اقتباس
وقد جاء عن التابعي الجليل عون بن عبدالله بن عتبة، قال: "بينا رجلٌ بمصرَ في بُستان ينكُث، فرفع رأسه، فإذا رجل قائم على رأسه بيده مِسحاةٌ، قال: فكأنه ازدراه، قال: فقال: بمَ تُحدِّث نفسَك؟ فسكتُّ، فقال: تُحدث نفسك بالدنيا؟ فإن الدنيا أجلٌ حاضر، يأكل منها البَرُّ والفاجر، أم بالآخرة؟ فإن الآخرة أجل صادق، يُفصل فيه بين الحق والباطل.
1- من رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمَّتِه أنه أخبرهم عما سيقع من أمور عظيمة؛ تثبيتًا لهم، وتقوية لعزائمهم؛ فإنه مَن فُوجئ بالمِحنِ من غير سابق عِلمٍ تَزَلْزَل.
2- تنزيل الأحاديث النبوية على الأحداث التفصيلية فيه خطورة بالغة، فينبغي التأني والحذرُ الشديد في هذا الموضوع؛ لأنه يُخشى أن يُستغلَّ من بعض الفئات الضالَّة، ويكفينا في هذا الباب الأحاديثُ العامة في الفتن.
نسأل الله أن يحفظَنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
3- البعد عن الأحاديث النبوية الواردة في الفتن سببٌ كبير من أسباب المصائب التي تقع في البلاد.
وأنصح بقراءة كتاب الفتن من صحيح البخاري؛ فإنه أفضلُ مَن عالجَ مثل هذا الموضوع الخطير.
4- قال النبي --صلى الله عليه وسلم--: "مِن حُسنِ إسلام المَرءِ تركُه ما لا يَعْنِيه".
قال الإمام مظفر القرميسيني -رحمه الله- وقد سُئل: ما خير ما أُعطيَ العبد؟
قال: "فراغ القلب عما لا يعنيه؛ ليتفرَّغَ إلى ما يعنيه"[1].
5- من كلمات النبوة العجيبة: ""وإعجاب كل ذي رأي برأيه"... انظر حولك وتأمل: تُرى كم عدد مَن ينجو من هذه الآفة!"[2].
وقلتُ: وهذه آفة العصر؛ بل تعدَّى الإعجاب بالرأي ليشملَ الإعجابَ بالمال، والولد، والثياب، والبيت، والمحلَّة، والبلد! نسأل الله العافية.
6- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أُوتيتُ جوامعَ الكَلِم، واختُصر لي الكلامُ اختصارًا".
هذا هو منهج النبوة، ليتنا طبَّقناه في العلم والتعليم، والبحث العلمي، وفي المجالس العامة والخاصة.
وقد قيل لأيوب السختياني: العلم اليوم أكثرُ أم أقل؟ فقال: "الكلام اليوم أكثر، والعلم كان قبل اليوم أكثر"[3].
7- الأدعية والأذكار النبوية لها أثر في الحفظ، وصدَق مَن قال: "... فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضلُ ما يتحرَّاه المتحرِّي من الذكر والدعاء، وسالكُها على سبيل أمان وسلامة، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبِّر عنها لسان، ولا يحيط بها إنسان.."[4].
8- إن أجملَ لحظة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي تلك اللحظة التي نطق فيها هذه الكلمات: "اللهم في الرفيق الأعلى"؛ فهي تُجسِّد حبَّه لمولاه، وشوقه للقائه، وصدق اللهُ القائل: ? وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ? [النساء: 69].
9- إن الحياة في الماضي كانت مثلَ جوفِ الليل في جماله وستره، واليوم فقدت الحياةُ جمالَها بمكرِ عدوِّنا، وإشعال الفتن والحروب في ديارنا؛ ولكن: ? وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ? [الأنفال: 30].
اللهم أَعِدِ البسمةَ إلى الوجوه، والأمن إلى الأوطان، يا خير مسؤول.
10- أهمية العبادة في زمن الفتن:
أخرج مسلمٌ في صحيحه عن مَعْقِل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ"، وفي رواية أحمد: "العبادة في الفتنة...".
وقد ورد تفسير الهرج في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُحدِّثنا أن بين يدي الساعةِ الهَرْجَ، قيل: وما الهرج؟ قال: "الكذب والقتل"، قالوا: أكثر مما نَقتُل الآن؟ قال: "إنه ليس بقتلِكم الكفار، ولكنه قتلُ بعضكم بعضًا؛ حتى يقتلَ الرجلُ جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه"، قالوا: سبحان الله! ومعنا عقولنا؟! قال: "لا، إلا أنه يُنزَعُ عقولُ أهلِ ذاك الزمان حتى يحسب أحدُكم أنه على شيءٍ، وليس على شيءٍ".
والذي نفس محمدٍ بيده، لقد خشيتُ أن تدركَني وإياكم تلك الأمورُ، وما أجد لي ولكم منها مخرجًا فيما عهِد إلينا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن نخرجَ منها كما دخلناها، لم نُحدِثْ فيها شيئًا"[5].
وفي رواية: قال أبو موسى: "والذي نفسي بيده، ما أجد لي ولكم منها مخرجًا، إن أدركتني وإياكم، إلا أن نخرج منها كما دخلنا فيها لم نُصِبْ منها دمًا ولا مالًا"[6].
وفي رواية: قالوا: وفينا كتاب الله؟ قال: "وفيكم كتاب الله"، قالوا: ومعنا عقولنا؟! قال: "إنه تُنتزع عقولُ عامة ذاكم الزمان، ويُخلفُ لها هَباءٌ من الناس، يحسبون أنهم على شيءٍ، وليسوا على شيءٍ"[7].
وفي رواية: "لا تقوم الساعةُ حتى يقتل الرجلُ جاره وأخاه وأباه"[8].
وفي رواية: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين يدي الساعة الهرج"، قلنا: وما الهرج؟ قال: "القتل القتل، حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وأباه"، قال: فرأينا مَن قتل أباه زمان الأزارقة[9].
وفي حديث عبدالله بن مسعود، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تكون فتنة، النائمُ فيها خيرٌ من المُضْطَجع، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الراكب، والراكب خير من المُجرِي، قتلاها كلها في النار"، قال: قلت: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: "ذلك أيام الهرج"، قلت: ومتى أيام الهرج؟ قال: "حين لا يأمن الرجلُ جليسَه"، قال: قلت: فما تأمرني إن أدركتُ ذلك؟ قال: "اكفُفْ نفسَك ويدك، وادخل دارك"، قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن دخل رجلٌ عليَّ داري؟ قال: "فادخل بيتك"، قال: قلت: أفرأيت إن دخل عليَّ بيتي؟ قال: "فادخل مسجدَك، واصنع هكذا - وقبض بيمينه على الكوع - وقل: ربي الله، حتى تموتَ على ذلك"[10].
قال الإمام ابن الجوزي: "الهرج: القتال والاختلاط، وإذا عمَّت الفتنُ اشتغلت القلوب، وإذا تعبَّد حينئذٍ مُتعبِّدٌ، دلَّ على قوة اشتغال قلبه بالله -عز وجل-؛ فيكثُر أجرُه"[11].
وقال الإمام ابن العربي: "وجه تمثيله بالهجرة أن الزمنَ الأول كان الناسُ يفِرُّون فيه من دارِ الكفر وأهله، إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعيَّن على المرء أن يفرَّ بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجُرَ أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة".
وقال الحافظ ابن رجب: "وسبب ذلك: أن الناس في زمن الفتن يتَّبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين؛ فيكون حالُهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد مِن بينهم مَن يتمسَّك بدينِه ويعبد ربَّه، ويتَّبع مراضيَه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا به، متَّبعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه".
11- ولهذا كان على المسلم في زمن المحن أن يتوجهَ إلى الله تعالى بالدعاء؛ لعله يَسْلَمُ من الوقوع فيما لا يحمد عقباه.
وقد جاء عن التابعي الجليل عون بن عبدالله بن عتبة، قال: "بينا رجلٌ بمصرَ في بُستان ينكُث، فرفع رأسه، فإذا رجل قائم على رأسه بيده مِسحاةٌ، قال: فكأنه ازدراه، قال: فقال: بمَ تُحدِّث نفسَك؟ فسكتُّ، فقال: تُحدث نفسك بالدنيا؟ فإن الدنيا أجلٌ حاضر، يأكل منها البَرُّ والفاجر، أم بالآخرة؟ فإن الآخرة أجل صادق، يُفصل فيه بين الحق والباطل.
قال: حتى ذكر أن لها مفاصلَ كمفاصلِ اللحم.
قال: فكأنه أعجبه قوله.
قال: كنت أحدث نفسي بما وقع في الناس، وذاك في فتنة ابن الزبير.
قال: فسل، مَن ذا الذي دعاه فلم يُجبْه، وسأله فلم يُعطِه، وتوكل عليه فلم يكفه، ووثِق به فلم يُنجِه؟
قال: فقلت: اللهم سلِّمني وسلِّم مني، قال: فتجلَّت الفتنة ولم يُصِب مني أحد"[12].
____
[1] حلية الأولياء؛ لأبي نعيم.
[2] د. عبدالحكيم الأنيس.
[3] المعرفة والتاريخ؛ للفسوي (2/ 232).
[4] مجموع الفتاوى 22/ 511.
[5] أخرجه أحمد في مسنده (32/ 408) (19636)، وقال الشيخ شعيب: "إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير أسيد بن المتشمس، فمن رجال ابن ماجه، وهو ثقة، إسماعيل: هو ابن علية، ويونس: هو ابن عبيد - وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 12 من طريق يزيد بن زريع، عن يونس بن عبيد، بهذا الإسناد، ولم يَسُقْ لفظه - وأخرجه ابن المبارك في مسنده (260) ، والبخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 12، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (17)، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" 1/ 226 من طريق مبارك بن فضالة، وقرن أبو الشيخ به أبا حرة، وأخرجه ابن أبي شيبة 15/ 105-106، والبخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 12 أيضًا، وابن ماجه (3959) من طريق عوف الأعرابي، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" كذلك من طريق قتادة، أربعتهم عن الحسن، به.
[6] مسند أحمد (32/ 241) (19492).
[7] ولفظ معمر بن راشد في جامعه (11/ 361).
[8] رواه البخاري في "الأدب المفرد" (118).
[9] رواه أبو يعلى (7234).
[10] مسند أحمد (7/ 316)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 301 - 302، وقال: رواه أبو داود باختصار، ورواه أحمد بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات، وفي الباب عن أبي هريرة عند البخاري (3601)، ومسلم (2886) بلفظ: "ستكون فِتَنٌ، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، مَن تشرَّف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأً فليَعُذْ بهِ"، وعن أبي بكرة عند مسلم (2887)، وعن سعد بن أبي وقاص تقدم برقم (1446) و(1609).
[11] كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 42).
[12] حلية الأولياء؛ لأبي نعيم (4/ 243).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم