اقتباس
ومثل هذا التفقُّه ينمِّي المَلَكة ويزيد الاستعداد، ويقوِّي الذهن، وهو من مفاتيح تجديد الفقه وجعله مواكباً لحاجة الناس. وإن الملاحَظ الآن على واقع الفقه والفتوى هو البطء الشديد في الاستجابة للمتغيرات، حتى إن الفتوى لتصدر أحياناً بعد تغيُّر الوضع عما هو عليه إلى وضع جديد، وذلك لعدم المبادرة حين ظهور المشكلة أو النازلة، بل يؤخَّر الحكم والإفتاء حتى يتفاقم الوضع وتبدأ الاستجابات الخاطئة ولذا؛ فكثير من المسائل المستجدة هي الآن في حيِّز الفراغ الفقهي، وهذا بلا شك مؤدٍّ إلى زعزعة ثقة الناس بالتشريع.
الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه:
ذكرنا في موضوعنا السابق أننا سنتناول تباعاً، الإجراءات التي رسمها وطبقها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، رغم كل التحديات في حينه، ومنها كانت قاعدة انطلاق الأمة، ومن هذه الإجراءات: التهيئة والتأسيس، الاستشراف والتخطيط والبناء، واختيار المكان.
وقد تناولنا التهيئة والتأسيس، وفي هذا الموضوع نتناول الاستشراف لما له من الأهمية الكبيرة في حياة الأمم والدول والجماعات.
ثانيا: الاستشراف:
الاستشراف: كان استشراف الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمستقبل في كافة المجالات، في المجال التشريعي والاجتماعي والتربوي والدعوي والعسكري والسياسي والاقتصادي، وفي ذلك شواهد كثيرة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تتناول هذه المجالات، وعلى سبيل المثال لا الحصر تتناول الأمثلة في الاستشراف العسكري:
فقد توقع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن لا يجتمع الكفار بعد الأحزاب مثل هذا التجمع، بسبب الفشل الذي لحق بهم ومصير بني قريظة، فقال: "نغزوهم ولا يغزونا"
و في التخطيط: فقد أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرماة في يوم أحد أن لا يبرحوا أماكنهم فقال: "لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا" فقد توقع الرسول التفاف العدو من خلف الجبل، فشدد الوصية على الرماة.
وأما الاستشراف السياسي والاقتصادي:
فقد توقع الرسول -صلى الله عليه وسلم- نشوب الخلاف بين المسلمين على الحكم والخلافة، فوضع قاعدة ذهبية لضمان الاستقرار السياسي بقوله: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما".
وباقتصاد الفرد المسلم: فعندما أراد سعد بن أبي وقاص أن يوصي بجميع ماله منعه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قلت: فالشطر؟ قال: "لا، قلت: الثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيدهم"، فقد توقع الرسول -صلى الله عليه وسلم- الضرر على عائلة المورث فأمره أن لا يوصي بأكثر من الثلث، تفاديا للإضرار بهم.
والأمثلة كثيرة جداً سواء في الأحاديث النبوية الشريفة كذلك في القرآن الكريم.
نتكلم عن الاستشراف وأهميته في المنظور الاسلامي والذي تم أخذه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مجالات عدة منها فقه التوقع أو الفقه الافتراضي، وننقل من بعض البحوث في هذه المجالات.
تعريف الاستشراف:
الاستشراف لغة: مأخوذ من الفعل الثلاثي (شرف) والشين والراء والفاء أصل يدل على علو وارتفاع. فالشرف: العلو. والشريف: الرجل العالي. ويقال استشرفت الشيء، إِذا رفعت بصرك تنظر إليه. والمشرف: المكان تشرف عليه وتعلوه. ومشارف الأرض: أعاليها. واشتقاقه من الشرفة التي تشرف بها القصور، والجمع شُرف.
وفي (لسان العرب): تشرف الشيء واستشرفه: وضع يده على حاجبه كالذي يستظل من الشمس حتى يبصره ويستبينه، واسْتَشْرَفْتُ الشيء: إذا رفعت بصرك إليه وبسطت كفك فوق حاجبك كالذي يستظل من الشمس، وعن النبي: "سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ". وأصله من الشرف العلو، كأنه ينظر إلى موضع مرتفع فيكون أكثر لإدراكه، واستشرف فلان: رفع رأسه ينظر إلى شيء.
"والاستشراف: الانتصاب، واستشرفت الشيء إذا رفعت بصرك تنظر إليه وبسطت كفك فوق حاجبك كالذي يستظل من الشمس" [1].
وبالمحصلة، يرفع رأسه واضعاً يده فوق عينيه، ويقف على أصابع رجليه ويمد عنقه ويسدد بصره وهو تارة يقف وأخرى يرتاح، ذاك ما تعارف عليه الناس حال من يستشرف الطريق ويتطلع إلى ما ينتظر.
أما الاستشراف اصطلاحاً:
فلم أجد فيما اطلعت عليه من مراجع بهذا الشأن من ذكر تعريفاً اصطلح عليه أو يمكن أن يسمى تعريفاً اصطلاحياً، اللهم إلا أولئك الذين تخصصوا في الدراسات المستقبلية أشاروا إلى أن التطلع نحو صياغة المستقبل المراد هو هدفهم الذي يرجون الوصول إليه من خلال دراساتهم المستقبلية، وهنا يمكن أن نتشارك معهم في هذه الدراسة أن الاستشراف هو عبارة عن ذاك التطلع للمستقبل ومحاولة امتلاك الأدوات المناسبة والتي تعين على تحسين وتوضيح صورة المستقبل الذي ننشده.
وعليه فالاستشراف: تفقد وتأمل وتطلع، وهذا المعنى للاستشراف هو المراد هنا في موضوع البحث محل الدراسة، وهكذا فإن الاستشراف هنا يحمل في مضمونه اللغوي معاني النظر إلى شيء قادم من بعيد والتطلع إليه ومحاولة التعرف عليه واتخاذ أسباب التوصل إلى ذلك بدقة كالصعود إلى مكان مرتفع يتيح فرصة استطلاعه قبل وصوله، ولا يختلف الاستشراف في معناه الذي نقصده في هذه الدراسة عن تلك المعاني اللغوية بل إنه يدور في إطارها وينطلق منها فهو: استطلاع مبكر للمستقبل في ضوء معطيات الحاضر والتحديات المستقبلية التي تفرضها طبيعـة النمو والتحول والتطور والطموح. وهو إلقاء نظرة فاحصة على المستقبل بمنظار تتكون عدساته من عبق تجارب الماضي ونتائج وثمرات الحاضر ومؤشرات التطلع المستقبلي. إنـه عمليات علمية أساسها التخطيط وتستهدف حشد الطاقات وتوفير الإمكانات اللازمة وترشيد استخدامها لمواجهة أعباء المستقبل وتحقيق الغايات المرجوة والمتوقعة فيه[2].
يقول ادوارد كورنيش:
إن استقراء المستقبل والاستشراف هو مهارة يمكن أن نتعلمها، وبإمكان مثل هذه المهارة أن توفر لنا فوائد عظيمة أكثر من أي مهارة أخرى يمكننا اكتسابها.
فالاستقراء يمكّننا أن نتوقع العديد من المخاطر والفرص التي ستواجهنا في المستقبل، ويعطينا الوقت لنقرر ماذا نفعل قبل أن نصطدم بهذه المخاطر والفرص.
ويمكن للاستقراء أيضاً أن يساعدنا في بلورة أهداف طويلة المدى تكون ذات قيمة وقابلة للتحقيق، وفي صياغة استراتيجيات معقولة للوصول إلى تلك الأهداف.
ويقول كورنيش أيضاً: وفي العقود القليلة الأخيرة، تطور الاستقراء ليصبح مجموعة متكاملة من الآليات والمعارف، توضع كلها ضمن مصطلحات مثل (الاستشراف)، (المستقبلية)، (دراسات المستقبل)، إلخ ...[3].
وفي بحث للدكتور محمد عبد الفتاح الخطيب جامعة الإمارات، في ندوة الحديث واستشراف المستقبل بعنوان: (الائتمان على المستقبل في السنة النبوية) بدأه بقوله:
"إن المسلم من المنظور الحضاري الإسلامي، ليس مطالباً باستشراف المستقبل رؤية وتخطيطاً فقط، بل هو مؤتمن عليه أيضاً! ولعل في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِن قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فإن اسْتَطَاعَ ألا يَقُومَ حتى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ". خيرَ دليل على الشعور بالمسؤولية تجاه حركة المستقبل".
ويرى الدكتور الخطيب أن السنة النبوية تؤكد أن المسلم قادر على تشكيل مستقبله وامتداد فعله حتى بعد الموت! ومن ثم يضيف هذا المفهوم بعداً رابعاً في الفقه الحضاري، بعد: فقه النص، وفقه الواقع، وفقه تنزيل النص على الواقع، وهو فقه الائتمان على المستقبل.
ويخلص إلى أن الإسلام يملك منظومة قيمية ليست ضرورة لشهودنا الحضاري من جديد، بل وأيضاً، ضرورة لحداثة إنسانية جديدة، بعيداً عن الحداثة الغربية، وأزماتها، وتطرفها في التعامل مع الإنسان ومع الأشياء[4].
ويقول عبد الرحمن المصباحي وجماعته: "فقه التوقع: وفي مجال فقه التوقع، يرى الدكتور نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، أن فقه التوقع مبني على حق الفقهاء في تكوين نظرة عقلية تستشرف المستقبل قبل وقوعه وبناء الأحكام الفقهية اللازمة لهذا المستقبل، من خلال النظر في الواقع".
ويقول: التوقع هو قسم فقهي أصيل شديد الأهمية؛ لأن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ومن مهام الفقيه العمل على إظهار ذلك، ومن الضروري إذن أن يتوقع داخل عمله الاجتهادي أبعاد الحكم كلها، وجوانبه المختلفة من حيث ما يفضي إليه، وحال الناس في بيئاتهم المختلفة معه، وما سيؤول إليه الأمر في الأزمان القادمة، ففقه التوقع عملية استنباطية ذهنية تحمل الفقيه على تتبع مراد الشارع الحكيم من أحكامه، ليدرك أسرار التشريع فيحمل عليها ما استجد في دنيا الناس، ويراد به أمرين أساسيين:
الأول: وهو أمر واجب لا يستقيم الاجتهاد دونه وعلى الفقيه استشراف النظرة المستقبلية في مآلات اجتهاده، وأبعاد الحكم الذي يخرج به في ضوء نظرية المصالح والمفاسد بضوابطها الشرعية، فلابد أن يتوقع الفقيه أبعاد الحكم وجوانبه المختلفة وما يمكن أن يفضي إليه، وما سيؤول إليه الأمر في المستقبل، وينتج عن ذلك أن ما غلب على ظن الفقيه أنه سيؤدي مخالفة للأصول فلابد أن يدفع باسم رعاية المصالح، وهو يستلزم في ذاته دفع المفاسد[5].
الثاني: وهو الفقه الافتراضي الذي يفترض النازلة قبل وقوعها؛ ليضع لها ما يناسبها من الأحكام، ويبذل في سبيلها وسعه فتخف عليه وطأة الاجتهاد بعد نزولها، وقد اختلفت آراء المجتهدين في التعاطي مع هذا النوع من المسائل، ولكن مع ذلك فإن الأخذ بالفقه الافتراضي بمعناه السابق هو المرادف لفقه التوقع المطروح في الوقت الحالي. استحضار واستشراف.
ويضيف واصل: فقه التوقع قد يكون حديثاً في مصطلحه ولكنه قديم في معناه وقد استخدمه واضعو الفقه الإسلامي فتجاوز القياس لمراعاة العرف الخاص بالمجتمع وظهور ما سمي بـ(المسائل الفقهية) عند الأحناف هو نوع من أنواع فقه التوقع، والأمة اليوم في حاجة ماسة لإقرار هذا النوع من الفقه، خاصة أن استحضار الواقع واستشراف المستقبل في الفقه الإسلامي أمر ضروري، وليس مطلوباً من العلماء اليوم في ظل المستجدات العلمية المتلاحقة أن ينتظروا الأمر الجديد لكي يبنوا أحكامهم الفقهية عليه، بل المطلوب هو السعي لمعرفة هذه المستجدات والاستعداد لها بأحكام فقهية صالحة تخدم المجتمعات الإسلامية ولا تحرمها من المستجدات الحديثة، يقول: وأنا من المتحيزين لهذا الفقه وقد كتبت في السابق بحثاً أطلقت عليه مسمى (فقه المستحدثات) ودار معظمه حول العمليات الاقتصادية المتجددة وربطها بالأحكام الإسلامية، لذا فمن المؤكد أن هذا الفقه القديم المتجدد يعد آلية لخدمة المسلمين وتوجههم نحو الأحكام الفقهية الصحيحة ولا علاقة له بالتنجيم أو غيره كما يدعي البعض.
ويوضح واصل، أن فقه التوقع يأتي مكملاً لفقه المقاصد وفقه الواقع وفقه الموازنات وأدواته الاستنباطية تنطلق من الفقه الإسلامي ومن القرآن الكريم والسنة النبوية، فالقرآن الكريم مليء بالحديث عن المستقبل وهناك العديد من الأمور التي ذكرها القرآن وتم اكتشاف بعضها وسيتم اكتشاف الكثير منها في المستقبل[6].
وكل هذه الأمور والقضايا المستقبلية تستلزم وجود فقه التوقع واستنباط الأحكام الفقهية للقضايا المستقبلية من القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذا الفقه لا يعني مطلقاً تفريغ الأحكام الشرعية من قوالبها كما يتوهم البعض، فللنصوص التي جاء بها الشارع الحكيم ضوابط لفهمها ناقشها أئمة أصول الفقه، ولا يؤدي فقه التوقع دوره إلا بتضافر الجهود ذات العلاقة بالواقعة، فيؤدي المتخصصين من أطباء ومهندسين كلمتهم الفصل، ثم تعرض القضايا بتصوراتها مجتمعة من قبل الفقيه على النصوص الشرعية لينزل أحكامها على الواقع، وإن فقه التوقع له علاقة مباشرة بقاعدة سد الذرائع، خاصة أنه يعبر عن التوازن في المنح والمنع وضبطهما فقهياً وهما من خصائص الذرائع، وإن مآلات الأفعال تدخل في حقيقتها في سد الذرائع الذي يدخل في منع فعل يؤدي لحرام، فقد يكون الحكم حرامًا، لكن قد يؤدي تحريمه لمحرم أكبر، وقد يكون جائزًا، لكن يؤدي إلى محظور.... والفقيه عليه أن يعرف الواقع ليصل إلى المتوقع.
ولتأكيد عالمية الرسالة وعلى ذات النهج يسير الدكتور عبد المعطي بيومي العميد الأسبق لكلية أصول الدين بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية فيرى أن فقه التوقع ينطلق من تكييف واقع الأمة ومستقبلها واستنباط الأحكام الفقهية لها بشكل يجعلها قادرة على التعاطي مع كل جديد وفق أوامر ونواهي الشارع الحكيم، ويقول: هذا الفقه يأتي تطبيقاً عملياً لمبدأ عالمية الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان، وعلم أصول الفقه والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة تمثل منظومة مترابطة، والاجتهاد لا يمكن أن يعطي ثماره دون أن يجمع المجتهد أطرافها، ويأخذ بشروطها ومجامعها، كما اهتمت الجامعات في الوقت الحالي بالدراسات والأبحاث المستقبلية، فما العيب أن ينسحب هذا الأمر أيضاً على الفقه؟[7].
ثم يقول المصباحي: ويضيف بيومي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طبق التوقع وكان في معظم غزواته يعلم أمته كيفية التفكير للمستقبل وقراءة الأحداث، وخير دليل على ذلك ما حدث في غزوة الخندق عندما ضرب عليه الصلاة والسلام المعول للصخرة التي كسرت دونها المعاول، فلما ضرب الضربة الأولى وانهار ثلثها ككثيب من الرمل برقت بارقة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والله إن هذا لهو القصر الأبيض "قصر كسرى"، وقد أعطيت مفاتيحه"، وضرب الضربة الثانية فانهار الثلث الثاني ككثيب من الرمل، وبرقت بارقة فقال عليه الصلاة والسلام: "والله إن هذه للقصور الحمراء "قصور الشام"، وقد أعطيت مفاتيحها"، ثم ضرب الضربة الثالثة فانهار الثلث الباقي من الصخرة ككثيب من الرمل وقال: "والله إن هذه لأسوار صنعاء وقد أوتيت مفاتيحها"، وكان -صلى الله عليه وسلم- يتوقع أن هذا سوف يحدث فحدث بالفعل فيما بعد.
وهذه الأعمال علمنا فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نتوقع حدوث الشيء ثم نخطط له لاستشراف المستقبل، وأيضاً ذكر لنا القرآن الكريم العديد من المستجدات المستقبلية ومنها قصة سيدنا يوسف عندما توقع أن هناك سنوات عجاف فاستعدوا لها؛ ليتجاوزوا الأزمة قبل دخولها، وكل ذلك يؤكد أن فقه التوقع لاستشراف المستقبل والاستعداد له بالأحكام الشرعية المطلوبة[8].
ويتابع المصباحي القول: ويؤكد الدكتور محمد رأفت عثمان العميد الأسبق لكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر وعضو اللجنة الفقهية بمجمع البحوث الإسلامية، أن فقه التوقع هو نفسه الفقه الافتراضي الذي أسس له الإمام أبو حنيفة -رضي الله عنه-، وهذا الفقه ليس بدعة من فقهاء الحاضر، بل هو ما درج عليه العلماء والفقهاء قديماً وحديثاً، وهو من طبيعة البحث في المسائل الفقهية، ومن عمل المجامع الفقهية وبحث الفقهاء، كما أن البحث في الأمور المتوقعة المعقولة واستخراج الأحكام فيها وربطها بالأدلة الشرعية لا يعارضه أحد من علماء جميع المذاهب والمؤسسات الأكاديمية الشرعية والمجامع الفقهية في العالم الإسلامي. ويضيف عثمان أن المراد بفقه التوقع اجتهاد الفقيه في وضع الحكم الشرعي لما لم يقع بعد من الحوادث المتوقعة، وهو البحث في مسائل لم تحدث، وإنما يقدر حدوثها، وأن أصله في كتاب الله –تعالى- في مثل قول الله –تعالى-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)[النساء:35]، وفي السنة في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: "كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"، وكان حذيفة يسأل: فما أفعل إن أدركني ذلك؟ فكان يدله على ما يفعل، وهذا من افتراض ما قد يحصل والبحث عن حكمه، ونحن في حاجة ماسة اليوم إلى الأخذ بفقه التوقع وليس البعد عنه وإلقائه وراء ظهورنا خوفاً من الوقوع في دائرة الرجم بالغيب، فهذا النوع من الفقه ليس رجماً بالغيب وإنما محاولة لمجاراة الواقع واستشراف المستقبل وضبط ذلك كله بالقواعد الفقهية وهذا أمر لا شيء فيه بل حثنا القرآن الكريم والسنة النبوية على تطبيقه والأخذ به.
وقد بين الدكتور عبد الله بن بيه أن فقه التوقع كان يُسميه الأوائل بـ (فقه الترقب) ، وقال: فقه التوقع مصطلحٌ حديثٌ لم يكن معروفاً في المصطلحات الفقهية وإنما بعض الكتاب والباحثين أطلقوه إلا أنه في مضمونه صحيحٌ وقد أطلق بعض الأوائل عليه اسم الترقب أو ما أسموه بالمترقبات التي تشتمل على قاعدتين: الانعطافِ والانكشافِ، وقاعدة الانعطاف أن أمراً ما وقع فلما وقع رجع الحكم إلى بداية صيرورته التي أوصلته، أما الانكشاف فهو عبارة عن انكشاف للغيب وبالتالي هذا الانكشاف يجعل حكم التوقع المتفق على حكم ولو كان الفقيه قد ركب عليه أحكاماً، كمثل الحمل الزائف الذي أنفق الزوج فيه على مطلقته فظهر أنه كان حملاً غير صحيح إنما حمل زائف وانتفاخ فإنه يرجع عليها بالنفقة على طريقة الانكشاف، طبعاً هذه الأمور قد تكون غير مطلوبة بالنسبة للباحثين لكنها هامة؛ لأنها تلد فروعاً للذي يُنظر، والناس يُنَظِّرون كثيراً لكن لا يلد التنظير فرعاً فإذا كان لا يلد فرعاً فإنه غير مهم[9].
فقه التوقع يدور في قاعدة سد الذرائع وفي النظر في المآلات فيه سد الذرائع إلا أن سد الذرائع غالباً يكون ترقباً توقعاً لمفسدة فتسد الذريعة بتحريم المباح في الظاهر لما فيه من مفسدة، والنظر في المآلات أوسع من ذلك؛ لأنه تارة يكون لمفسدة (باب سد الذرائع ) وتارة يكون في مصلحة فيُباح المحظور أو المفسدة وهو ما يعبر عنه (بفتح الذرائع) ففقه التوقع إذن يرمي إلى كل هذه المعاني وهناك نوع آخر وهو ما يُسميه الغربيون بالفضول – بمعنى أن الفقيه يفترض افتراضاً وقد يطرح السائل عليه أو بعض طلاب العلم بعض القضايا التي لا وجود لها في الواقع المعاصر فيجيب على هذه القضايا التي قد يتوقع حدوثها وقد لا يتوقع حدوثها، وقد لا تحدث مطلقاً. وسيلة للتعامل واسترسل بن بيه فقال: لكن هناك افتراضات أخرى قد لا تقع أبداً لكن الفقهاء يفرعون عن الفضول أو ما يسمى (سعة الفقه) وليس هناك ما يسمى بالخيال العلمي عند العلماء مثل الكونيين ولكن هذا النوع يطلق عليه أيضاً أنه توقع وإن كان في الواقع قد يكون المتوقع فهو أمر افتراضي واختلف العلماء فمنهم من لا يرى ذلك كمالك -رحمه الله تعالى- فقد كان يكره الافتراض في مسألةٍ وكان كذلك بعض الصحابة ابن مسعود يقولون دعوه حتى يقع فهذا النوع أيضاً يكون داخلاً في المساحة التي يشملها فقه التوقع.
والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية الراجعة إلى الاجتهاد فهذا تعريف الفقه عند الأصوليين وبالتالي في مرحلة لاحقة عُرف الفقه بالتعريف المعروف للفقه، وهو وسيلة وليس فقهاً مستقلاً فهو وسيلة للتعامل مع وسائل الواقع، كما أن الواقع يعتبر عنصراً من عناصر إصدار الفتوى والنصوص الفقهية والحرية والواقع، وهنا الواقع كالمتوقع بمعنى أنه يصبح عنصراً في تشكيل الصورة كاملة فيكون الفقيه على بينة وعلى بصيرة من أمره، وبالتالي عليه أن يهتم بالتوقع كما يهتم بالواقع ليكون حكمه على أساس صحيح[10].
ويتابع المصباحي القول: يؤصل الدكتور هاني بن عبد الله الجبير القاضي بالمحكمة العامة بمكة فقه التوقع أو الفقه الارتيادي فيقول: الفقه: معرفة الأحكام الشرعية العملية، والفتوى: تبيين الحكم الشرعي، والإخبار به، بدون إلزام، والارتياد: الطلب، والقصد، والرائد: من يتقدّم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث. فهو يبصر لهم ما لا يبصرونه بأنفسهم، ويتقدمهم ليستطلع لهم الحال وينبئهم بما تكون عليه، وهذا المصطلح لا أعلم أحداً عرَّفه، ويمكن تعريفه بناء على ما سبق بأنّه: التعرّف على الأحكام الشرعية للمسائل التي يتوقع حصولها، أو تبيين الحكم الشرعي للمسائل التي يتوقع حصولها، ولقد تناول أهل العلم حكم الإفتاء والبحث في المسائل التي لم تقع، وتفاوتت أنظارهم في هذه القضيّة، وأضاف الجبير موضحاً مشروعية فقه التوقع فقال: الفقه الارتيادي فرد من أفراد المسائل التي لم تقع، والتي يراد ببحثها الاستعداد للعمل عند وقوعها، وقد جاءت شواهد من الشرع عليه؛ فمن ذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حكم حوادث قبل وقوعها؛ للعمل بها عند وقوعها، فعن رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: "قلت يا رسول الله! إنا نخاف أن نلقى العدو غداً، وليس معنا مُدَى، أفنذبح بالقصب؟ قال: "ما أنهر الدم وذُكِر اسم الله عليه فكُلْ، ما خلا السن والظفر". ومثل هذا التفقُّه ينمِّي المَلَكة ويزيد الاستعداد، ويقوِّي الذهن، وهو من مفاتيح تجديد الفقه وجعله مواكباً لحاجة الناس. وإن الملاحَظ الآن على واقع الفقه والفتوى هو البطء الشديد في الاستجابة للمتغيرات، حتى إن الفتوى لتصدر أحياناً بعد تغيُّر الوضع عما هو عليه إلى وضع جديد، وذلك لعدم المبادرة حين ظهور المشكلة أو النازلة، بل يؤخَّر الحكم والإفتاء حتى يتفاقم الوضع وتبدأ الاستجابات الخاطئة ولذا؛ فكثير من المسائل المستجدة هي الآن في حيِّز الفراغ الفقهي، وهذا بلا شك مؤدٍّ إلى زعزعة ثقة الناس بالتشريع[11].
وعدد غير قليل من الفتاوى والآراء الفقهية جاءت استجابة لأسئلة معينة أو أوضاع خاصّة لا تحمل التكامل المطلوب، ولا تعطي صورة حقيقية عن التشريع الإسلامي المواكب لجميع التطورات والتغيرات في الأزمنة والأمكنة، مع أن شأن الفقهاء كان مخالفاً لذلك، فقد فرضوا مسائل لم تقع أو لا يُتصور وقوعها أحياناً استيفاءً للتقييم العقلي، فكان في ذلك من إثراء الفقه وبيانه ما هو معروف. وأوضح الجبير طرقاً لمعرفة ما يجب البحث عنه وحددها بعدة نقاط فقال: "إذا تقرَّر أنَّ العناية ببحث الأحكام الشرعية المتوقع حصول مقتضياتها من نوازل تستجد أو أوضاع تتغير؛ مطلب متوجه؛ فإنّه يمكننا محاولة استطلاع ذلك والتعرف عليه من خلال عدة طرق، منها: الاطلاع على الدراسات المستقبلية في المجالات العلمية والتقنية وغيرها، ودراسة مسيرة وتوجُّه المجتمعات، وإعداد دراسات مستقبلية فقهية.
والفقه الارتيادي فقه يدرس الأمور المتوقعة، سواء كانت نوازل مستجدة، أو تغيرات تفرض تغيُّراً في الحكم الشرعي، وذلك استعداداً لها ليتلافى الفقيه والمفتي تأخير البيان عن وقت الحاجة [12].
المصدر: موقع رؤية.
-----------
[1] (عماد عبد الكريم خصاونة وخضر إبراهيم قزق، السنن الإلهية في القرآن الكريم ودورها في استشراف المستقبل، مجلة المنارة، المجلد 15، ال عدد2،2009م، ص 212 وما بعدها)
[2] (عماد عبد الكريم خصاونة وخضر إبراهيم قزق، السنن الإلهية في القرآن الكريم ودورها في استشراف المستقبل، مجلة المنارة، المجلد 15، ال عدد2،2009م، ص 212 وما بعدها)
[3] (إدوارد كورنيش، الاستشراف مناهج استكشاف المستقبل، ترجمة: د. حسن الشريف، الدار العربية للعلوم ناشرون ـ بيروت، ط/1، 1428هـ/2007م، ص 25).
[4] الخطيب د. محمد عبد الفتاح، بحث بعنوان: الائتمان على المستقبل في السنة النبوية، جامعة الإمارات، ندوة الحديث واستشراف المستقبل.
[5] (عبد الرحمن المصباحي -محمد سيد -تهاني السالم، من بحث: فقه التوقع. دعوة لاستشراف أحداث المستقبل ودرء للخلافات الفقهية، http://www.al-madina.com/node/225600/risala).
[6] (عبد الرحمن المصباحي -محمد سيد -تهاني السالم، من بحث: فقه التوقع. دعوة لاستشراف أحداث المستقبل ودرء للخلافات الفقهية، http://www.al-madina.com/node/225600/risala)
[7] (عبد الرحمن المصباحي -محمد سيد -تهاني السالم، من بحث: فقه التوقع. دعوة لاستشراف أحداث المستقبل ودرء للخلافات الفقهية، http://www.al-madina.com/nod
[8] (عبد الرحمن المصباحي -محمد سيد -تهاني السالم، من بحث: فقه التوقع. دعوة لاستشراف أحداث المستقبل ودرء للخلافات الفقهية، http://www.al-madina.com/node/225600/risala)
[9] (عبد الرحمن المصباحي -محمد سيد -تهاني السالم، من بحث: فقه التوقع. دعوة لاستشراف أحداث المستقبل ودرء للخلافات الفقهية، http://www.al-madina.com/node/225600/risala)
[10] (عبد الرحمن المصباحي -محمد سيد -تهاني السالم، من بحث: فقه التوقع. دعوة لاستشراف أحداث المستقبل ودرء للخلافات الفقهية، http://www.al-madina.com/node/225600/risala)
[11] (عبد الرحمن المصباحي -محمد سيد -تهاني السالم، من بحث: فقه التوقع. دعوة لاستشراف أحداث المستقبل ودرء للخلافات الفقهية، http://www.al-madina.com/node/225600/risala)
[12] (عبد الرحمن المصباحي -محمد سيد -تهاني السالم، من بحث: فقه التوقع. دعوة لاستشراف أحداث المستقبل ودرء للخلافات الفقهية، http://www.al-madina.com/node/225600/risala)
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم