فهم القلوب وفهم العقول

البهي الخولي

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ولسنا نقصد أنهم لا يفهمون، لأن عقولهم متبلدة، بل هم لا يفهمون لأن قلوبهم، وهي مركز الملكات الإلهية، معطلة عن الفهم، بما شغلها وألهاها... أجل، إن فهم هذه الرسالة وقبولها منوطان بيقظة الوجدان الإلهي في الإنسان، لا بالفهم العقلي والمنطق الذهني فقط... وإن العربي الذي تحسس للعقيدة، وبذل في سبيلها ما يملك، وآمن بها لدرجة الفناء فيها، ما فهمها وقبلها إلا لأنه ذو وجدان ذكي مرهف، وكيان عصبي فطري يقظ. ووعى روحي مهيأ لأمر الله...وما كان العقل وحده ليعشق الرسالة هذا العشق الذي استغرق مشاعره كلها، حتى أتى على حب الأوطان والآباء والأبناء...!.

 

 

 

 

 

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) [الأنعام:25].

 

1- فهم... وفهم:

الإسلام الحنيف هو الدعوة العالمية الكبرى، التي بُعث بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لتكون نظام الإنسانية الكامل، في حياتها الروحيَّة والماديَّة، في كل زمان ومكان... هذه قضية واضحة، بل حقيقة جلية كالشمس، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، يستعلن وضوحها في البصائر، حتى لتحتّل في كياننا محل الضرورة الفطرية،  أو البدهية، التي لا تحتاج إلى دليل... ولكنها مع هذا غامضة مبهمة لدى بعض المسلمين، حيث  تبدو له هذه الحقيقة مجموعة من الأفكار الصدئة، والنظم البالية، ويرى القائمين بها قطيعاً متخلفاً عن قافلة الإنسانية، لا يساير أسلوب الحضارة، ولا يلين لأوضاعها، فإذا أحسن أحدهم الظن فيك، ظنك متعصباً إسلامياً، طوَّعت له حماسته أن يغالي في قيمة الأشياء!...

 

هذان فهمان متناقضان لهذه الحقيقة: فهم يقبلها وقرها، وآخر ينكرها ويردها، فأي الفهمين أحق بالقبول والتقدير؟. ونريد أن لا نقطع بجواب الآن.. ونريد أن نقرر حقيقة مقطوعاً بها، هي أن: هؤلاء ليسوا أعظم منا ذكاء، ولسنا أقل منهم فطنة، فإذا فاقونا في هذا، أو فقناهم، فليس بالقدر الذي يفصل بيننا وبينهم، ويقيمنا وإياهم على طرفي هذا الفارق العظيم... ونريد أن نقرر حقيقة أخرى، هي أننا ـ ولله الحمد ـ بصدد المجاهدة لكي نحتفظ بمشاعرنا الإلهية حية يقظة... ولا نزعم أننا بلغنا الغاية من ذلك، ولكنا بصدد المجاهدة التي نحاول بها أن نكون بمنجاة من طغيان الموجة المادية على مشاعرنا الإلهية...

 

أما هم... فليسوا يدعون لأنفسهم مثل هذه المجاهدة، بل هم جد راضين إذ تغمرهم المدنية المادية بما تغمرهم به من حلو ومر، وخير وشر. وأنت بعد هذا جدير بأن  تعرف علة ما بيننا وبينهم من التناقض في فهم الحقيقة التي عرضناها آنفاً...

 

 2- محور الخلاف هذه النقطة هي محور الخلاف، ومركز التحول والافتراق... إن هؤلاء في حالة ركود روحي، طغى عليهم تيار مدنية المادة، فغمر مواهبهم الربانية، فأصابها بخدر أو جمود، وهيهات أن تصل إلى اقناعهم بمكان الإسلام، كعقيدة ونظام، مهما أوتيت جدلاً وعلماً، ما دمت تخاطب هذه الحاسة المعطلة فيهم، فتراهم يستمعون إليك وهم لا يفقهون، وينظرون إليك وهم لا يبصرون: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) [الأنعام:25].

 

ولسنا نقصد أنهم لا يفهمون، لأن عقولهم متبلدة، بل هم لا يفهمون لأن قلوبهم، وهي مركز الملكات الإلهية، معطلة عن الفهم، بما شغلها وألهاها... أجل، إن فهم هذه الرسالة وقبولها منوطان بيقظة الوجدان الإلهي في الإنسان، لا بالفهم العقلي والمنطق الذهني فقط...  وإن العربي الذي تحسس للعقيدة، وبذل في سبيلها ما يملك، وآمن بها لدرجة الفناء فيها، ما فهمها وقبلها إلا لأنه ذو وجدان ذكي مرهف، وكيان عصبي فطري يقظ. ووعى روحي مهيأ لأمر الله...وما كان العقل وحده ليعشق الرسالة هذا العشق الذي استغرق مشاعره كلها، حتى أتى على حب الأوطان والآباء والأبناء...!.

 

3- مادية الفكر والعاطفة: لقد ألحت المدنية الغربية على قلوب هؤلاء كما ألحت على قلوب أهلها بمتعها الحيوانية، وشهواتها الحسية، المطلقة من كل عنان المزينة بكل المغريات، وحجبت عنها جمال الربانية، حتى غدت غليظة قاسية، لا يتحرك هواها إلا للمادة وما يدور حولها، مما يراد به ترف البدن، و متعة الجوارح...!

 

 وألحت على عقولهم بطرق من البحث الآلي، الذي يقف عند ما تقرره المقاييس والمخابير، والموازين والمناظير، في معامل الكيمياء، وقاعات التجارب العلمية، دون أن يعترف بعد ذلك بما يقال إنه وراء المادة، بل يعده ضرباً من الهذر، الذي لا يجمل بالعقل أن يقف عليه...!.

 

وألحت كذلك بعلومها الجافة ومنطقها المادي، وت فكيرها الآلي، فلم يملك أحدهم إزاء هذا الالحاح ـ وهو منساق في  تيارها الجارف إلا أن يستسلم فاستسلم، وغلا أن يسلم بصدق ما تفرضه عليه من حياة قلبية وعقلية، فسلم... ولكن لا تسليم المكره، بل تسليم المقتنع الذي يرى بعينه المقدمات موصولة بنتائجها، والأسباب بمسبباتها، ويرى كل شيء في الأفق من حوله يوحي إليه ويقعنه بأنه في الوضع الطبيعي المعقول، حتى غدا آلياً في تفكيره، آلياً في عواطفه، هؤلاء قد سيطرت عليهم هذه الحضارة الصماء فألفوها، واشربتها قلوبهم، وأغرموا بأسلوب متعتها السهل وأطمأنوا في اعجاب إلى ثمرات تفكيرها، فلا يستطيع كلام من أفق غير هذا الأفق، أن يقتحم إلى قلوبهم وعواطفهم، ليمتزج بها، ويستقر فيها...

 

ولقد ساقهم تفكيرهم هذا المادي إلى ضرب خطر من الالحاد، فهم بإنكارهم ما وراء المادة قد رفضوا أن يعترفوا بجنة ونار، وبعث ونشور، وحساب وجزاء، وعذاب ونعيم، في القبر أو بعد القبر، فراحوا معه يظنون أن عمر الإنسان موقوت بهذه الأيام التي يقضيها في حياته الدنيا، وأن القبر إن هو إلا الخاتمة الموحشة لهذه الدنيا الناضرة الجميلة، فإن لم يبادر باغتنام أوسع ما يمكن من مغانهما، ومتعها، وشهواتها، ذهب محروماً إلى الفناء الأصم، حيث لا رجعة في زعمه، فأفزعه هذا المصير، وأقبل به على الشهوات العاجلة في نهم يشبه الجنون، لا دين يردعه، ولا أدب يحجزه، ولا يطيق أن يذاد عنها بنصيحة أو قانون!....

 

افترى هؤلاء، ومن أخذ أخذهم منا، خليقين أن يستمعوا إليك، ويقبلوا عليك، حين تتحدث إليهم بروح الرسالات السماوية؟ أترى في قلوبهم وعوطفهم، وحياتهم النفسية، متسعاً يتسع لما تدعو إليه؟ إنك في واد وهم في واد آخر، وهذا هو ما يباعد بينك وبينهم... (وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) [الإسراء:46].

 

ولا تظن أنهم لا يفهمون معنى القرآن، بل هم يفهمونه، ولكن بعقولهم، أما قلوبهم، فلا تسيغه ولا تقبله، وهذا هو المراد بفقه القلوب حين يرد في كتاب الله -عزَّ وجل-، فقد يسيغ كثير من هؤلاء أن تقول لهم: عن الله هو خالق هذا الكون، وهو الذي وهبك الحياة، وهو الحقيق منا على هذا بالشكر والثناء والتعظيم... وقد يسيغ هؤلاء أو بعضهم في أحسن حالهم أن تقول لهم: إن الإنسان جسم وروح، ويجب أن يكون للروح مطالبها كما للجسم مطالبه، وإن الإنسان الكامل هو الذي يقبل على ناحيتيه كلتيهما بالعدل في توزيع الحقوق، فلا يجور على إحداهما ليعطي الأخرى...! وقد يسيغون أن تقول لهم: إن رسالة تجيء لتحقيق هذا النظام عملياً لهي رسالة الحق الباقي، وقانون الوجود كله، وهي الرسالة التي تعصم الإنسانية من الزلل والشطط، ومن المسخ الذي يجلب عليها التخريب والتدمير والشقاء النفسي المجدب...

 

4- العقل المنطقي والعقل العاطفي: قد يسيعون ذلك كله، ولكنهم يسيغونه (بالعقل المنطقي) لا (بالعقل العاطفي) والعقل المنطقي يسيغ ما يسيغ في ركود وقبول سلبي، أما العاطفي فيسيغ ما يقبله في حرارة وحركة وقبول إيجابي. وإنما تحتاج الرسالة من الرسالات ـ حتى الأرضية منها ـ إلى أن تفهم على هذا الوجه الأخير، فالعقل العاطفي هو الذي يفتح لها آفاق النفس، ويصل بها إلى قرار الفطرة، ويمكن لها في حبات القلوب، ويسر  بها إلى الأعصاب يقظة وعزيمة، ويشيعها في الدماء نشاطاً وحيوية، فيصبغ صاحبها بصبغتها من جميع أقطاره الظاهرة والباطنة، فتبدو ألوانها في أعماله، وأقواله، وافكاره، ونواياه، و اتجاهاته، وعواطفه، وأهوائه، فإذا هي قد ملكته ولا يملكها، وسخرته لمشيئتها ولا يسخرها، فيحيا لها منفعلاً بخواطرها، غيوراً على حرمتها، مجاهداً لإعلاء مبادئها، باذلاً في سبيلها ماله وراحته ووقته، ومواهبه ودمه، ونفسه، سعيداً بذلك غاية السعادة، راضياً به تمام الرضا، وهذا الفهم هم المعروف لدى علماء التوحيد بأنه التصديق القلبي، وهيهات أن يؤتى العقل المنطقي هذه الثمرة الباهرة، والقوة القاهرة فالمسألة على هذا ليست مسألة الذهن الذي يفهم أو لا يفهم، والعقل الذي يصدق أو لا يصدق، إنما هي مسألة القلب الذي يرضى ما يقال أو يجحده، ويبش له أو  يرفضه:(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام:33].

 

والآن، نعود إلى تساؤلنا الذي طرحناه أول هذه الكلمة: أي الفهمين أحق بالقبول والتقدير؟ وما نظن أنا بحاجة إلى القول بأن الحق قد وضح، وأن أكثر هؤلاء المنكرين علينا لا ينكرون شيئاً ترده عقولهم، بل يعرضون عما تنكره قلوبهم وهذا شر ما يبتلى به إنسان من تناقض، وشر منه أنه يرضى به، ولا يسعى إلى تغييره!!.. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. -

 

المصدر: مجلة منبر الإسلام السنة 15 جمادى الآخرة 1377هـ، العدد 6.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات