الخطابة عند العرب في العصر الجاهلي

إسماعيل علي محمد

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وهكذا كانت الخَطابة في ذلك العصر على درجة كبيرة من التقدم والرقيّ لما ذكرنا من دواعٍ، أدت كذلك إلى تنوع أغراضها، وتباين موضوعاتها، فكانت خطب التحريض والإثارة على القتال، وخطب الصلح وفض المنازعات، وخطب الزواج، وخطب التهنئة والرثاء، وخطب المنافرات والمفاخرات، وخطب المشورة، والخطب الإصلاحية التي...

 

 

 

 

كان العرب في شبه الجزيرة العربية يعيشون في إطار قبائل متفرقة، لكل قبيلة من قبائلهم رئيسها،وسيادتها الخاصة بها، فلم تكن لهم حكومة تجمعهم، وكانوا يعيشون في صحراء قاحلة، وبيداء واسعة، وبيئة صعبة قاسية.

 

وكثيرا ما كانت تنشب الحروب بينهم والغارات، وتحدث العداوات والمنازعات، وكان يعقبها صلح ووئام، كما كانوا يتفاخرون بالأحساب والأنساب والمآثر، وتحاول كل قبيلة أن ترفع بين القبائل ذكرَها، وتعليَ من قدر نفسها أمام غيرها.

 

كما كان العرب يقومون بإيفاد الوفود عنهم لتهنئه أو لتعزية.

 

وقد كانوا يتشاورون فيما بينهم لعقد أمر أو فضّه، كما كان الحال في دار الندوة إذ ذاك في مكة، وقد كانوا أُولِي غيرة، وذوي مروءة ونجدة.

 

كما كانت تتفشى فيهم بعض العادات القبيحة مثل وأد البنات خشية الفقر والإملاق، بينما كان منهم من يعارض مثل هذه العادات القبيحة ويستهجنها ويحاربها، ويدعو إلى التنزه عنها، والتخلص منها.

 

وهكذا كانت حال العرب وطبيعة بيئتهم وظروفهم مشجعة على الخَطابة، ومثيرة لها، بالإضافة إلى ما كانوا يتمتعون به إلى حد بعيد من حرية التعبير عن آرائهم، وما كانوا يتحلون به من شجاعة وإقدام، وما كانوا يتصفون به من البلاغة والفصاحة، والتمكن من ناصية اللغة، حيث كانت اللغة طيِّعة لهم، مثرية لكلامهم، ومزينة لأدبهم.

 

كل هذا ونحوه أسهم في إنعاش الخَطابة عند العرب في الجاهلية، وجعل لها مكانا في حياتهم ومكانة، ودعت إليها الحاجة، وتعددت أغراضها، وكثرت مناسباتها، وتباروا فيها، وتفننوا في إلقائها، وتسابقوا في تحسينها وتجويدها، واشتهر منهم خطباء كثيرون.

 

"وأشهر خطبائهم في هذا العصر قُسُّ[1] بنُ ساعدةَ الإياديُّ، وعمرو بن كلثوم التغلبيُّ، وأكثمُ بن صيفيِّ التميميُّ، والحارث بن عباد البكري، وقيس ابن زهير العبسي، وعمر بن معد يكرب الزبيدي" [2].

 

ولقد كان لكل قبيلة شاعر وخطيب، وكانت منزلة الشعراء في الجاهلية مقدمة على الخطباء، ثم تأخروا عن الخطباء فيما بعد، و قد ذكر الجاحظ عن أبى عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيّد عليهم مآثرهم، ويفخّم شأنهم، ويهوّل على عدوهم ومَن غزاهم، ويهيّب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعرُ غيرهم فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر [3].

 

وكانت خطبهم على ضربين: منها الطوال ومنها القصار، وقد وُجد أن عدد القصار أكثر، لأن رواة العلم إلى حفظها أسرع [4].

 

وكان خطباء العرب يلجؤون إلى الإشارة بأيديهم وأعناقهم وحواجبهم، وأحيانا بالعصيّ [5]، وكانوا يجلسون في خطب النكاح، ويقومون في خطب الصلح، وكلِّ ما دخل في باب الحَمَالة، وأكّد شأنَ المخالفة، وحقق حرمة المجاورة، وكانوا يخطبون على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار [6].

 

وقد قيل إن أول من خطب على العصا والراحلة قُسُّ بن ساعدة الإيادي، وأنه أول من أظهر التوحيد بمكة وما حولها مع ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل، وأنه أول من قال أما بعد، وقال بعضهم إن أول من قال أما بعد هو داود عليه السلام [7]، وكانوا يحبون من الخطيب أن يكون حسن الشارة جهير الصوت، سليم المنطق، ثبت الجنان [8].

 

وهكذا كانت الخَطابة في ذلك العصر على درجة كبيرة من التقدم والرقيّ لما ذكرنا من دواعٍ، أدت كذلك إلى تنوع أغراضها، وتباين موضوعاتها، فكانت خطب التحريض والإثارة على القتال، وخطب الصلح وفض المنازعات، وخطب الزواج، وخطب التهنئة والرثاء، وخطب المنافرات والمفاخرات، وخطب المشورة، والخطب الإصلاحية التي كانت تتسم بطابع الوعظ.. إلى غير ذلك من الأغراض.

 

نماذج من خطب ذلك العصر:

أ- خطبة كعب بن لؤيّ:

قال ابن كثير- رحمه الله-: روى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة عن محمد بن طلحة التيمي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة قال: كان كعب بن لؤيّ يجمع قومه يوم الجمعة، وكانت قريش تسميه العَرُوبَة، فيخطبهم، فيقول: أما بعد: فاسمعوا وتعلموا، وافهموا واعلموا، ليل ساج [9]، ونهار ضاح [10]، والأرض مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأولون كالآخرين، والأنثى والذكر، والروح وما يهيج إلي بِلي [11]، فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمّروا أموالكم، فهل رأيتم من هالك رجع؟ أو ميت نُشر؟ الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون، حَرَمُكم زيِّنوه وعظِّموه، وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، ثم يقول:

نهار وليل كل يوم بحادث

سواء علينا ليلها ونهارها

يؤوبان بالأحداث حتى تأوّبا

وبالنعم الضافي علينا ستورها

على غفلة يأتي النبي محمد

فيخبر أخبارًا صدوق خبيرها

 

ثم يقول: والله لو كنت فيها ذا سمع وبصر، ويد ورجل؛ لتنصَّبتُ [12] فيها تنصُّب الجمل، ولأرْقلتُ [13] بها إرقال العَجِلِ، ثم يقول:

ياليتني شاهدا نجواء دعوته *** حين العشيرة تبغي الحق خذلانا

 

قال: وكان بين موت كعب بن لؤي ومبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسمائة عام وستون سنة [14].

 

وهذه الخطبة تطلعنا على بعض ملامح الأسلوب الخطابي في ذلك العصر، حيث يتبين فيها، روعة اللفظ وقصر الجملة مع تمام الإفادة من ناحية المعنى، والاقتباس الشعري، كما يتبين منها أنها لغرض النصح والإرشاد الديني، حيث يذكرهم بفناء الدنيا، ويحثهم على التحلي بمكارم الأخلاق، وتعظيم الحَرَم وما يتعلق به من شعائر، والإشارة إلى ظهور النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولعل هذا راجع إلى وجود بقايا من دين إبراهيم -عليه السلام- لديهم، وإلى تأثرهم فكرياً ببعض أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي -صلى الله عليه وسلم- من خلال كتبهم التي بشرت به عليه الصلاة والسلام، كما يتبين كذلك أنها لم تكن من الخطب الطوال.

 

ب- خطبة أبي طالب في زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من خديجة:

الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع [15] إسماعيل، وضِئْضِىِء [16] معدّ، وعنصر مُضَر، وجعلنا حَضَنَة بيته، وسُوَّاسَ حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجاً وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به، فإن كان في قُلٍّ [17]؛ فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمدٌ مَن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها الصداق ما آجله وعاجله من مالي، وهو بعد هذا والله له نبأ عظيم وخطر جليل [18].

 

________

[1] ضبطه بضم القاف عليُّ بنُ هبةِ اللهِ بنِ أبي نصر بنِ ماكولا، في كتابه (الإكمال)، باب قَسّ وقُسّ وقُشّ. دار الكتب العلمية. بيروت. ط الأولى 1411هـ.

[2] تاريخ الأدب العربي. أحمد حسن الزيات. ص 20. دار نهضة مصر. القاهرة.

[3] البيان والتبيين 1 /241.

[4] البيان والتبيين 2 /7

[5] السابق 3 /116 بتصرف.

[6] السابق 3 /6 - 7 بتصرف.

[7] راجع الأوائل لأبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري. ص 44 - 450 دار الكتب العلمية. بيروت. ط الأولي 1407 هـ 1987م.

[8] تاريخ الأدب العربي ص 20، وراجع البيان والتبيين 1 /120 - 121.

[9] ساج سْوجًا وسوَاجًا وسَوَجانًا: جاء وذهب. المعجم الوسيط 1 /478.

[10] ضاح: أي بارز ظاهر. يراجع مادة ضحا في المعجم الوسيط 1 /555.

[11] أي: إلى فناء.

[12] نَصَب الشيء أقامه ورفعه، وناقة نَصْبَاء: مرتفعة الصدر، وتنصَّب مطاوع نَصَبَ، يقال نصَّبَه فتنصّبَ، ويقال: تنصَّب الطائر: ارتفع. المعجم الوسيط 2 /961، القاموس المحيط ص 177.

[13] أرْقَلَ في سيْرِه أسرع، وإلى كذا وفيه جدَّ وأسرع، والمِرْقَالُ: السريع أو الكثير الإرقال. المعجم الوسيط 1 /379.

[14] البداية والنهاية. الحافظ ابن كثير الدمشقي 2 /227 تحقيق د/أحمد أبو ملجم وآخرين. دار الريان للتراث. القاهرة. ط الأولي 1408 هـ 1988م.

[15] الزرع: الولد، القاموس المحيط ص 936.

[16] الضِّئْضِىُء: الأصلُ، يقال هو من ضِئْضِئٍ كريم، جمع ضَآضِيء. المعجم الوسيط 1 /552.

[17] القُلّ بالضم: القليل، ورجلٌ مُقِلٌّ وأقَلُّ: فقيرٌ وفيه بقية. القاموس المحيط ص 1356، ورجل قُلّ: فرد لا أحد له. المعجم الوسيط 2 /785.

[18] صفة الصفوة، أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي 1 /37. تحقيق إبراهيم رمضان، وسعيد اللحام. دار الكتب العلمية. بيروت. ط الأولى 1409هـ 1989م.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات