الشمولية في التصور الإسلامي

محمد محمد بدري

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

إن منهاج الإسلام التغييري كامل وشامل، وليس مجرد مشروع للإصلاح الجزئي، وهو يقدم (الهداية) بشأن كل جانب من جوانب الإنسان، وكل ناحية من نواحي الحياة، ويهدف إلى إعادة بناء الفرد والأمة - بل والمجتمع البشري - بناء صحيحًا، أساسه إقامة العدل الرباني كما أراده الله أن يكون، لأن هذا العدل هو المفهوم الحقيقي لحضارة الإسلام.. حضارة الأمن والهداية.

 

 

 

تتنوع مقومات التصور الإسلامي وتتوزع، ثم تتضام وتتجمع لتكون (الكل) أي التصور الإسلامي. ويتمثل جمال هذا التصور - أول ما يتمثل - في شموليته، فهو شامل في تحديده للإطار العقيدي والسلوكي للإنسان.. وهو شامل في تناوله للأمور من جميع زواياها وأطرافها وجميع مقوماتها وأسبابها.. وهو شامل فلا يترك جزئية من جزئيات الحياة إلا ويكون له إزاءها تصور وحكم.

 

ومن هنا فالتصور الإسلامي تصور كامل، والشريعة الإسلامية شريعة شاملة، وقد أنزل الله هذه الشريعة "فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها، وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم، ولم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى بذلك حيث قال تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )"[1].

 

والمنهج الإسلامي بهذه الشمولية يتيح للبشرية أن ترتشف من سلسبيله العذب، ومن معينه الصافي ما يرويها على مدى الزمان والأيام.

 

إن المنهج الإسلامي انطلاقة للحياة على الأرض، وليس مجموعة من الكلمات والتعاليم التي تضمها الأوراق أو تتناقلها الشفاه!! بل هو منهج حياة شامل، بكل معاني الشمول.. في كل حركة، وكل خالجة وكل خطوة.. «ولا عمل يفرض، ولا حركة ولا سكون يدعى، إلا والشريعة عليه حاكمة أفرادًا وتركيبًا، بحيث لا يخرج عمل إنساني وقع في الماضي أو يقع في المستقبل، إلا وهو مأمور به أو منهي عنه»[2].

 

والمنهج الإسلامي وحدة لا تنفصم «يشمل الاعتقاد في الضمير، والتنظيم في الحياة - لا بدون تعارض بينهما - بل في ترابط وتداخل يعز فصله، لأنه حزمة واحدة في طبيعة هذا الدين، ولأن فصله هو تمزيق وإفساد لهذا الدين»[3].

 

ولذلك فإن الفكرة التي يقدمها هذا المنهج عن الحياة، لا تؤتي ثمارها في الواقع إلا إذا طبقت تطبيقًا كاملًا «فالإسلام دينًا: عقيدة وعبادة وسلوك.

عقيدة: جوهرها التوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة الشرك الظاهر أو الخفي.

وعبادة: جوهرها الصدق والامتثال والإخلاص.. والفرائض فيها ذات وظيفة اجتماعية في النهوض بالفرد والأمة.

وسلوك: وثيق الصلة بالعقيدة والعبادة، وكلما كانت العقيدة سليمة، والعبادة صحيحة، كان السلوك سويًا.

والإسلام دولة: لا تنفصل عن الإسلام دينًا، فهما صنوان يخرجان من أصل واحد»[4].

 

وكما أن الإسلام هو قاعدة الاعتقاد والعبادة، وقاعدة الخلق والسلوك، فإنه أيضًا قاعدة الحكم والنظام، وقاعدة النشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ومن ثم فهو الأصل الذي تنبثق عنه الدولة بتمامها «وليس كما تقدمه الجاهلية المتغربة - مجرد فرع يشكل مع فروع أخرى متعددة كيان الأمة.. كما أنه ليس كما تزعم هذه الجاهلية مجرد شأن من شئون المجتمع، مثل الشئون الاقتصادية والشئون الاجتماعية، والشئون السياسية.. وغيرها من الشؤون!!.

 

فليس الدين مجرد جانب من جوانب الحياة، أو محض حاجة جزئية من حاجات الإنسان الباحثة عن إشباع يتم داخل المسجد بالدعاء!!»[5].

 

إن التصور الإسلامي الصحيح ليس مقصورًا على العقيدة فحسب، وإنما هو أيضًا يبني المجتمع على صعيد الفرد والأسرة والجماعة، وينظم العلاقات التي تحكم (كل) هؤلاء على أساس من تلك العقيدة، «وليس التصور الإسلامي أجزاء وتفاريق يمكن تناول أي جزء منه - أو أي جانب من جوانبه - وحده، بعيدًا عن بقية الجوانب، لأن انفصال هذا الجزء - أو الجانب - يذهب بجماله.. بل يذهب بحقيقته»[6].

 

إن العلمانية المتغربة وقد أشربت في قلوبها مفاهيم الغرب الكاثوليكية عن الدين، تعرض الإسلام عرضًا لاهوتيًا لا علاقة له بشأن من شؤون الحياة.. وهذا يكشف (الجزئية) و(النظرة الأحادية) التي تتصف بها هذه العلمانية والتي تجعل تعاملها مع مشاكل الأمة يشوبه النقص والاضطراب.

 

إن الإسلام في معالجته لأية قضية من القضايا، أو أية مشكلة من المشاكل لا ينظر إلى جانب واحد من جوانبها، ولا يهتم ببعد واحد من أبعادها..

بل ينظر إليها من (كل) جوانبها، ويعالجها من (جميع) أبعادها.

 

ومن هنا، فإن منهج الإسلام هو المنهج الأمثل لإحياء الأمة الإسلامية، وقيادة حضارتها «وملء الثغرات التي حدثت في منظومتها الحضارية بفعل العلمانية المتغربة، وذلك لسببين:

الأول: إن هذا المنهج ليس بشريًا، إنما هو من عند الله، خالق الوجود وعالم الأسرار، عنايته تصل إلى كل ذرة من ذرات الوجود بما فيه ومن فيه.

 

والثاني: إنه منهج قائم على أساس (شمولية) مترابطة متوازنة.. وهو يحرك طاقات الإنسان كافة.. وفي الاتجاهات التي تتفق مع أصل تكوينها»[7].

 

فالإسلام بشموليته «يتوصل إلى استغلال (كل) طاقات الإنسان، بل يصل إلى الحد الأقصى لهذه الطاقات، ولذلك فإن استثمار الإسلام في عهده الأول للعدد القليل من المسلمين وقدرته على الوصول والاستفادة من الحد الأقصى لطاقاتهم صنع الأعاجيب في عالم الأرض، وأمام جحافل الغثاء من البشر الذين لم تستطع مناهجهم أن تستثمر طاقاتهم الفطرية المكنونة. فالكائن البشري هو الكائن البشري، ولكن النتيجة متباينة ومختلفة بين منهج الإسلام، ومنهج الناس»[8] منهج الإسلام الذي يعالج الإنسان معالجة شاملة متوازنة لا تغفل عن شيء، ومنهج الناس المحكوم بضعفهم وشهوتهم، فوق ما هو محكوم بقصورهم وجهلهم.

 

إن المنهج الإسلامي يتناول الأمور على نحو شامل - بكل معاني الشمولية - ويخاطب الكينونة الإنسانية بكل جوانبها، وبكل حاجاتها، وبكل اتجاهاتها، ومن ثم.. فهو يوجه نشاط الإنسان في كل مناحي الحياة.

 

أما المناهج الغربية والمتغربة التي تتصف بالجزئية وأحادية الجانب، فإنها تقوم على طغيان جانب من جوانب الإنسان على الآخر، وتُشتت نشاط الإنسان، وتضيع جهوده.

 

إن أمراض الأمة الإسلامية كثيرة، وهي تعاني في كثير من قطاعاتها من (الكساح) العقلي، و(التخلف) الفكري، و(القابلية) للاستذلال والقهر.. إلى غير ذلك من الأمراض، وقد حاولت الأمة أن تتداوى من هذه الأمراض، فجلب لها قادتها الدواء الغربي (العلمانية)!! ولكن حالة الأمة تسوء مع طول فترة العلاج؟!

 

إن جميع المخلصين من هذه الأمة يدركون أن النظرة الأحادية الساذجة، والتي تنظر بها العلمانية إلى مشكلات أمتنا، لا تصلح لتغيير واقع الأمة، وأنه لا بد لنا إذا أردنا أن نعالج حالة التخلف والضعف والفرقة في أمتنا، لا بد لنا من منهج تغييري له صفة (الشمولية)، ونحن لا نجد هذا المنهج التغييري الشامل إلا داخل نمطنا الإسلامي.

 

إن المنهج الإسلامي الشامل هو الطريق لعلاج أمراض أمتنا، وليست العلمانية التي تعالج مشاكلنا وأمراضنا بطريقة جزئية، وتدفعنا لأخذ (حبة) ضد التخلف، أو (قرص) يعالج من الاستذلال والقهر!!

 

إن الإسلام (ككل) يعالج أمراض أمتنا (ككل).. ولا يجوز أن نخدع فنظن أنه يمكن أن نعالج بـ(جزء) من الإسلام (كل) أمراض الأمة الإسلامية.

 

إن منهاج الإسلام التغييري كامل وشامل، وليس مجرد مشروع للإصلاح الجزئي، وهو يقدم (الهداية) بشأن كل جانب من جوانب الإنسان، وكل ناحية من نواحي الحياة، ويهدف إلى إعادة بناء الفرد والأمة - بل والمجتمع البشري - بناء صحيحًا، أساسه إقامة العدل الرباني كما أراده الله أن يكون، لأن هذا العدل هو المفهوم الحقيقي لحضارة الإسلام.. حضارة الأمن والهداية.

 

فالإسلام: إيمان يَعْمُر دنيا الناس.. وعقيدة تخلق حضارة.. وعبادة تربي أمة.

وبكلمة: يحتوي الإسلام على نظم وأحكام في كل ناحية من نواحي الحياة، ويعطي تصورًا شاملًا لعملية التغيير الحضاري. وهو نظام يختلف في طبيعته وفكرته عن الحياة، ووسائله في تصريفها، يختلف في هذا كله عن النظم الغربية العلمانية التي تتصف بالجزئية والنظرة الأحادية.

 

ومن هنا، فالإسلام يتعامل مع مشكلات الأمة الإسلامية بكل مناهجه الفكرية، وتربيته السلوكية، وتشريعاته الاقتصادية والسياسية.. إلخ، وكل (جزء) من الإسلام يعالج (جزءًا) من مشاكل الأمة، فـ(كل) الإسلام يعالج (كل) مشاكل الأمة.. ومن ثم يصل بالأمة - بل والمجتمع البشري - إلى حياة متوازنة وحضارة متكاملة تُعبر بصدق عن فطرة الإنسان وكيانه الشامل.

 

----

[1] الاعتصام - الشاطبي جـ2 ص 304.

[2] الموافقات - الشاطبي جـ 1 ص 41.

[3] خصائص التصور الإسلامي - سيد قطب ص 109.

[4] ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر - ص 56, 57.

[5] تطور الفكر السياسي في مصر - عبد الجواد ياسين ص 21.

[6] مقومات التصور الإسلامي - سيد قطب ص 41.

[7] المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري - د. محسن عبد الحميد ص 75.

[8] طريق البناء التربوي الإسلامي - د. عجيل النشمي ص 89.

 

المصدر: موقع الألوكة

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات