ولاية ميشيغان الأمريكية. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس الروسي، زار مرارا قبر إيلين المتواجد في موسكو، ووضع الزهور عليه.

 

اعتقد الفيلسوف إيفان إيلين أن الشخصية الفردية هي بطبعها شريرة. كما كان يرى أن الطبقات الوسطى والأحزاب السياسية والمجتمع المدني هي التي تمثل الشر، لأنها تشجع على تطوير شخصيات وراء هوية واحدة من المجتمع الوطني. ومن وجهة نظره فإن الغرض من السياسة هو التغلب على الأفكار الفردية، وإقامة مجموعات حية تمثل كامل المجتمع. وقد روج إيلين في كتاباته في سنوات العشرينات والثلاثينات، بعد طرده من الاتحاد السوفياتي، وعندما أصبح أحد أبرز منظري الحركة البيضاء الروسية المناهضة للبلشفية، على أن هتلر وموسوليني يعتبران من القادة المثالين الذين قاموا بإنقاذ أوروبا عن طريق حلّهم للديمقراطية.

 

وقد سلطت مقالته في سنة 1927، الضوء على "الفاشية الروسية"، مبرزا تأثره الشديد بإخوانه البيض، والفاشيين. وفي وقت لاحق، خلال الأربعينات والخمسينات، قدم إيلين الإضافة في كتابة الدستور الروسي المقدس ذو النزعة الفاشية والذي يحكمه "دكتاتور وطني" يستوحي أفكاره وسياساته من روح الأمة.

 

إيلين يعتبر الديمقراطية الغربية لوثة أضرت بالعالم كثيراً، وأن القائد لابد أن يكون مسئولا عن جميع وظائف الحكومة في دولة مركزية تماما ستعقد فيها الانتخابات، ويتم فيها التصويت، لكنها لن تكون إلا مجرد طقوس لدعم قائد الدولة، أي مجرد ديكور شكلي لا قيمة على الحقيقة، وهو ما بدا جلياً من الانتخابات الروسية خلال العشر سنوات الأخيرة . وفي المقابل تم اعتبار الروسيين الذين احتجوا على نتيجة الانتخابات الحاسمة كأعداء للوطنية. كما اعتبر عناصر المنظمات غير الحكومية، أنهم "عملاء أجانب" وهم من قاموا بتحريض هؤلاء الروسيين. حتى إن بوتين قد ادعى أن وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، هي من حرضت المعارضة الروسية للخروج إلى الشوارع والاحتجاج. وتجدر الإشارة إلى أن فكرة الدفاع عن الديمقراطية التي تعني خيانة روسيا، تتفق تماما مع وجهة نظر وفكر إيفان إيلين.

 

هذا بالنسبة للمكون الأول، أما بالنسبة للمكون الثاني وهو ما مسلك "الطريق الروسية"، فيبدو جلياً في دعوة بوتين المتكررة إلى الحفاظ على "القيم التقليدية الروسية" والدفاع عنها، في مقابل القيم الغربية . ومن هنا النظر إلى الحضارة الروسية في أفقها السلافي الذي يبعدها عن الغرب ويخولها رسالة كونية بوصفها "روما الثالثة". وفي هذا الباب، نشير إلى ـاثر بوتين بالفيلسوف الروسي «نيكولاس برديائيف» المتوفى سنة 1948، والذي كثيراً ما يستشهد به بوتين في حديثه عن الطبيعة الرسالية للحضارة الروسية والذي يلخصها في منطلقات ثلاثة هي: الطابع الإمبراطوري العضوي للدولة الروسية، وتأسس العقيدة الرسمية الروسية على فكرة العدالة الإلهية التي تخولها مهمة رسالية مقدسة خارج مجالها الإقليمي، والقيم المحافظة في ما يخص التصور العميق للفرد والأسرة والطبيعة ما يفصلها جذرياً عن الغرب.

 

أما بالنسبة للمكون الثالث وهو الحلم الأوروأسيوي، فهو من الأهداف الإستراتيجية المعلنة للرئيس بوتين الذي أعرب عن عزمه السعي لتحقيق فضاء أوروأسيوي مندمج يضم روسيا البيضاء وكازاخستان وأرمينيا.

 

والحلم الأوروأسيوي يعود في بنيته النظرية للفيلسوف الروسي "ليف جوميليف" المتوفى سنة 1992 ويعني به وجود مجال حضاري وإقليمي متجانس يضم روسيا وأسيا الوسطى، هو نمط من "القارة الثالثة". ووفق هذا التصور لا يمكن لروسيا أن تضمن مصالحها الحيوية وريادتها في العالم إلا بالتحول إلى "قوة أوروأسيوية" متحالفة بقوة مع العالمين الصيني والتركي. ولعل هذا الأمر يفسر – ولو نظرياً - التقارب الروسي الأخير مع كلا البلدين.

 

وبمناسبة بداية السنة الحالية، بعثت الرئاسة الروسية لكبار موظفي الدولة هدية العام الجديد، وكانت كتباً للفلاسفة الثلاثة المذكورين، تعبيراً عن عودة روسيا إلى الأيديولوجيا ولو من نافذة مختلفة نوعياً عن العقيدة الماركسية للدولة السوفييتية.

 

وإجمالاً، بوتين يعتبر شخصاً شديد الولع إلى حد الهوس بالأيديولوجيا الروسية في طورها القيصري، ومسكوناً بأحلام إمبراطورية توسعية، مع رغبة جامحة في الانتقام من الغرب وتخريب فخر الثقافة الغربية ؛ الديمقراطية، فبوتين ليس صانع صفقات ولا شخصاً واقعياً، إنه رجل تحركه مجموعة من الأفكار عبر عنها طوال عقد، وسلسلة من الأهداف يستعد لتحقيقها، ولو كان الغرب يرى في الإسلام أنه العدو الأخطر، فإن فريضة الوقت تقتضي منه أن يدرك أن بوتين هو العدو الذي يجب أن يحذر منه، لذلك من المرجح جداً أن نرى في العقد القادم حرباً عالمية تطال كل الأقاليم موضع النزاع ونقاط التماس بين الحضارتين المتصارعتين، والله أعلم.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات